فرنسا تخسر دورها في فلسطين... وتتمسك بلبنان

"التوازن الإقليمي" الجديد الذي يتحدث عنه ماكرون قد لا يرى النور قريبا

 أ ف ب
أ ف ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء الاجتماع مع اللجنة العربية بشأن الحرب في غزة، في قصر الإليزيه في باريس في 24 مايو

فرنسا تخسر دورها في فلسطين... وتتمسك بلبنان

سارع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون إلى تأييد الاتفاق الشامل الذي اقترحته الولايات المتحدة بخصوص الحرب في غزة، وأعلن أنه "يعمل مع الشركاء في المنطقة من أجل السلام والأمن للجميع". هكذا، تتفاعل فرنسا مع متغيرات الشرق الأوسط وتسعى للبقاء في نادي الدول المؤثرة للدفاع عن مصالحها ودورها الدبلوماسي.

ألقت مسألة عدم الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية ومقاربة باريس لحدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي وتتماته، بظلالهما على موقع فرنسا القيادي في الاتحاد الأوروبي. في المقابل، استمرت مساعي فرنسا بخصوص الملفات اللبنانية وإصرارها على إنجاز تقدم من دون أن يكون هناك يقين من تحققه. وهذا الأداء الفرنسي المتأرجح في الشرق الأوسط يعبر عن ارتباك في الخيارات وعن مواصلة سلسلة النكسات على أكثر من مسرح خارجي.

التأرجح الفرنسي حيال المسألة الفلسطينية

كان من اللافت أن تعترف ثلات دول أوروبية جديدة بدولة فلسطين (إسبانيا وأيرلندا والنرويج) من أجل إنقاذ ما تبقى من "حل الدولتين" وأن ترفض باريس هذه الخطوة على لسان الرئيس ماكرون لأن الوقت المناسب للقيام بهذه البادرة الدبلوماسية لم يحن بعد ولأنه لا يريد "اتخاذ قرارات تحت وقع المشاعر". ويعبر ذلك تماما عن التأرجح الفرنسي منذ 7 أكتوبر وعدم القدرة على الانتقال من موقع منحاز تماما لإسرائيل إلى موقف متوازن وفعال. بيد أنه في الوقت نفسه تدرس باريس بعناية طرق الاعتراف المحتمل، وتسعى للتنسيق مع بعض الشركاء الأوروبيين لجعل هذه "البادرة الدبلوماسية مفيدة".

داهمت الحرب الشرق الأوسط وانعكست على أوروبا وفرنسا تحديدا بينما كانت الدبلوماسية الفرنسية بتوجيه من الإليزيه لا تزال تبحث منذ عدة سنوات عن "معايير جديدة" لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي طال أمده. وانتهى الأمر بإيمانويل ماكرون إلى توضيح موقفه بعد تردد وتأخر عبر إعلان رفضه "التأجيل الممنهج" لتنفيذ حل الدولتين، لكنه سرعان ما ربط رؤية الاعتراف بديناميكية مفيدة قوامها تنفيد الكثير من الإصلاحات في السلطة الفلسطينية وتحقيق التوازن الإقليمي وضم شركاء أوروبيين إليها وتقديم الضمانات الأمنية لإسرائيل والفلسطينيين.

بالنسبة للسلطة الفلسطينية، يكشف مصدر فرنسي عن "رهان ماكرون على تغيير القيادة الفلسطينية والدفع برئيس الوزراء الجديد محمد مصطفى على رأس السلطة الفلسطينية". لكن هذا الرهان لا يبدو قابلا للتحقق مع رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لاستعادة السلطة دورها، ولأن الرئيس محمود عباس لا يبدو مستعدا للتخلي عن منصبه، ولأن حركة "حماس" تشبّه حكومته بحكومة فيشي الفرنسية تحت الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية.

أما مسألة التوازن الإقليمي التي يضعها ماكرون على جدول أعماله التمهيدي للاعتراف وربط ذلك بالتطبيع العربي-الإسرائيلي، فدونه عقبة كبيرة وهي ربط المفاوضات الحالية التي تقودها واشنطن بشرط عربي جديد: شروع إسرائيل في "طريق لا رجعة فيه نحو الدولة الفلسطينية"... لذلك، فإن "التوازن الإقليمي" الجديد الذي يتحدث عنه ماكرون، قد لا يرى النور قريبا.

بالقياس لدولة متوسطية مثل إسبانيا، أخذت فرنسا تخسر دورها الريادي داخل الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط منذ سبعينات القرن الماضي

ومن الملاحظ أن دولة فلسطين تعترف بها الآن 145 من أصل 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك إحدى عشرة دولة من دول الاتحاد الأوروبي من أصل سبع وعشرين دولة. بينما لم تبادر أي دولة من دول مجموعة السبع الغربية الكبرى إلى اتخاذ هذا القرار. 
كل ذلك لا يجعل خلية الإليزيه الدبلوماسية تتراجع وتحاول الالتفاف على العقبات من خلال العمل على التقارب "الأوروبي العربي" وذلك بعد أن استقبل ماكرون اللجنة العربية المكلفة بالمتابعة، يوم  24 مايو/أيار الماضي وتبع ذلك اتصال بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لهذا الغرض. 
وعلى الجانب الأوروبي، شهدت باريس في السادس من يونيو/حزيران اجتماعا دبلوماسيا مع ممثلي المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا. وفي غياب التماسك داخل الاتحاد الأوروبي، حيث يظل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يشكل قضية مثيرة للانقسام الشديد، فإن الفكرة تتلخص في إقناع مجموعة صغيرة من الدول الأوروبية بوضع أجندة إقامة منصة مشتركة مع الدول العربية.

أ ف ب
الموفد الفرنسي الخاص إلى لبنان جان إيف لودريان أثناء زيارته إلى بيروت في 28 مايو

وتكمن المعضلة الأساسية إزاء أي تقدم في موقف الولايات المتحدة التي تدعم من حيث المبدأ فكرة حل الدولتين، لكن ذلك يتطلب برأيها حوارا مباشرا بين الطرفين وليس من خلال اعتراف أطراف منفردة بدولة فلسطينية.
تؤكد تطورات اتجاه ماكرون نحو نسيان وإهمال البعد التاريخي للدور الفرنسي أوروبيا وغربيا حيال "الدولة الفلسطينية". وفي مطلق الأحوال أيا كانت التبريرات الفرنسية وذرائع التأخر، يفتقد موقف باريس المتردد والمرتبك عنصر المبادرة الضروري لإطلاق ديناميكية فعالة. والأدهى أنه بالقياس لدولة متوسطية مثل إسبانيا، أخذت فرنسا تخسر دورها الريادي داخل الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط منذ سبعينات القرن الماضي. وكان أحد صانعي تلك الحقبة، الوزير الفرنسي الأسبق  كلود شيسون، يتباهى بصنع باريس للقرار الأوروبي. 

التفتيش عن إنجاز لبناني بأي ثمن 

في موازاة التأرجح إزاء النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، يصر ماكرون على تحقيق إنجاز بأي ثمن في لبنان الذي استثمرت دبلوماسيته فيه من خلال جهود ومبادرات متعددة لم يحالفها النجاح. 
تفاقم الوضع بعد تفجير مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020 وتعمق المأزق السياسي-الاقتصادي. حينها اندفع الرئيس الفرنسي على وقع هول الكارثة في محاولة لإيجاد مخرج للأزمة المستعصية لأنه مسكون بالتاريخ وبمزيج من العاطفة والمسؤولية حيال كيان أسسته فرنسا المنتدبة قبل قرن من الزمن، وتربطه مصالح وعلاقات ثقافية وإنسانية ببلاده، إضافة إلى موقعه الجيوسياسي المميز في منطقة شرق المتوسط حيث تدور لعبة أمم جديدة يحاول إيمانويل ماكرون حجز موقع متقدم لبلاده فيها.
ومما لا شك فيه أن "سيد الإليزيه" كان يعتمد ضمنا على الصلة التي نسجها مع إيران وربما راهن على أن موقفه المنفتح تجاهها يسهل له الأمر مع وكيلها اللبناني "حزب الله" النافذ في المؤسسات بمجرد "الحوار معه والاعتراف بالتمثيل الشعبي لجناحه السياسي". لكن تبين مع الوقت أن المنظومة السياسية التي كادت تتعرض لضربة قاضية بعد "فضيحة المرفأ" استفادت من المبادرة الفرنسية لتعويم وضعها ولم يتم الإيفاء بالتعهدات التي التزم القادة السياسيون باحترامها بعدما اجتمعوا مع ماكرون في قصر الصنوبر، مقر السفير الفرنسي في بيروت. 

مما لا شك فيه أن "سيد الإليزيه" كان يعتمد ضمنا على الصلة التي نسجها مع إيران وربما راهن على أن موقفه المنفتح تجاهها يسهل له الأمر مع وكيلها اللبناني "حزب الله"

ولم يمنع الفشل المتراكم للرئاسة الفرنسية من تكرار محاولاتها بخصوص الملف الرئاسي منذ 2022 والحرب على جبهة الجنوب مع إسرائيل منذ 2023. وينبع هذا الإصرار من أنه بين الأطراف الخارجية المعنية أو المنخرطة في المسألة اللبنانية، تبرز فرنسا باعتبارها القوة الدولية الوحيدة التي تضع بلد الأرز ضمن أولوياتها بمثابة ملف مستقل وليس تفصيلا ضمن الملف الإقليمي كما الحال مع واشنطن. 
ورغم بقاء المحاولات الفرنسية لحلحلة ملف الفراغ الرئاسي تراوح مكانها، فإن اشتعال جبهة جنوب لبنان في الثامن من أكتوبر 2023, دفع فرنسا للتركيز على مساعي منع توسع الحرب والعمل على إنهائها. ورغم تفرد فرنسا غربيا وأوروبيا بحوارها الرسمي والعلني مع "حزب الله" وموقفها المؤيد لإسرائيل إثر هجوم السابع من أكتوبر، لم تتمكن باريس من إحداث اختراق رغم تقديمها عدة خطط لتطبيق القرار 1701 وانخراطها الدائم في قوات حفظ السلام "اليونيفيل" منذ 1978. ومن الواضح ان "حزب الله" المرتبط بالقرار الإيراني والذي يربط الوضع اللبناني بجبهة غزة، يراهن أكثر على الدور الأميركي الذي يديره مستشار بايدن للطاقة آموس هوكشتاين الذي صاغ تسوية تعيين الحدود البحرية في أكتوبر 2022.
والأدهى الآن بالنسبة لفرنسا وكل الوسطاء حول هذا الملف، هو تطور الوضع العسكري على هذه الجبهة أوائل يونيو 2024, إذ إن هجمات "حزب الله" المركزة والواسعة حولتها عمليا من "جبهة مساندة" إلى "جبهة مواجهة". وأتى ذلك بالتزامن مع الجدل حول خطة بايدن لوقف إطلاق النار في غزة ووعده الاهتمام بالوضع مع لبنان، وبعد ترديد معلومات غير مؤكدة عن لسان "حزب الله" حول عدم ربطه الملف الرئاسي بإنهاء الحرب.
ضمن هذا السياق، أتت جولة الموفد الرئاسي الفرنسي جان- إيف لودريان، أواخر مايو/أيار الماضي إلى لبنان، بعد تأجيل زيارته إليه في فبراير/شباط، وهذه محاولة جديدة بعد تركه المجال لتحرك اللجنة الخماسية المؤلفة من السفراء: الأميركي والفرنسي والسعودي والمصري والقطري. وتسرب من محاوري وزير الخارجية الفرنسية الأسبق أنه عبر عن مخاوفه من أن عدم إجراء الانتخابات الرئاسية خلال يونيو أو يوليو سيؤدي إلى تأجيلها لأشهر أو سنوات، لأن الديناميكية الدولية لن تكون مساعدة في الفترة المقبلة. وأبلغ من التقاهم بأن "لبنان السياسي" سينتهي إذا بقيت الأزمة على حالها ومن دون رئيس للجمهورية ولن يبقى سوى "لبنان الجغرافي".
 أتى اقتراح  فرنسا في بدايات مبادرتها الرئاسية أواخر 2022 سليمان فرنجية (مرشح الثنائي الشيعي) لرئاسة الجمهورية، ونواف سلام (الذي كان مقربا من تيار 14 مارس/آذار، وأصبح في 2020 رئيسا لمحكمة العدل الدولية) لرئاسة الحكومة. لكن هذا الاقتراح تلاشى بعد أن رفضته  قوى وازنة في الداخل وعدم الترحيب به خارجيا. 
حيال الاستعصاء حول هذا الملف، حيث تعود آخر جلسة انتخاب غير مثمرة إلى يونيو 2023، وحينها تنافس سليمان فرنجية وجهاد أزعور . أتى الموفد الفرنسي هذه المرة ليؤكد على طرح اللجنة الخماسية بخصوص الخيار الثالث للرئاسة مع تجاوز عقدة الحوار (الذي يصر رئيس المجلس النيابي نبيه بري على أن يكون برئاسته مدخلا للحل) واستبداله بمشاورات. 
على ما يبدو لم تتمكن هذه الطروحات من تحقيق اختراق ملموس، حسبما أكد  مصدر دبلوماسي فرنسي أشار إلى أن "كل فريق متشبث بمواقفه".
وليس سرا أن الدبلوماسيين الفرنسيين المعنيين لم يتحمسوا لاستئناف زيارات لودريان بحجة أنها  ستزيد من استنزاف الرصيد الفرنسي، طالما أن  ظروف الحل لم تنضج بعد.  

ويتأفف مصدر فرنسي قائلا: "حتى لو سعى المجتمع الدولي لمساعدة لبنان، يبقى الأهم أن يساعد لبنان نفسه". 
يكشف هذا التموضع الفرنسي حيال الملف الفلسطيني، والفشل في المبادرات حول لبنان، على ما كان يسمى "السياسة العربية لفرنسا" التي أخذت تخسر فحواها مع الوقت.

font change

مقالات ذات صلة