بعد ثمانية أشهر على الحرب التي تشنّها إسرائيل في غزة، مستغلة في ذلك العملية الهجومية التي شنتها حركة "حماس" (7/ 10/ 2023)، باتت أهداف تلك الحرب، غير المسبوقة، غاية في الوضوح على أرض الواقع، رغم تعمد حكومة بنيامين نتنياهو إرسال إشارات غير واضحة عن حقيقة مراميها، مركزة في ذلك على استعادة مخطوفيها أو أسراها، واستئصال خطر حركة "حماس" والحؤول دون تكرار مثل تلك العملية مستقبلا.
على ذلك، فإن البحث في الأهداف الحقيقية لتلك الحرب لا تكمن في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، الكثيرة والمتضاربة، وإنما في أشكال الحرب التي اعتمدوها واستهدافاتها ونوعية أسلحتها ومجمل التداعيات الناجمة عنها، سياسيا وأمنيا واجتماعيا واقتصاديا.
ومنذ الأيام الأولى وطوال الأشهر الثمانية الماضية، استخدمت إسرائيل جبروتها العسكري لإلحاق أكبر خسائر بشرية في الفلسطينيين وتدمير عمرانهم وهدم بيوتهم. وعملت على حرمانهم من كل ممكنات العيش، من الماء والكهرباء والغذاء والوقود والدواء والمأوى، بهدف واضح ومحدد هو تحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش ودفع الغزيين إلى تركه (يقدر بعضهم أن ثمة 200 ألف غزي تركوا القطاع بعد دفع مبالغ طائلة).
هذا الوضع لا يلغي أن الفصائل الفلسطينية ظلت تقاتل وتشتبك وتقصف، وأن إسرائيل لم تستطع تحرير أسراها، إلا أن المقارنة لا تقاس بين ما استطاعته المقاومة وما فعلته إسرائيل في قطاع غزة وفي أكثر من مليونين من الفلسطينيين من سكانها الذين اختفى عالمهم، وليس ثمة شيء بقي لهم كي يعودوا إليه، في اليوم التالي للحرب.
الناحية الأخرى، التي يفترض الانتباه إليها هنا أن إسرائيل تحاول عبر نموذج حربها في غزة، ترويع الفلسطينيين وإخضاعهم لإملاءاتها، من النهر إلى البحر، والتخلص نهائيا من فكرة الدولة الفلسطينية التي ترى أنها ستقوم على حساب إسرائيل كدولة يهودية وهو الهاجس الذي تملّك نتنياهو منذ صعد إلى رئاسة الحكومة في حقبته الأولى (1996-1999) بعد اغتيال إسحق رابين وهو ما تابعه في حقبتيه، الثانية (2009-2021) حيث كرس فكرة إسرائيل كدولة يهودية (في نص دستوري 2018) والثالثة (2022 حتى الآن) بانتقاله نحو تكريس إسرائيل كدولة يهودية ودينية، على حساب كونها دولة ليبرالية وديمقراطية (لسكانها اليهود)، مع حسم الموضوع الفلسطيني نهائيا.
مع ذلك، فإن فكرة "اليوم التالي" للحرب، هي فكرة مخاتلة فعلا، إذ ما الذي سيبقى للفلسطينيين بعد تلك الحرب، حتى لو انسحبت إسرائيل كليا أو جزئيا. إذ إن تلك الفكرة تتحدث عن الواقع السلطوي الذي سينشأ، وليس عن حال فلسطينيي غزة، الذين سيجدون، في اليوم التالي، أن القطاع بات منطقة خراب مهولة، كأكبر منطقة خراب في العالم، وأكبر مقبرة في العالم، وأكثر مكان لا يمتلك فيه الناس مأوى أو مصدر عمل، أو مقومات حياة، باستثناء ما قد تجود به المساعدات الخارجية، التي بالكاد تُمكّن من تبقى في غزة من العيش.
في الحديث عن "اليوم التالي"، أيضا، ثمة سيناريوهات إسرائيلية واضحة ويجري ترسيمها على الأرض، بعكس الحديث الرائج عن عدم وجود خطة لـ "اليوم التالي". وبحسب أودي ديكل (1/ 3/ 2024)، في 23 فبراير/شباط 2024، نشر نتنياهو خطة من عدة نقاط، تنص على أن "إسرائيل ستحافظ على حرية العمليات في قطاع غزة بأكمله، دون حدود زمنية، من أجل منع عودة ظهور الإرهاب ومنع أي تهديدات من غزة". وأن "المنطقة الأمنية التي أقيمت في قطاع غزة، في محيط حدود إسرائيل، ستظل قائمة طالما أن هناك حاجة أمنية إليها". وأن إسرائيل تحتاج إلى "إغلاق جنوب الحدود بين غزة ومصر لمنع تعزيز الإرهابيين مرة أخرى في قطاع غزة".
أما في ما يتعلق بالشؤون المدنية، فإن "المسؤولين المحليين، ذوي الخبرة الإدارية، الذين لا يرتبطون بدول أو منظمات تدعم الإرهاب، سيكونون مسؤولين عن الإدارة المدنية والنظام العام في قطاع غزة".
وفي الختام، يكرر نتنياهو اعتراضه على إقامة دولة فلسطينية من جانب واحد... أي لا "حماسستان" ولا "فتحستان". (أودي ديكل، "معهد بحوث الأمن القومي في إسرائيل"، 21/ 3/ 2024).
وكان الصحافي الإسرائيلي رون بي يشاي قد تحدث عن تلك الخطة، بمنظور مستقبلي، وأن "نتنياهو معني بأن يصبح قطاع غزة كيانا منفصلا... يرتبط بالعالم الواسع في ممرين– بري وبحري. هذان الممران يسمحان للغزيين (يقصد من يتبقى منهم) بالتحرك بحرية نسبية من وإلى القطاع، وأن يقيموا علاقات تجارية واقتصادية مع دول أجنبية وأن يصطادوا في مياه شواطئهم، كل هذا دون أن يمروا بإسرائيل. ومع ذلك، تراقب إسرائيل الحركة في الممرين كي تمنع تهريب الوسائل القتالية والمواد الخام التي تسمح بإنتاج السلاح وإقامة بنى الإرهاب". وأن نتنياهو معني بأن يكون في عضوية هذا الجسم الولايات المتحدة وبعض الدول العربية والإقليمية "كي يمولوا الإعمار، وإرادة للإبقاء على تجريد القطاع من السلاح ومنع أعمال الإرهاب كي لا تضيع الاستثمارات هباء... يمكن الافتراض أن إقامة الرصيف العائم على شاطئ غزة هذه الأيام هو جزء من مبادرة أصيلة لرئيس الوزراء" ("يديعوت أحرونوت"- 16/ 3/ 2024).