تنتقل الأنظار من غزة وقطاعها ومآسيها إلى لبنان وجنوبه. تبادل التصريحات والتهديدات والتسريبات والضربات بين إسرائيل و"حزب الله" وسط تحذيرات من تدهورها إلى حرب شاملة تخرج عن "قواعد الاشتباك" الأصيلة والمعدّلة.
مصدر القلق أن التسريبات من "حزب الله" والجيش الإسرائيلي التي ترمي إلى "الردع"، قد يصعدها بنيامين نتنياهو لاتخاذ قرار بالحرب باستغلال "نوافذ" للولوج الى الحرب: دخول الكنيست الإسرائيلي في العطلة الصيفية، خطابه في الكونغرس الأميركي، دخول الكونغرس الأميركي بالإجازة، موسم الانتخابات الرئاسية، وأشهر الصيف في العادة، هي مواعيد حروب إسرائيل العربية.
وفي حال اندلعت المواجهة بين "الحزب" وتل أبيب، هناك أسئلة كثيرة بعضها يتعلق بموقف طهران ووكلائها وحلفائها، وبين الأسئلة المهمة، هناك موقف دمشق. مهم لأسباب عدة، أحدها أنها ممر لنقل السلاح والخبرات من إيران والعراق إلى "حزب الله".
كيف سيكون موقف الرئيس السوري بشار الأسد؟ هل يختلف موقفه في حرب لبنان عنه في حرب غزة؟ وهل سيختلف الانخراط في 2024 عنه في حرب يوليو/تموز 2006؟
باختصار: كل المؤشرات ترجح بأن يكون موقف دمشق امتدادا لموقفها من الهجوم على غزة، ومختلفا عن موقفها من حرب لبنان قبل 18 سنة. لكنها ستتعرض إلى ضغوط إيرانية أكثر، لكي تتدخل وتسهّل وصول السلاح إلى "الحزب"، وهو الأمر الذي لم يكن مطروحا مع "حماس". وهذا الأمر سبق أن ناقشه الزميل حايد حايد في "المجلة".
ولفهم الموقف الحالي، لا بد من العودة إلى ما قبل 18 سنة. حرب يوليو 2006 جاءت في ظروف مختلفة عن الآن. كان الجيش السوري قد خرج من لبنان في أبريل/نيسان 2005 بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري في فبراير/شباط من العام ذاته. وقتذاك، فُرضت على دمشق عزلة عربية ودولية.
دمشق ليست في وارد فتح جبهة الجولان من أجل "حماس" وتنفيذا لطلبات إيران
"حرب تموز"، كانت اختبارا لدمشق، استخدمتها لـ "تقول" أن نفوذها في لبنان لم يتأثّر بعد الانسحاب العسكري. والأهم، لتظهر إن لديها أوراقا في لبنان، فاستخدمت الحرب في محاولة لفكّ العزلة. بالفعل، كل المعلومات تفيد بأن دمشق لعبت دورا في الحرب، وأرسلت الصواريخ والذخيرة عبر الأنفاق والمهرّبين الذين أخرجتهم من السجون مقابل "مهاراتهم التهريبية" في إيصال السلاح عبر الأنفاق والطرق الوعرة إلى لبنان و"حزب الله".
مع مرور الزمن والسنوات تغيرت الأمور. "حزب الله" تدخل بعد 2011 لدعم الجيش السوري بالوسائل السياسية والإعلامية والعسكرية، وباتت عناصره، وهي بالآلاف، منتشرة في ساحات المعارك وخصوصا في مفاصل حيوية من الأراضي السورية المقسّمة حاليا إلى ثلاث مناطق نفوذ.
بات إخراج عناصر "حزب الله" والميليشيات الإيرانية مطلبا غربيا وعربيا، عبر الضغط العسكري أو عبر الإغراءات. وبدأت إسرائيل منذ سنوات- وبمباركة روسيا ذات الثقل العسكري في سوريا- سلسلة من الهجمات لملاحقة "مواقع إيران" و"حزب الله"، وصعّدت في الأشهر الأخيرة من حملتها باستهداف قيادات من "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" في جنوب سوريا وووسطها وغربها وشرقها.
أما دمشق، فكانت في أدنى حدود القول تتابع الحرب الإسرائيلية– الإيرانية على الأراضي السورية. وهناك من قال إن بعض مسؤوليها كانوا سعيدين بمشاهدة "فخار يكسّر بعضه بعضا". جاءت حرب أكتوبر/تشرين الأول في غزة، لتكشف الموقف السوري الجديد. بـالأصل هناك توتر ضمني كبير بين المسؤولين السوريين و"حماس" لم تلغه كليا الوساطة الإيرانية، فانتهزت دمشق الحرب لتكشف عن حيادها. إلا أن هذا ليس جوهر الموقف. جوهر الموقف أن دمشق أرادت القول إنها مختلفة عن طهران. وكلاء إيران في البحر الأحمر والعراق وسوريا ولبنان يهاجمون أميركا أو يهدّدون إسرائيل، لكن دمشق ليست في وارد فتح جبهة الجولان من أجل "حماس" وتنفيذا لطلبات طهران. هذا الموقف أدّى إلى توتر سوري– إيراني عزّزه عدم مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في مراسم جنازة الرئيس إبراهيم رئيسي (الأسد زار طهران بعد الجنازة).
على اعتبار أن دمشق استخدمت المشاركة في حرب 2006 لفك العزلة العربية والغربية، فإنها ستستخدم أي حرب مقبلة في 2024 عبر عدم المشاركة فيها للغرض ذاته
هل تتّخذ دمشق الموقف نفسه من حرب لبنان؟
لم يعد "بقاء النظام" رهنا بتدخل إيران و"حزب الله"، هو مهم في وضع حدود لتدخل أميركا وتركيا وحلفائهما السوريين في شمال البلاد وشرقها، لكنه ليس بالأهمية ذاتها في جميع الأراضي السورية وخصوصا في العاصمة دمشق وحولها. لذلك، فإن عناصر القرار السوري يرجح أن تبنى على الآتي:
أولا، على اعتبار أن دمشق استخدمت المشاركة في حرب 2006 للخروج من الثلاجة، فإنها ستستخدم أي حرب مقبلة في 2024 عبر عدم المشاركة فيها للغرض ذاته: فك إضافي للعزلة، لكن هذه المرة عبر عدم الدخول في الحرب والابتعاد عن "محور الممانعة".
ثانيا، هناك في دمشق من يأمل أن تشكل أي حرب مقبلة بين "حزب الله" وإسرائيل فرصة كي تنسحب بعض تشكيلات "حزب الله" من الأراضي السورية، أي تلبية مطلب غربي وعربي بحكم الأمر الواقع وليس بموجب تسوية، خصوصا أن هذا الوجود لم يعد حيويا لـ"بقاء النظام" كما كان الحال قبل عقد.
يوفر التطبيع العربي وتصاعده ذخيرة إضافية لدمشق كي تتعاطى مع ضغوط طهران وحسابات "حزب الله"، عبر البقاء في "محور الممانعة" مع تجميد العضوية "العسكرية" الفاعلة فيه
ثالثا، في حال حصول حرب "كسر عظم"، ستضع طهران كل ثقلها وأدواتها مع "حزب الله"، عنصر الضمانة الأساسي لتوغلها في المنطقة وبرنامجها النووي وتفاهماتها مع أميركا. بالتالي فإنها ستمارس ضغوطات إضافية لزج دمشق في هذه المعركة سواء بشكل مباشر أو "الوكلاء" في العراق وسوريا وغيرهما، أو من خلال محاولة تمرير السلاح عبر الأراضي السورية إلى لبنان.
رابعا، يوفر التطبيع العربي وتصاعده ذخيرة إضافية لدمشق كي تتعاطى مع ضغوط طهران وحسابات "حزب الله". قد تختار البقاء في "محور الممانعة" مع تجميد العضوية "العسكرية" الفاعلة فيه.
لا خلاف أن هامش المناورة أمام دمشق، في أي حرب إسرائيلية مع "حزب الله" أضيق مما هو الحال في حرب غزة. في الحالة الثانية، ساهمت اتصالات عربية بالأصالة أو بالنيابة عن أميركا، مع الأسد في تثبيت الحياد السوري، وسيكون مهما متابعة تفاصيل الإغراءات العربية والضغوطات الإيرانية في حال تدحرج كرة النار الإسرائيلية في لبنان من جنوبه شمالا.