وثيقٌ هو اختراع المقعد في الحديقة العامة قياسا إلى تحضر الإنسانية فيما تدبّر حياة الأفراد والجموع ضمن حيز الفضاء المشترك للمدينة. لن نتعقب تاريخ هذا الاختراع البديع -الذي تعود ولادته بحسب الحفريات إلى حضارات بكر قبل أن يشهد طفرة في الحقبة الرومانية ويصير على ما هو عليه مع الثورة الصناعية في بريطانيا وصولا إلى تشعّب أشكاله المعاصرة- بقدر ما سنتعقب أثره الجمالي وفق انطباعات خاصّة.
بزغ هذا الاهتمام فجأة وأنا أفكّر في موت الفنان التشكيلي المغربي الجيلالي الغرباوي على مقعد حديقة في باريس، وقبله عُثر على إدغار آلن بو محتضرا على مقعد في بالتيمور يعاني من مضاعفات سكر مفرط، الأرجح أن تكون قد كهربت دماغه حمى الكحول الجارفة، وبالمثل يضع المسرحي جثة صديقه الموسيقي على مقعد عام في ختام الفيلم السويدي "على مقعد في حديقة" للمخرج هاس أيكمن 1960، ثمّ موت واقعي آخر لصاحب "الحرب والسلم" الروائي تولستوي على مقعد في محطة قطار، أو على النقيض كما يجلس ألكسندر بوشكين قيد حياته على مقعد في الحديقة في لوحة لل رسّام فالنتين سيروف، ويشبهه مجازيّا جلوس الشاعر الياباني ساكوتارو هاجيوارا على المقعد في الحديقة داخل إحدى قصائده بالعنوان نفسه، وهكذا دواليك.
في العزلة على المقعد يزهر طقس الاستغراق في الداخل والخارج
يغدو المقعد نعشا وقبرا في آن لهؤلاء الذين لفظوا أنفسهم على متنه، على المصطبة الخشبية أو الإسمنتية، وقس على ذلك حديدا وغيره، مصطبة استضافت المشهد الأخير في حياتهم الغامضة. تندغم أرواح هؤلاء في نزعها الختاميّ بكيمياء المقعد وتتحول بصورة من الصور إلى شاهدة. هل يدرك الجالسون اللاحقون على المقاعد ذاتها التي شهدت حوادث موت فنانين وأناس عاديين على حدّ سواء ما تكتنزه من اللحظات الفارقة؟ حتما سيتحاشون الجلوس عليها لو يعلمون بالأمر، والسبب ليس تطيرا في الغالب، وإنما احتراما وتقديرا لتلك الأرواح الموشومة، كما قد تغدو النظرة إلى هذه المقاعد ارتيابية، فإما هي ملعونة ذات نغمة شؤم، أو هي مقدّسة لأنّ روح كاتب أو شاعر أو رسام مهرت على مصطبتها بختم النهاية، مما يجعلها نصبا تذكاريا يخلّد لحظة الأفول تلك، أو هي القطعة الراسخة في الحياة الموصولة بالموت، بالنظر إلى ما شهدته من حوادث المنامات اللاعودة منها لهؤلاء المشاهير وغيرهم.
ننفرد بمقعد في ساحة أو حديقة أو شارع. ننعم بفضيلة عزلة في المشهد العام، حاشدا كان أو فارغا. مقعد بلا تذكرة في سينما الواقع، نهارا أو ليلا، نلوذ إليه مصادفة في الغالب إما من فرط التعب، أو تزجية لوقت يليق بالفضاء الذي غُرس فيه المقعد، أو لمآرب أخرى.
يتساوى اللائذون بالمقاعد، مجرمون وضحايا وعشاق ومدمنون ورسامون وكتاب ورجال دين وشباب وشيوخ ورجال ونساء ومجانين ومرضى وأصحاء وجواسيس ومشردون وفقراء وأغنياء... كلّ يترك ظل وجوده على مصطبة المقعد، وبذا تترف ذاكرة المقاعد كأنها خزانة حيوات عابرة لكل من لامسها أو جلس فيها، حيوانا أو إنسانا أو طيرا.
لا أبدع من أن نلوذ بها وهي حكر لنا للحظة، وما أنشز اللحظة حينما يشاركنا آخرون الركون إليها. لا تستقيم متعة الملاذ بالمقعد إلا حينما نتفرّد به، ويصير جزءا من وجودنا، عضوا من أعضاء أجسادنا، نتماهى معه، ويتماهى معنا، وفي العزلة على المقعد يزهر طقس الاستغراق في الداخل والخارج، إما نشرد وهو أعز ما يطلب، أو نرمّم خرابا داخليا، نرتّب فوضى أو نقلّم أعشابها الوحشية الزاحفة في الجهات، نهدّئ روع عاصفة أو نلطّف سعار خطط انفعالية، نتداعى في مجرى حنين إلى أمس صاخب أو نحلق في ما سيأتي تخييلا، نرمي بنرد النظرة كيفما اتفق فنظفر بأشياء هاربة، لا مألوفة ضمن المشهد المألوف، نتحوّل بدورنا إلى لقطة سينمائية ضمن الحيّز بالنسبة الى راء آخر يرتكن إلى مقعد في المحاذاة أو بالمقابل، ربما عابر أو متلصص من شرفة.
هل يفكّر الجالس على المقعد في المشهد العام، في ما يهجس له خشب أو حديد أو رخام الكرسي؟
قصائد موشومة كتبت هنا، مشاريع قصص وروايات اندلعت شراراتها هنا، رسائل غرام اشتعل ربيعها هنا، ألحانُ أغانٍ أُمسِكَ برؤوس أنهارها هنا، لوحات هسهست ألوانها هنا، ظواهر فيزيائية مدهشة عنّتْ رؤاها هنا، مدُّ لقاءٍ وجزْرُ فراقٍ عانقهما شاطئ المقعد هنا، قبلات وعناقات، منامات وحشرجات، قتل وسلم، احتجاب وتمرءٍ، تجذّر وطيران... كلها حوادث، حالات، طقوس، يوميات، متغيرات، فصول ازدهرت بها كينونة المقعد، تشرّبها أو لبسها وباتت تاريخا سريا لمن يحسن قراءته، أو الإنصات إليه.
يتحوّل المقعد في المشهد العام إلى مسكن للمتشرّد والغريب، قلما يبدله بمقعد آخر
يتعتق المقعد إذ يتقادم لونه أو يهترئ خشبه فيصبح أيقونة، قطعة فنية، وأكثر حينما تطاله الخدوش بنصل سكين أو تدمغه كتابة بحبر أو جرح، رسمٌ بمسمارٍ أو ترميزٌ بصباغةٍ، فيتحوّل إلى نصّ متشابك العلامات، نصّ لمبدعين مجهولين، عبروا صفحته وتركوا أثرهم عن سبق نية تخريب تحوّل بقدرة قادر إلى عمل فنّي، أو عن سبق نية إبداع تحوّل بقدرة قادر إلى نشاز، وفي كل الأحوال ما من خدش يطاله كجرح إلا ويكتب سيرة المقعد بصورة من الصور، عكس ما يتوهمه مُحدث الأثر بأن هذا يدلّ عليه كذات خلّدت عبورها بوشم.
لا قيء السكارى ولا ذرق الطيور ولا بول الكلاب ولا دم الجريمة ولا قمامة السياح تقوّض شعرية المقعد في المشهد العام، بل تضاعف غرابته وبخاصّة حينما نرمقه فارغا في عبورنا المارق، وإذ ترتمي عليه نظرتنا تحتشد بموجز تاريخه وهو يقول في حالات عزلته وصمته خاليا منّا، ما لا يقوله في حالات امتلائه واكتظاظه بنا.
في نمط حياة شائعة، يتحوّل المقعد في المشهد العام إلى مسكن للمتشرّد والغريب، قلما يبدله بمقعد آخر، فيصير المقعد أريكته الأبدية في بيت العالم.
لا يمكن نسيان مقاعد موشومة في المشهد العام في أكثر من مدينة وبلاد، إنها من فرط تماهينا معها والعكس، تسافر معنا، تلازمنا وتحيا في داخلنا، بل أحيانا تسبقنا ما أن نعود إلى البيت على سبيل المجاز.