ماذا لو أنّ فرنسا احتفظت بمستعمراتها أو نوستالجيا الكولونيالية

في رواية "الحياة تتمرّد" لسلفان باتيو

Shutterstock
Shutterstock
تمثال للحاكم الفرنسي ماهي دي لا برودونيه

ماذا لو أنّ فرنسا احتفظت بمستعمراتها أو نوستالجيا الكولونيالية

يؤسّس الكاتب الفرنسي سلفان باتيو روايته الأحدث، "الحياة تتمرّد"، الصادرة عن دار "فلاماريون" 2024، تأسيسا افتراضيا، فيعود إلى فترة تاريخية تعتبر منعرجا مهمّا حدّد مستقبل فرنسا الاستعمارية ومستعمرات ما وراء البحار، خاصة الجزائر التي شكّلت الجوهرة التي جاهدت فرنسا طويلا للحفاظ عليها، وهي الحقبة التي أعقبت مباشرة إنزال النورماندي وعودة الحكومة الفرنسية المؤقتة من مهجرها بالجزائر إلى باريس، حيث شرعت مباشرة في تنفيذ برنامجها المتعلّق باستعادة شرعية الجمهورية الفرنسية بعد احتلالها من النازيين عام 1940، والذي تضمّن التزاما تعهّدت به على لسان شارل ديغول في ما عرف بـ"خطاب برازافيل"، الذي وعد فيه رعايا فرنسا في مستعمراتها وراء البحار، خاصة مسلمي الجزائر، بالجنسية والمواطنة الفرنسية الكاملة، مكافأة لمساندتهم للجمهورية الفرنسية في الحرب العالمية الثانية ضد القوات الألمانية، وهو الوعد الذي تضمّنه قانون "لمين غاي" الذي حمل اسم برلمانيّ سنغالي عام 1944، والذي بحسب مؤرّخي تلك الفترة كان محاكاة لقانون "كركلا" الروماني الذي أضفى صفة المواطن الروماني على جميع رعايا الإمبراطورية الرومانية بداية القرن الميلادي الثالث.

أن تصبح فرنسيا

افترض باتيو في روايته أن قانون "لمين غاي" بعد قبول الجمعية التأسيسية له وإدراجه في الدستور الفرنسي، طبّق بحذافيره تطبيقا سليما على عكس ما حدث في الواقع، حين أفرغ لاحقا من روحه ومحتواه حتى بات غير قابل للتطبيق. وهو افتراض تترتّب عليه مراجعة الحكومة الفرنسية لقوانينها "العنصرية" أو ما عرف وقتئذ بـ"قوانين السكان الأصليين" التي فرضتها على رعاياها في مستعمراتها خلف البحار، والتي تجعل من السكان الأصليين طبقة ثالثة بعد الفرنسيين والأوروبيين القادمين لاستيطان المستعمرات من مختلف دول القارة القديمة، مما يجعل منهم مواطنين فرنسيين شأنهم في ذلك شأن "الفرنسين الأقحاح" على حدّ تعبير اليمين الفرنسي، الذي يرى أنهم الوحيدون الممكن تمتعهم بكل الحقوق السياسية والاجتماعية دون غيرهم من الفرنسيين المتجنّسين حديثا أو الذين هم من أصول غير فرنسية.

يخلق باتيو في روايته واقعا موازيا أو بديلا، تنتقل فيه السلطة من فرنسا الباريسية إلى فرنسا السكان الأصليين

هكذا يخلق باتيو في روايته واقعا موازيا أو بديلا، تنتقل فيه السلطة من فرنسا الباريسية إلى فرنسا السكان الأصليين، ومن فرنسا الفرنسيين الأقحاح إلى فرنسا الهجينة، مقترحا أن تكون دولة اتحادية غير مركزية بستّ عواصم كبرى، ليجد القارئ نفسه أمام عملٍ يندرج ضمن ما يطلق عليه أيضا اليوتوبيا التاريخية التي تفترض وقوع ما لم يقع، وهو نوع سردي سبق أن منح الأدب أعمالا خالدة على غرار "المؤامرة ضد أميركا" للأميركي فيليب روث، التي تعدّ –نظرا لتمكنّه فيها من جميع النتائج المترتبة على افتراضه- ذروة ما يمكن أن يبلغه هذا النوع السردي القائم على سؤال فلسفي يرتبط ارتباطا وثيقا بالاحتمالات الممكنة لخيارات مستحيلة واقعيا: "ماذا لو...؟". سؤال طرحته رواية سلفان باتيو أيضا، رغبة في البحث عمّا يمكن أن تصبح عليه فرنسا ومستعمراتها لو فقط طبّق قانون "لمين غاي".

facebook
الكاتب الفرنسي سلفان باتيو

 ومثلما يقتضيه هذا النوع السرديّ، بنى صاحب "الحياة تتمرّد" عالما افترض فيه انتقال السلطة من المركز إلى الهامش. انتقال يبرره النمط الديمقراطي المعتمد في فرنسا القائم على مبدأ الغالبية، على عكس ما ترتب على تطبيق الإمبراطورية الرومانية لـ"قانون "كركلا" الذي، وإن أضفى صفة المواطن الروماني على جميع رعايا الإمبراطورية الرومانية سعيا لتحصيل روما لأكبر قدر ممكن من الضرائب، لم يسمح البتة بانتقال السلطة من روما إلى أي إقليم آخر بسبب طبيعة مؤسسات الإمبراطورية التشريعية والتنفيذية، المختلفة تماما عن تلك الموجودة في فرنسا.

الاشتياق إلى المستعمر

لا يتطرق سلفان باتيو في هذه الرواية إلى كل الاحتمالات المترتبة على افتراضه السردي، مفضلا التركيز على احتمال واحد هو المتعلّق بمستقبل فرنسا الأمّ التي بفضل تمكّنه من التاريخ، على اعتبار أنه مؤرّخ قبل كلّ شيء، تخيّل بتفاصيل ممعنة في الدقّة الاتحاد الفرنسيّ الجديد الذي كان في مقدور فرنسا الاستعمارية الانتقال إليه لو أحسنت الظن بقانون "لمين غاي".

انسياق باتيو إلى احتمال واحد من العشرات التي تترتّب على افتراضه، لا يبرّره شيء إلا الخلفية الفكرية المعروف بها، وهي التي تجعله مثقفا نوستالجيا للفترة الكولونيالية التي لا يعتبرها شرّا مطلقا، من دون أن يعني ذلك أنه من المدافعين عنها، فقد جاء عمله في سياق الأعمال الفرنكوفونية المهووسة بالكولونيالية والمعتنقة رؤية ترى أنه كان من الممكن أن يصبح الاستعمار الفرنسي منطلقا لتشكّل أمة جديدة بجغرافيا موحّدة لقارتين، تقوم على مبدأ الاختلاف والتنوع الثقافي، لو فقط أقدمت الإدارة الكولونيالية وقتئذ على خيارات غير التي أقدمت عليها، وهو تيار أدبي لا يرى فائدة من تقليب المواجع التاريخية على غرار ما تفعله رواية الذاكرة التي يمثلها ببراعة الفرنسي ماثيو بليتز، والداعية إلى مواجهة فرنسا اليوم لفرنسا الاستعمارية، في سبيل تخليص ضميرها بالاعتذار عمّا اقترفته في حق شعوب كثيرة من أعمال تنكيل وإبادة واستعباد دام بعضها أكثر من قرن.

قانون ولد ميّتا

لم تول الرواية عناية واهتماما حقيقيين بالمستعمرات التي افترض الكاتب أن تطبيق قانون "لمين غاي" لن يكون إلا في صالحها، بل يسوق الحدث تلو الآخر والتبرير بعد التبرير، ليقنع القارئ بقدرة "شاعرة سنغالية" على بلوغ سدة الرئاسة في فرنسا بناء -كما سبق الإشارة إليه- على البناء المؤسساتي في فرنسا، من دون أن ينشغل في أي مرحلة من مراحل السرد بموقف المستعمرات من قانون "لمين غاي"، وكأنه يحقن نصه بفكرة يبدو مقتنعا بها، وهي أن سكان هذه المستعمرات لن يكون ردّ فعلهم إزاء هذا القانون إلا القبول.

الواقع البديل الذي يقترحه باتيو يشوبه تجاهل للشخصية المستقلة لأصحاب الأرض، والتي بفضلها فقط تمكّنت من الحفاظ على هوّيتها

أظهر سلفان باتيو براعة سردية مذهلة في روايته "الحياة تتمرّد"، زادتها قوّة قدرته على الاسترسال في التفاصيل، بحيث خلق عالما بديلا يتماهى مع العالم الحقيقي، لكنه بالرغم مما يبعثه من دهشة صنعتها خلفية الكاتب التاريخية، لم يراع حقيقة أن الإندماجيين ممن كان سيسعدهم قانون "لمين غاي" لو أنه طبّق، لم يشكلوا في أي مرحلة من مراحل الوجود الفرنسيّ الاستيطاني صوتا عاليا أو جبهة مسيطرة في مختلف المستوطنات الفرنسية، مما يجعل هذا القانون ولد ميّتا حتى وإن لم تعمل الحكومات الفرنسية المتعاقبة على إفراغه من محتواه، فالواقع البديل الذي يقترحه سلفان باتيو يشوبه تجاهل للشخصية المستقلة لأصحاب الأرض، والتي بفضلها فقط تمكّنت من الحفاظ على هوّيتها واستقلال ثقافتها عن هويّة وثقافة المحتلّ، وهي حقيقة تاريخية يستحيل تجاهلها، تجعل حتى من العوالم البديلة المُفترض تشكّلها بالخيال فقط مستحيلة التشكل حتى في إطار تخييليّ صرف.

font change

مقالات ذات صلة