تعطي استطلاعات الرأي حول الانتخابات التشريعية في الدولتين الأوروبيتين الأبرز سياسيا، بريطانيا وفرنسا، انطباعات متناقضة عن اتجاهات الناخبين. في الأولى، يبدو سقوط المحافظين بعد حكم دام 14 سنة غير قابل للنقاش مع تقدم العمال بعشرين نقطة مئوية. وفي المقابل، تقول الاستطلاعات الفرنسية إن "التجمع الوطني" اليميني المتطرف تفصله 7.9 نقطة عن منافسيه في "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية لمصلحة "التجمع".
مرات عدة سجل اليمين المتطرف الفرنسي قفزات نوعية في الاستحقاقات الانتخابية، من أبرزها وصول مرشحه جان– ماري لوبان إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في 2002 مقابل الديغولي جاك شيراك. كانت لحظة قاسية للأحزاب التقليدية الفرنسية التي اعتادت في العقود السابقة على المنافسة بين الاشتراكيين والديغوليين. جاء لوبان زعيم "الجبهة الوطنية" التي تحولت إلى "التجمع الوطني" بعدما حلت ابنة لوبان، مارين مكان أبيها، كصفعة على وجه الأحزاب لتقول إن شيئا عميقا وخطيرا يجري في المجتمع الفرنسي. وبعد رئيسين باهتين للجمهورية (نيكولا ساركوزي، وفرنسوا هولاند) اختتما المنافسة الديغولية– الاشتراكية بالوصول إلى ما يشبه الإفلاس التام، جاء الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون بطروحات لم تلبث أن وصلت بدورها إلى طريق مسدود عبرت عنه حركة "السترات الصفراء" والاضطرابات العنيفة التي انتقلت من الضواحي إلى قلب باريس.
"التجمع الوطني" الذي حصل في الانتخابات التشريعية الأخيرة على 88 مقعدا، سيزيد حصته– إذا صدقت استطلاعات الرأي– ما يجعل تولي غوردن بارديلا الذي يقود "التجمع" منصب رئيس الوزراء ممكنا في حال نجح في صوغ الائتلاف السياسي اللازم.
في بريطانيا، وإلى جانب حالة الانهيار التي لا تعرف حدودا في "حزب المحافظين" المتنقل من فضيحة إلى أخرى، وآخرها مراهنة مرشحيه في الانتخابات على موعدها، قبل إعلان زعيم الحزب ورئيس الوزراء ريشي سوناك عن التاريخ المحدد لها، تبرز ظاهرة حزب "الإصلاح" لصاحبه (وهي الكلمة الدقيقة باعتبار أن الحزب مسجل كشركة خاصة في الدوائر الرسمية وليس كمنظمة سياسية) نايجل فاراج.
مؤيدو "الإصلاح" أصبحوا 17 في المئة من عدد الناخبين أي إنهم أقل بثلاث نقاط مئوية فحسب من "المحافظين". وتبدو هنا علامة مشتركة بين "الإصلاح" البريطاني و"التجمع الوطني" هي التركيز المفرط على مسألة الهجرة الشائكة. وغني عن البيان أن مقاربة الحزبين للموضوع لا تقتصر على وقف الهجرة غير النظامية، فهذا من النوافل عندهما، بل تصل إلى تقييد حقوق الحصول على جنسية البلدين للمهاجرين الشرعيين والتشدد في منح التأشيرات للعمال الأجانب وغيرها من الإجراءات التي تلقى قبولا واسعا في البلدين على ما يبدو.
مؤيدو "الاصلاح" أصبحوا 17 في المئة من عدد الناخبين أي أنهم أقل بثلاث نقاط مئوية فحسب من "المحافظين"
صعود اليمين المتطرف في اوروبا والعالم (الذي خصصت له "المجلة" ملفا كاملا)، لا يزال ظاهرة كبرى في الحياة العامة في الدول الديمقراطية خصوصا. الأسس التي يقوم المد اليميني المتطرف عليها تمتد من خواء خطاب وممارسة الاحزاب التقليدية التي تسيطر على المشهد السياسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وعدم قدرتها على التكيف مع المستجدات العميقة التي تجري في المجتمعات الى فشل استيعاب موجات الهجرة وانقلابها مبررا للتنفيس عن الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي وصولا الى حالة من الضيق الذي تعبر عنه اوساط اليمين المتطرف من محاولات فرض التعدد والتنوع على نحو قسري يتجاهل الخصائص الثقافية للاكثريات.
المنافسة بين المهاجرين والعمال المحليين على الوظائف القليلة الباقية، الازمة الاقتصادية المستمرة والمتفاقمة وعجز الطبقات السياسية عن حلها من دون انحياز واضح الى جانب الاثرياء. تحطيم الثقافات المحلية وتدمير الارياف. هي من المآخذ التي يعلنها اليمين المتطرف في كل من بريطانيا وفرنسا، بعدما اصبح اقصى اليمين هو حامل قضايا الفقراء والمهمشين، حسب زعمه، فيما انصرف الممثل التاريخي للفئات هذه، اي احزاب اليسار، الى مسائل الهوية ومتاهاتها.
الخطاب المناهض للهجرة والمهاجرين عبر عنه بارديلا بكلمات قليلة قبل يومين عندما رأى ان "الاعتراف الآن بدولة فلسطينية هو اعتراف بالارهاب". وهذا كلام لا يختصر فقط موقفا من القضية الفلسطينية، بل يمكن القول من دون مجازفة كبيرة انه يعبر عن نظرة متكاملة الى العالم وقضاياه وتأثيرها على الداخل الفرنسي والانحيازات التي يجب على الفرنسيين ان يتخذوها في الصراعات الدائرة حفاظا على مصالحهم.