صراعات دوستويفسكي الروحية التي تقف وراء أعظم رواياته

كيف كان عملاق الأدب الروسي يفكر في الجريمة والعقاب؟

Shutterstock
Shutterstock
تمثال للكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي في موسكو

صراعات دوستويفسكي الروحية التي تقف وراء أعظم رواياته

في"الجريمة والعقاب"يتصور سفيدريجايلوف في حديثه مع راسكولنيكوف، الأبدية بوصفها حجرة مليئة بالدخان والعناكب، بينما كل ما هو أدبي وفني، يميل عموما في تصور الأبدية بالاتساع والرحابة اللانهائية، والمنافسة الأدبية تكون بشكل ما في نعومة الانتقال من الزمني المحدود إلى الأبدي غير المحدود. هناك تفسير لتصور سفيدريجايلوف هذا عن الأبدية، ينبع من أدب دوستويفسكي ذاته، وهو يرجع إلى المساحات الضيقة التي تتحرك فيها شخصياته، ففي مربّع سكني محدود، تعيش المرابية وشقيقتها غير بعيد من بيت مارميلادوف، وغرفة رسكولنيكوف، وقسم الشرطة، وبيت رازوميخين صديق راسكولنيكوف. ضيق الحيّز المكاني يحقق لدوستويفسكي أكبر قدر ممكن من الصدام الدرامي. يقول سفيدريجايلوف في نهاية حديثه مع راسكولنيكوف:هل تعلم أنني أسكن قريبا جدا منك.

تذكر ليزا كناب في كتابها "أبله دوستويفسكي" (1998)، أنه بسبب الديون كان هروب فيودور دوستويفسكي، هو وزوجته الشابة آنا غريغوريفنا، من بطرسبورغ في يوم الجمعة العظيمة من عام 1867، حتميا. كان الترتيب لقضاء بضعة أشهر في أوروبا، لكنهما لم يعودا إلا في عام 1871. دوستويفسكي يعيل بافيل الخامل المراهق ابن زوجته الأولى التي ماتت بالسل، ويعيل أيضا زوجة أخيه ميخائيل المتوفى فى 1864، وأبناءها، ويضيف ديون عائلة أخيه إلى ديونه، ويتعهد للدائنين بالسداد، ومؤقتا يُعرّض دوستويفسكي نفسه للشفقة والإهانة والمذلة. تعاني آنا غريغوريفنا في سويسرا من هجمات القمار والصرع وتدفق رواية "الأبله" على زوجها.

المثال الأعلى

كان رأي توماس مان في روايات دوستويفسكي كما أورده جورج ستاينر في كتابه "بين تولستوي ودوستويفسكي" (1995)، أنها "إنتاج حيوي، متدفق، زائد، قابل للانفجار في كل لحظاته دون تمهيد، هي روايات تفضح فائض الصحة الهائلة عند دوستويفسكي، وذلك بمفارقة تطويع المرض لأهداف أخرى".

الضمير الأخلاقي عند دوستويفسكي بحجم الكون، فهناك مكان في قلبه لكل من القاتل الأيديولوجي والمهرطق والمؤمن والعدمي

في كتاب"دوستويفسكي- حياته وأعماله" (1940)، ينقل هنري ترويا عبارة لدوستويفسكي من دفتر يومياته، تقول: "النموذج الأخلاقي، والمثل الأعلى عندي هو المسيح. وهنا أسأل، هل كان المسيح سليجأ إلى حرق الهراطقة؟ كلا. إذن هذا يعني أن حرق الهراطقة هو عبارة عن تصرف لا أخلاقي". يعلق ميخائيل باختين في كتابة "شعرية دوستويفسكي" (1984) على عبارة دوستويفسكي، بأنه يُفضّل أن يبقى مع الخطأ، مع المروق، ولكن دون التخلي عن المسيح. الضمير الأخلاقي عند دوستويفسكي بحجم الكون، فهناك مكان في قلبه لكل من القاتل الأيديولوجي، والقاتل الجنائي، والمهرطق والمؤمن والعدمي. إنه يذهب فجأة إلى الإله دون موعد مسبق، بمجموعة فوضوية غير منسجمة، طالبا الشفاعة لها، وينسى في حماسته، الشفاعة لذنوبه هو بالذات.  

تقول السيدة باناييف، صاحبة الصالون الأدبي الشهير في القرن التاسع عشر، عن دوستويفسكي الذي أحبها، ولم يصرّح لها بحبه، كما سجّل شيئا عن سيرتها إيغور فولغين في كتابه "التأرجح على الهاوية" (1995)، إنه "بسبب صغر سنه، وعصبيته، لم يكن يجيد التصرّف. كان يُعبِّر بغرور وتهور، عن ثقته في موهبته الأدبية، إلا أن التعبير يخرج منه غريبا، وكأنه لا يحتمل نجاح روايته الأولى 'الفقراء'، ولسوء حظ دوستويفسكي أن تورغينيف الشاب كان هناك أيضا، وكان موهوبا مثل دوستويفسكي، لكنه أكثر دراية بمناخ الصالونات الأدبية، وهو مناخ مسموم بالسخرية والنميمة".

wikipedia
دوستويفسكي

كان دوستويفسكي يائسا تماما، وقد دفعه جدال تورغينيف الخبيث إلى تبني أسخف الآراء، ووصلت السخرية إلى ذروتها عندما وصف تورغينيف شخصا ريفيا تعرّف اليه في إحدى المقاطعات، وكان وصف ذلك الشخص الذي يُعتقد أنه عبقري، ينطبق على دوستويفسكي الحاضر هنا وسط ارتباكه المؤثر، وقسوة تورغينيف أنه ترك لدوستويفسكي تحطيم الحاجز الهش بين الغياب والحضور. تحوَّل لون دوستويفسكي إلى ورقة بيضاء، وطار خارجا دون سماع نهاية قصة العبقري الريفي.

في مذكرات زوجة دوستويفسكي، آنا غريغوريفنا، نعرف أنها في العشرين من عمرها، في حين تجاوز دوستويفسكي الأربعين، إضافة إلى أن دوستويفسكي المريض يبدو أكبر من عمره الحقيقي. المعلومة تستدعي الشفقة. لن يراعي دوستويفسكي سقوط روحه الهائلة على آنا غريغورفينا منذ اللحظة الأولى. لم يكن يعي تماما طاقته الروحية، ولكن كان لا بد له أن يشعر بها، ويرى انعكاسها في عيون الآخرين. إن الانطباع الأول لكل مَنْ يُجري محادثة للمرة الأولى مع صاحب "الجريمة والعقاب"، هو الضيق النابع من نظرة عينيه. 

تنافس ومكانة

في رسالة من دوستويفسكي إلى أخيه ميخائيل يقول: "أعرف جيدا أنني أكتب بطريقة أسوأ من طريقة تورغينيف، ولكن ليس أسوأ بكثير، ولديّ أمل قوي بأنني سأتوصل إلى الكتابة بإتقان مثله، فلماذا إذن على الرغم من بؤسي والضائقة التي أعاني منها، ينبغي لي أن أقبل بـ100 روبل على الصفحة، بينما يحصل تورغينيف، الذي يملك مزارع يعمل فيها 2000 فلاح، على 400 روبل. إن فقري يرغمني على التسرع في الكتابة للحصول على النقود، وبالتالي فإن هذه الطريقة تخرّب أعمالي وتفسدها على الدوام".

الحكاية التالية ذكرها أندره جيد في كتابه "دوستويفسكي... محاضرات ومقالات" (1908)، ونصوغها هنا بشكل أكثر درامية، إذ كل مبالغة درامية، هي في صالح الاقتراب الحميم من دوستويفسكي. يُقْرع الجرس، يعلن قدوم فيودور دوستويفسكي. ماذا يريد؟ يدخل الغرفة، ويبدأ على الفور رواية قصته. تورغينيف يستمع إليه ذاهلا. ما دخله في هذا كله؟ لا شك أن الذي أمامه مجنون. يصمت دوستويفسكي أخيرا منتظرا من تورغينيف كلمة، أو إشارة. يُخيَّل إليه أن تورغينيف سيضمه بين ذراعيه، ويعانقه باكيا كما يحدث في رواياته، لكن بما أن شيئا من هذا لم يحدث، يقول: "سيد تورغينيف يجب أن أقول لك إن احتقاري لنفسي عظيم". ينتظر دوستويفسكي، فلا يحصد سوى الصمت. عندها لم يعد في وسعه احتمال تورغينيف، فيقول بغضب: "وأحتقرك أكثر، هذا كل ما أردتُ قوله".

  الانطباع الأول لكل مَنْ يُجري محادثة للمرة الأولى مع صاحب "الجريمة والعقاب"، هو الضيق النابع من نظرة عينيه

ربما كان دوستويفسكي يُعلِّق على احتضان تورغينيف له، الآمال العريضة، لتخليص الإنسانية من معاناتها. الاحتضان، السجود، الاعتراف. يسجد راسكولينكوف في "الجريمة والعقاب" أمام سونيا، قربانا لمعاناة الإنسانية، وفعل مثله الشيخ الفاضل زوسيما في "الإخوة كارامازوف" عندما سجد أمام المتهتك ديمتري كارامازوف. أخذ المخرج أندره تاركوفسكي عن دوستويفسكي، موضوع السجود، فهذا ألكسندر الكاتب بطل فيلم "القربان"، يسجد أمام الخادمة ماريا.

وفقا لدوستويفسكي، يبدو أن خطط رواياته كانت تبدأ باتفاق سري ذي طابع فاوستي، مفاده مطابقة وعي المؤلف بوعي البطل شيئا فشيئا، على دفعات، كما كان يقبض دوستويفسكي ماله على دفعات مقابل انتهائه من أجزاء رواية لا تزال ناقصة، وهذا يعني أن خطة المؤلف في عقله شديدة التجريد، وتتشكل معالمها فقط أثناء السرد، أثناء المضاعفة الوحشية للميلودراما المناسبة لأعمار أبطال مراهقين في العشرينات، يتمتعون بحرية مفرطة يستحيل معها التفكير في حدود وضعها المؤلف لهم، بل إن سخاء دوستويفسكي الذي كان معروفا عنه إهدار المال، يُمْنَح لمصائر أبطاله.

الإهانة

كانت روح دوستويفسكي تتسع لتضم المحافظين والقيصريين والليبيراليين، والصوفيين والعدميين والمسيحيين الأرثوذكس والديمقراطيين والاشتراكيين الفابيين والمثاليين، ولم يشعر أي فريق منهم بالراحة تجاهه، وبقي مرجل روحه للصهر والإذابة، ممكنا له، مستحيلا عليهم.  

كانت الإهانات التي يتعرّض لها دوستويفسكي في حياته اليومية، ويتسبّب بها لنفسه أحيانا، كما كان يحدث مع الأمير ميشكين، بطل رواية "الأبله"، ذات طابع ديني، أو أن دوستويفسكي يُصعِّد دراميّا الإهانة العابرة حتى تكتسي ثوبا دينيا، إنها بمثابة قربان وفداء للبشرية، وهي مُوجَّهة بشكل أساسي، لتلفت نظر الله إليها، ليس لتحريض، أو لإثارة نقمة إلهية ضد مَنْ أهانوه، فدوستويفسكي يسامحهم، ويغفر لهم. تُصعَّد الإهانات دراميّا في غرف الانتظار، وعلى عتبات الأبواب، وفي الغرف المستأجَرة الرخيصة المعتمة، وفي الحانات، وعبر الحوارات الطويلة، والمونولوغات، والاعترافات، وطلبات اقتراض المال، والمراهنات الخائبة. 

إن تورغينيف في الصالونات وأمام الجمهور راوٍ ممتاز وتولستوي أيضا، أمّا دوستويفسكي فهو بحاجة إلى منصة خطابة. إن لغته الحماسية بعدة درجات من متوسط حرارة الحديث، لأنه شخصيا لا هو بالبارد، ولا هو بالفاتر، إنه حار على الدوام.

كانت المساحة التي يحتاجها دوستويفسكي في رواياته ليصل إلى التأثير الفني قياسا، على سبيل المثل، بتورغينيف، بالنسبة الى تورغينيف من الممكن 10صفحات، أمّا دوستويفسكي فعلى الأقل يُلين تروس محركه في 200 صفحة. إن كلمة تورغينيف مصقولة، هادئة، تسقط في مكانها بدقة، أمّا دوستويفسكي فكلمته عاصفة، مرتبكة، أخلاقية، ساذجة، مريضة، مثالية، تسقط بجوار ما أرادت أن تصيبه، لكن بانفعالها، وتذللها، تطلب فرصة أخرى في 400 صفحة، ثم تُمعن في التذلل، وتطلب فرصة أخيرة نهائية في 900 صفحة، بل في 1000 صفحة، وكلما اتسعت المساحة أحدث دوستويفسكي التأثير الفني. 

ماردان

تولستوي مارد من مردة التاريخ، "الحرب والسلام"، و"آنا كارينينا"، و"البعث"، روح الملحمة، حفلات فخمة، مهيبة، أريستوقراطية، مفرطة الطول، أما دوستويفسكي فمارد من مردة الدراما، "الشياطين"،"الإخوة كارامازوف"،"الأبله"، دراما الحجرة، وموسيقاها، حفلات مترجلة، شعبية، فوضوية، مثل حفلة ليوناردو دي كابريو وكيت وينسليت في قبو سفينة "تايتانيك"، تولستوي في حفلة كبرى أعلى السفينة، ودوستويفسكي في حفلة صغرى أسفل السفينة، مارد في الأعلى، ومارد في الأسفل، لا بد من الغرق.

دوستويفسكي يُصعِّد دراميّا الإهانة العابرة حتى تكتسي ثوبا دينيا، إنها بمثابة قربان وفداء للبشرية

تشبه عواصف الانفعالات التي تجتاح وجوه الشخصيات عند دوستويفسكي اللقطة القريبة، "الكلوز آب" في السينما. هناك إلحاح جمالي يدفعه إلى أقصى تجريد ممكن للمكان والملابس والأثاث، ليعزل عاطفة الوجه، ويتفرّغ لوصفها، أكثر من نصف هذا  الوصف يكرسه بروست وتولستوى لملابس وأثاث حفلة، اللقطات الكبيرة الموضوعية، ثم نقترب شيئا فشيئا من اللقطات القريبة. دوستويفسكي لا يمهد بالجو العام، بل نجده دفعة واحدة في عاطفة اللقطة القريبة، والاقتراب يكون كارثيا، وحشيا، وليس دقيقا جراحيا مثل اللقطات القريبة لليف أولمان وبيبي أندرسون في فيلم برغمان، "برسونا".

كتبتْ ليوبوف دوستويفسكايا كتابا عن دوستويفسكي، بعنوان "دوستويفسكي وفقا لابنته" (1920)، ذكرت فيه لحظة احتضار والدها، وقوله لها ولشقيقها بعد تكرار نزيف الدم من رئتيه، وكانت في الحادية عشرة من عمرها، وشقيقها أصغر قليلا: حتى لو كُتب عليكما في مجرى الحياة أن ترتكبا جريمة فلا تفقدا الأمل بالرب، أنتما من أولاده، فاخفضا له جناح الذل، وتضرعا إليه طلبا للغفران، وسيكون مسرورا لتوبتكما.

المخيف في كلمات دوستويفسكي، أن معنى الجريمة بعيد كل البعد عن عقل وبراءة طفلين، ناهيك عن احتمال ارتكابهما الجريمة التي يفكر فيها دوستويفسكي، أي الجريمة الجنائية المحمّلة بثقل لاهوتي فلسفي مضاعف، على سبيل المثل، كالجريمة التي ارتكبها رسكولينكوف.

الغريب أن ثقة دوستويفسكي الأكيدة في غفران الرب مهما كانت الجريمة متطرفة، هي نفسها التي تدفع أبطال رواياته لارتكاب أبشع الجرائم طالما ضمان الغفران في جيوبهم مسبقا.

font change

مقالات ذات صلة