لا يكفي عقد مؤتمر دولي واحد للسلام في أوكرانيا لإطلاق عملية تسوية تقود إلى إنهاء الحرب. غياب روسيا عن المؤتمر، الذي استضافته سويسرا في 15 و16 يونيو/حزيران، جعله أقرب إلى ما سمّاها المستشار النمساوي كارل نيهامر في كلمته "غرفة صدى غربية". وقد عبر عدد من ممثلي الدول التي حضرت المؤتمر عن هذا المعنى بصيغ مختلفة مؤداها أن إحلال السلام يتطلب وجود طرفين وليس واحدا فقط.
ومع ذلك يمكن أن يكون هذا المؤتمر خطوة أولى في طريق صعب شديد الوعورة. لكن يتعين المضي فيه أيا تكن العوائق. فإحلال السلام عبر مفاوضات جادة تقود إلى اتفاق يرضاه الطرفان بدرجات متفاوتة أفضل من أن يفرضه الرئيس الأميركي السابق والمرشح الحالي دونالد ترمب بطريقته إذا التزم بتعهده إنهاء الحرب حال فوزه في الانتخابات المنتظرة يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
صراع صفري... وتمترس متبادل
يبدو جديدا عقد مؤتمر لتسوية أزمة أو إنهاء حرب في غياب أحد الطرفين، إذا استثنينا مؤتمر فيينا 1814-1815 الذي كان ساحة لمحادثات ومناورات سياسية أكثر منه مؤتمرا بالمعنى الدقيق. كانت فرنسا المهزومة في نهاية الحروب النابليونية قد استسلمت. وكان ضروريا عقد لقاءات للتفاوض على تسوية سياسية وإعادة رسم الخرائط في أوروبا. ولهذا لم يؤثر غياب فرنسا حينذاك.
غير أن الوضع اختلف منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. ورغم أن ألمانيا المهزومة فيها كانت قد استسلمت، فقد دُعيت إلى مؤتمر السلام أو الصلح في باريس عام 1919. ومنذ ذلك الوقت صار حضور طرفي أي حرب أو أزمة في مؤتمر يُعقد لإحلال السلام مفروغا منه. وعندما اعترضت إسرائيل على مشاركة وفد فلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، حضرت "منظمة التحرير" من خلال وفد مشترك مع الأردن. ولهذا بدا الوضع غير مألوف في منتجع بورغنستوك السويسري، حيث عُقد مؤتمر إحلال السلام في أوكرانيا.
غير أن حضور دول تتخذ مواقف محايدة أو متوازنة تجاه الحرب وتؤمن بالسلام فرض إجراء حوار طُرحت خلاله وجهات نظر مختلفة. ورغم نجاح دول محايدة تجاه الحرب في تضمين البيان الختامي إشارة واضحة إلى ضرورة مشاركة جميع الأطراف في جهود سلمية مقبلة، فقد امتنع عدد من المشاركين عن توقيعه.
وليس هذا إلا أحد تجليات تصلب موقف أوكرانيا وحلفائها والذي يُقابل بتشدد روسي إضافي ظهر مجددا عشية انعقاد المؤتمر في إعلان موسكو تمسكها بما يمكن اعتباره موقف الحد الأقصى، وهو تخلي أوكرانيا عن سعيها للانضمام إلى حلف "الناتو" وسحب ما بقى لها من قوات في أربع مناطق أعلنت روسيا ضمها بموجب استفتاءات أجرتها في سبتمبر/أيلول 2023، وهي: دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزابوروجيا.
رغم نجاح دول محايدة تجاه الحرب في تضمين البيان الختامي إشارة واضحة إلى ضرورة مشاركة جميع الأطراف في جهود سلمية مقبلة، فقد امتنع عدد من المشاركين عن توقيعه
وهكذا، فإن هناك موقفا روسيا أُعيدت صياغته ليكون أكثر تشددا، وسعيا أوكرانيا-غربيا إلى تأمين سبل مواصلة الحرب، في غياب أي تواصل أو حوار مباشر بين الطرفين. ومن شأن هذا التمترس المتبادل أن يجعل الصراع صفريا (Zero Sum Game)، إذ يتمسك كل من طرفيه بالحد الأقصى لموقفه، فينغلق الطرفان فعليا أمام التوصل إلى حل وسط.
معارك تكتيكية... واستنزاف مُتبادل
الصراع الصفري هو الأكثر صعوبة في البحث عن حل له. فالجمود السياسي أحد أبرز خصائصه. وعندما يقترن بجهد عسكري نسبي، نكون إزاء نمط الحرب المُجمدة حيث تدور معارك تكتيكية صغيرة على الأرض، ويسعى كلا الطرفين إلى استنزاف قدرات الثاني.
وهذا هو حال حرب أوكرانيا منذ فشل الهجوم المضاد الثاني الذي شنته كييف- ربيع وصيف 2023- في استعادة المناطق التي فقدتها. وفيما تلتزم القوات الأوكرانية الآن مواقعها الدفاعية، وتسعى إلى تحصينها، تحاول القوات الروسية تحقيق تقدم في بعض المناطق الحدودية التي استعادتها كييف في الهجوم المضاد الأول عام 2022، وتشن هجمات مستمرة في هذا الاتجاه منذ انتهاء الانتخابات الرئاسية في موسكو منتصف مارس/آذار الماضي.
ورغم أن تقدم هذه القوات بطيء جدا، إذ لم تسيطر روسيا سوى على عدد قليل من البلدات الصغيرة في المنطقة الحدودية شمال شرقي أوكرانيا، فهي تحاول تكريس الأمر الواقع عبر إرغام القوات الأوكرانية على التراجع. وقد اعترف رئيس الأركان ألكسندر سيرسكي بهذا الوضع الصعب في آخر أبريل/نيسان الماضي. وأقال الرئيس زيلينسكي في بداية مايو/أيار الماضي قائد العمليات الخاصة للمرة الثانية خلال ستة أشهر، بعد أن أجرى تغييرا في رئاسة هيئة أركان القوات المسلحة.
غير أن تركيز القوات الروسية على تكريس الأمر الواقع، وليس السعي إلى تحقيق اختراقات كبرى في أي من جبهات القتال، لا يخلو من دلالة مهمة. فمن يلجأ إلى هذا التكتيك يهدف غالبا إلى تهيئة الوضع على الأرض بطريقة تدعم مركزه في المفاوضات عندما يجيء أوانها سواء قرُب أو بعُد. وإذا كان الوضع الناتج من هذا الأمر الواقع يضغط على كييف، فالمتوقع أن يُحدث تلقيها الأسلحة الأميركية التي طال تأخرها ضغطا على موسكو أيضا. فقد استفادت القوات الروسية من نقص العتاد الأوكراني، وخاصة الذخيرة التي تلعب دورا محوريا في حروب تعتمد على الدبابات والمدافع، إلى جانب المسيرات. ولكن الكونغرس مرر في 20 أبريل حزمة مساعدات كبيرة بقيت مُعطلة لأكثر من أربعة أشهر، في إطار تسوية مع البيت الأبيض أسفرت عن إصدار "قانون الأمن القومي" الذي يتضمن مساعدات لكل من إسرائيل وتايوان أيضا.
وربما تكون الأسابيع المقبلة، التي ستستعيد فيها أوكرانيا القدرة على صد الهجمات الروسية، ومن ثم تحقيق شيء من التوازن في الميدان، ملائمة للبحث عن نقطة بداية لعملية سلمية عبر البناء على مؤتمر بورغنستوك وخاصة ما ورد في بيانه الختامي عن ضرورة مشاركة جميع الأطراف في الجهود السلمية المقبلة.
بأيديهما أم بيدي ترمب؟
ربما يكون من الأفضل لكل من روسيا وأوكرانيا اتخاذ خطوة تدل على استعدادهما للتفاوض قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. خطوة جادة، أو حتى رمزية، ستكون مهمة في حالة فوز ترمب وعودته إلى البيت الأبيض. ففي مصلحة الطرفين أن يُحددا، بالتعاون مع الدول المحبة للسلام في العالم، الأساس الذي تُبنى عليه عملية سلمية لا بديل عنها في البداية. ومن شأن مثل هذه الخطوة أن تملأ جزءا من الفراغ الذي قد يتيح لترمب فرض صيغة للسلام بطريقته. فلن تكون كييف الخاسرة وحدها إذا التزم ترمب بتعهده إنهاء الحرب. ربما تكون خسارتها أكبر إذا بُنيت هذه الصيغة على الأمر الواقع الذي تسعى موسكو إلى تكريسه. وقد يُفرض عليها التنازل عن المناطق الأربع أو أجزاء متفاوتة فيها، إلى جانب شبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها روسيا عام 2014.
ربما يكون من الأفضل لكل من روسيا وأوكرانيا اتخاذ خطوة تدل على استعدادهما للتفاوض قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. خطوة جادة، أو حتى رمزية، ستكون مهمةً في حالة فوز ترمب وعودته إلى البيت الأبيض
ولكن ترمب لن يفعل ذلك، إن حدث، هدية لموسكو، بل في مقابل تفاهمات سياسية وعسكرية قد لا ترضاها. وتستطيع القيادتان الروسية والأوكرانية تجنب مثل هذا الاحتمال، والتحرك خطوة إلى الأمام بمنطق "بأيدينا لا بيدي ترمب". ولكن هذه الخطوة تتطلب حتى لو كانت صغيرة تغييرا كبيرا في طريقة تعاملهما مع الحرب، وفي العقلية الصفرية الغالبة لدى كل منهما. فلا سبيل إلى عملية سلمية جادة إلا إبداء استعداد متبادل للنزول من الشجرة التي اعتلاها الطرفان، والتراجع التدريجي عن الحد الأقصى الذي يتمسك به كل منهما، لتيسير جمعهما عند نقطة يمكن أن يبدأ التفاوض عندها. وربما يجدان هذه النقطة في الطرح الروسي الذي رفضته أوكرانيا في محادثات إسطنبول في أبريل 2022. صحيح أن مياها كثيرة جرت منذ ذلك الوقت. لكن العرض الذي قدمته موسكو حينها ما زال هو الأكثر ملاءمة لإحلال السلام. فقد عرضت أن تتخلى كييف عن رغبتها في الانضمام إلى حلف "الناتو"، وهو أحد شرطيها الحاليين، والاتفاق على وضعٍ خاص لإدارة المناطق التي توجد بها أقليات روسية. وهي نفسها المناطق التي أعلنت ضمها بعد ذلك.
وهذه نقطة بداية مناسبة لعمل سلمي جاد يمكن أن يُثمر. فقد ثبت أن إصرار كييف على الانضمام إلى "الناتو" كلَّفها الكثير. وقد تكون كلفته أكبر في حالة فوز ترمب، الذي لا يحفل كثيرا بهذا الحلف، الأمر الذي يجعل اختيارها تبني سياسة محايدة في العلاقات الدولية هو أكثر ما يُحقق مصالحها ويُمكَّنها من التركيز على عملية تنمية وتعويض شعبها عن معاناة الحرب. كما تستطيع في هذه الحالة أن تطلب مشاركةً روسية كبيرة في إعادة إعمار ما هُدم خلال الحرب.
توجد، إذن، إمكانات لإطلاق عملية سلمية جادة رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجهها الآن، ولكن فقط في حالة تغيير ذهنية الصراع الصفري السائدة الآن.