ماذا تريد "قوات الدعم السريع" من ولاية الجزيرة؟

أجندة الاقتصاد السياسي للحرب في السودان

أ ب
أ ب
عناصر من "قوات الدعم السريع" في شرق النيل في 22 يونيو

ماذا تريد "قوات الدعم السريع" من ولاية الجزيرة؟

في صبيحة يوم الجمعة 21 يونيو/حزيران 2024، اجتاحت "قوات الدعم السريع" قرية عسير، وهي بلدة زراعية صغيرة في ريف منطقة الحوش الواقعة في ولاية الجزيرة. أسفر الهجوم عن مقتل 17 من المدنيين وهم خارجون من صلاة الجمعة وإصابة عشرات آخرين بالإضافة إلى موجة نزوح واسعة للمواطنين المدنيين باتجاه المناقل والمناطق الأخرى البعيدة عن سيطرة الميليشيا التي انصرف جنودها إلى أعمال النهب والسلب والاعتداءات المختلفة.

قبلها بيومين، استباحت الميليشيا مدينة الهدى في غرب ولاية الجزيرة، بعد استهدافها قرابة نصف يوم بقصف مدفعي مكثف ما أسفر عن سقوط أكثر من 20 من الضحايا المدنيين بالإضافة إلى عشرات الجرحى وحركة نزوح كبيرة للمواطنين من المنطقة باتجاه قرية العزازي وعدد من القرى المجاورة طلبا للسلامة. وصاحب الهجوم عمليات نهب واسعة للمحاصيل الزراعية والمخزونات الغذائية الموجودة في المدينة.

قبل ذلك، وفي 5 يونيو 2024، شنت "الدعم السريع" هجوما عنيفا على قرية ود النورة غربي منطقة المناقل في ولاية الجزيرة، حيث هاجمت القرية مرتين على مدار اليوم، بدأتهما بقصف مكثف باستخدام المدفعية الثقيلة، تلاه هجوم بري واسع النطاق على القرية من ثلاثة اتجاهات. ارتكبت الميليشيا خلال هذه الهجمات مجزرة دموية وصل عدد ضحاياها إلى أكثر من 200 ضحية فقدوا أرواحهم، فيما بلغ عدد المصابين المئات. وعاودت قوات "الدعم السريع" اقتحام القرية صباح يوم 6 يونيو 2024، وبسطت سيطرتها عليها ونشرت قواتها فيها.

لم تكن هذه الهجمات وغيرها والتي تزايدت وتيرتها مؤخرا هي الوحيدة منذ اجتياح "قوات الدعم السريع" لولاية الجزيرة في ديسمبر/كانون الأول الماضي. ففي 18 ديسمبر/كانون الأول 2023 سقطت مدينة ود مدني، عاصمة الولاية في يد ميليشيا "الدعم السريع" التي ارتكبت فيها العشرات من جرائم القتل والنهب والاغتصابات ضد سكانها المدنيين بعد انسحاب الفرقة الأولى مشاة من الجيش السوداني والتي كانت مسؤولة عن حماية المدينة. ولم تستثن "الدعم السريع" حتى مخازن "برنامج الغذاء العالمي" التي تم نهبها بواسطة رجال الميليشيا، حتى بعد إبلاغ قيادة الميليشيا بإحداثيات المستودعات وتلقي البرنامج تطمينات منهم بعدم التعرض لمستودعات ومخزون الأغذية. وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى إيقاف أعمال الإغاثة الإنسانية التي يقوم بها البرنامج وبقية منظمات الأمم المتحدة بحسب بيان مكتب تنسيق المساعدات الإنسانية الأممي. وبحسب بيان برنامج الغذاء العالمي حول إيقاف عملياته فإن هذا الغذاء المنهوب كان كافيا لإطعام ما يقرب من 1.5 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد بالسودان لمدة شهر كامل.

 أ ف ب
سودانيون يملأون أوعية بالمياه في بورتسودان في ظل تفاقم النقص في المياه في 9 أبريل

أضاف بيان برنامج الأغذية العالمي أن مقاتلي "قوات الدعم السريع" نهبوا الحصص الخاصة برعاية نحو 20 ألف طفل ممن يعانون من سوء التغذية، والأمهات المرضعات. وشملت المواد المنهوبة البقوليات والذرة الرفيعة والزيوت النباتية والمكملات الغذائية، بحجم يقدر بأكثر من 2500 طن من المواد الغذائية. وبطبيعة الحال، فإن عمليات نهب الإغاثة الإنسانية وإيقاف عمل منظمات الإغاثة كانت شكلا من أشكال حصار التجويع وخلق المجاعة الذي يهدف بشكل مباشر لدفع المواطنين والسكان الأصليين للرحيل عن مناطقهم.

إن عمليات نهب الإغاثة الإنسانية وإيقاف عمل منظمات الإغاثة كانت شكلا من أشكال حصار التجويع وخلق المجاعة الذي يهدف بشكل مباشر لدفع المواطنين والسكان الأصليين للرحيل عن مناطقهم

منذ ذلك الحين استمرت تجريدات عنف "قوات الدعم السريع" في ترويع الآمنين في قرى الجزيرة ومهاجمتهم وإجبارهم على الرحيل. وتعرضت مناطق وقرى رفاعة، وحنتوب، والحلاوين، والحوش، وود المنير، والكمر الجعلين، وفداسي، والمعيلق، والعوايدة، وفطيس، والحمداب، وعباس، وود الأبيض، والعزازي، والبابنوسة، والحرقة، والطلحة، وبانت، وغيرها من المناطق في حضر وأرياف ولاية الجزيرة، للهجوم بشكل متكرر من قبل "الدعم السريع" وتم ارتكاب فظائع مماثلة فيها. كل هذه المناطق والقرى منتشرة في كل ربوع وأنحاء الجزيرة، من شمالها وشرقها وحتى جنوبها وغربها، وهي ليست مجرد أرقام وأسماؤها ليست كلمات مجردة، بل هي أوطان أناس وبشر عاديين لهم أحلامهم وآمالهم وأفراحهم وأحزانهم الصغيرة. هذه الأسماء هي انعكاس لأوطانهم الصغيرة وأماكن مساكنهم وأسواقهم ومزارعهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومراكزهم الصحية. هي حواضن معاشهم الطبيعي وحياتهم اليومية التي كانت آمنة قبل أن تطالها يد الميليشيا. وكل هذا سكتت عن محاولة إيقافه أو حتى إدانته الإدارة المدنية التي عينتها "قوات الدعم السريع" لإدارة شؤون ولاية الجزيرة بحسب اتفاقها مع تحالف "تقدم" في اتفاق حمدوك-حميدتي الموقع في 2 يناير/كانون الثاني 2024. 

 رويترز
لاجئون سودانيون يجمعون المياه من بئر في مخيم غوروم قرب عاصمة جنوب السودان جوبا في 26 يناير

ومع تزايد وتيرة هجمات الميليشيا يتضح أن ما تقوم به في ولاية الجزيرة ليس مجرد انفلات غير منظم أو مجرد هجمات سلب وهو ما ظلت تغري به الميليشيا مجنديها للانخراط في صفوفها. ولكن يبدو أن وراء ذلك هدفا كليا ومنهجا متعمدا يهدف إلى تهجير المواطنين من مناطقهم وأراضيهم الأصلية. فولاية الجزيرة لم تكن مجرد المركز الحضري الثاني في السودان بعد العاصمة الخرطوم فحسب، بل إنها تضم أيضا مشروع الجزيرة الزراعي، وهو أكبر مشروع للري الانسيابي الطبيعي في العالم. حيث تتمتع ولاية الجزيرة التي يشقها في المنتصف النيل الأزرق وتمتد حدودها شرقا لتقارب النيل الأبيض في مسيرتهما الانسيابية للاقتران شمالا في الخرطوم، بمزايا تجعلها مناسبة بشكل خاص للري والزراعة. لأن الطمي والتربة الخصبة المنسابة مع النيل الأزرق شديد الانحدار من الهضبة الإثيوبية يزيد من خصوبة التربة وصلاحيتها للزراعة، بالإضافة إلى أن الانحدار يجعل انسياب الماء عبر قنوات الري يتم بشكل طبيعي وقليل التكلفة إلى حد كبير، كما أن احتواء التربة على نسبة عالية من الطين يقلل إلى حد كبير من الخسائر الناتجة عن التسرب. 
بدأ إنشاء المشروع سنة 1911 خلال عهد الاستعمار بمساحة قدرها 250 فدانا، وتواصل تطور ونمو المشروع ليصل إلى مساحته الحالية المقدرة بمليونين و200 ألف فدان من الأراضي الخصبة التي تتمتع بالري الطبيعي، في عام 1962.

وقد تميز المشروع، والذي تم تأميمه وسودنته بشكل عام في عام 1950- قبل استقلال السودان بست سنوات- والذي يضم حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون من المزارعين المقيمين فيه بنظام الإدارة التشاركية بين المزارعين وإدارة المشروع وحكومة السودان، وهو ما منح المزارعين قدرا كبيرا من الاستقرار في المنطقة وشكلا من ملكية الأراضي ومشاركة فاعلة في إدارة شؤون المشروع والولاية ككل. ولحين ظهور وتصدير البترول في السودان، ظل مشروع الجزيرة الزراعي هو المورد الاقتصادي الأكبر لميزانية حكومة السودان السنوية، ولكن ظهور البترول وبعده حمى الذهب، أصاب الاقتصاد السوداني بالمرض الهولندي (وفرة الموارد الطبيعية وانخفاض الصناعات التحويلية) خلال عهد حكم نظام الإسلاميين المخلوع، وأدى إلى تدهور الاهتمام بمشروع الجزيرة وإهمال الصيانات الدورية لترع الري بشكل نتج عنه تدهور إنتاجية المشروع لدرجة كبيرة وبالتالي مساهمته الاقتصادية. ولكن خلال حكومة الثورة (2019-2021) وبالتحديد خلال الموسم الزراعي عام 2020، أثبت مشروع الجزيرة أنه لا يزال موردا اقتصاديا مهما، وساهم في إنتاج وتغطية نحو 40 في المئة من حاجة السودان السنوية للقمح في ذلك العام بالإضافة إلى المنتجات الزراعية الأخرى من بقوليات وخضراوات ومحاصيل نقدية كان ينتجها المشروع.

ولاية الجزيرة لم تكن مجرد مركز حضري ثان في السودان بعد الخرطوم، بل إنها تضم أيضا مشروع الجزيرة الزراعي، وهو أكبر مشروع للري الانسيابي الطبيعي في العالم

ولا يمكن تفسير ما يحدث في ولاية الجزيرة من انتهاكات تتزايد بمتوالية هندسية متسارعة على أنه محض اعتباط، والغافل فقط-والمتغافل بطبيعة الحال- هو من يجهل أو يتجاهل عامل الاقتصاد السياسي في حرب السودان الحالية. فالتنازع حول المصالح الاقتصادية الذاتية كان أحد عوامل تزايد حدة الاستقطاب والمنافسة بين المكونات العسكرية التي تتحارب الآن فوق رؤوس السودانيين. ومع انكشاف دور الدول الخارجية الداعمة لميليشيا "قوات الدعم السريع"، والتي يُشكل الأمن الغذائي والمياه أحد أكبر اهتماماتها ومشاغلها وهي اهتمامات ومشاغل عالمية وإقليمية تشغل بال الجميع، ويتمتع فيها السودان بموارد كبيرة غير مستغلة، كل هذا يجعل من احتكار مشروع الجزيرة والسيطرة عليه بخصوبة أراضيه وسهولة زراعتها وانخفاض تكلفة تشغيله النسبية مطمعا كبيرا في هذه الحرب.

ومناهج التهجير القسري للاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين ليست بالأمر الغريب أو الجديد على الميليشيا، بل إنها من تكتيكاتها الراسخة والتي مارستها منذ وقت مبكر في حربها الأولى في دارفور، بشكل أدى إلى موجات نزوح ولجوء واسعة على مدى سنين حرب دارفور المستمرة. وبرزت ظاهرة المستوطنين الجدد، الذين استقروا في الأماكن الأصلية للمدنيين النازحين واحتلوها بشكل عقّد محاولات عودتهم إلى مواطنهم حتى في فترات هدوء النزاع.

font change

مقالات ذات صلة