الجماهير الجديدة وتغيّر مفهوم النجم بين الماضي والحاضر

علاقة دونية تنتجها الشركات العملاقة

AFP
AFP
الفنان المصري عمرو دياب خلال حفلته في بيروت الصيف الماضي

الجماهير الجديدة وتغيّر مفهوم النجم بين الماضي والحاضر

كان عبد الحليم حافظ نجم نجوم زمانه، إلى درجة أن خبر وفاته دفع بالشابة أميمة عبد الوهاب التي كانت تبلغ حينها 21 عاما إلى الانتحار حزنا عليه.

دائرة النجومية الهائلة لم تسمح له بالخروج عن عقد مبرم وغير معلن يجعل من أي فنان وبغض النظر عن شعبيته ومكانته صناعة جماهيرية. من هذا القبيل، أن خروجه عن طوره في حفلة "قارئة الفنجان" الشهيرة التي تعمد فيها بعض المشاغبين إزعاجه بالصفير المتكرر، لم يعطه الحق في الرد بالمثل. فأدرج توبيخه أولئك المشاغبين في عداد الذنوب التي لا تغتفر وفجّر في وجهه حملات نقد شرسة. حتى وجد نفسه مجبرا على التبرير وتأكيد أن انفعاله كان موجها إلى مجموعة من المشاغبين المدسوسين وليس إلى الجمهور.

اختلف الأمر تماما مع نجوم اليوم، ففي الآونة الأخيرة انتشر فيديو لـ"الهضبة" عمرو دياب خلال مشاركته في إحياء حفل زفاف وهو يصفع أحد المعجبين. اللافت أن تلك الفعلة- وبغض النظر عن الأسباب التي دفعت دياب إلى القيام بها- بدت مستساغة ومقبولة، وانبرى كثر إلى تبريرها بدعوى أن الشاب تعمّد إزعاج النجم. رد الفعل هذا بات مشرعنا وطبيعيا. فمثل هذا النوع من العلاقة بين النجم والناس لا يقتصر على عمرو دياب بل يشمل الكثير من النجوم بدرجات تتفاوت في طبيعتها ولكنها تعكس نشوء شكل جديد من العلاقة بين النجوم والجماهير.

لم يعد المهووسون بالفنانين يعكسون نموذج الجماهير كما يحضر في الذاكرة أو كما كان عليه في زمن عبد الحليم

يشير التطبيع العام مع سلوكيات النجوم إلى نهاية مفهوم الجمهور كما نعرفه، إذ أن النجم لم يعد مدينا لهذا الجمهور بنجوميته، بعدما بنى النوع الجديد من المعجبين علاقة دونية مع نجوم تنتجهم سلطات مستعلية كالشركات العملاقة ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.

 لم يعد المهووسون بالفنانين يعكسون نموذج الجماهير كما يحضر في الذاكرة أو كما كان عليه في زمن عبد الحليم، بل يشكلون مشهدا أقرب إلى التيارات المتشددة والمتعصبة والمغلقة. فهم يمثلون بنية عصبوية تسبغ على النجم صفات من لا يخطئ، ولا تقبل توجيه أي نقد إليه ولا تسمع غيره وتعيب على الآخرين رداءة ذوقهم وسخافة رأيهم.

AFP
عبد الحليم حافظ أواخر ستينات القرن الماضي

 قد يكون ممكنا فهم الأمر قياسا إلى ما أنتجته لحظتنا من تسارع وما بنته من أنماط عيش، لكن المشكلة أن هذا السياق من العلاقات المأزومة مع النجومية والموسيقى شرع بمحاولة تطبيق معاييره على التراث الموسيقي والغنائي. فبتنا نجد صفحات ومقالات منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإلكترونية تنسب نفسها إلى شخصيات موسيقية أو غنائية معروفة وتعمد إلى إسقاط تلك العلاقة المستجدة عليها، وتعميم التعصب وإحياء صراعات التفوق.

موسيقاران وأجيال

في الآونة الأخيرة بدا أن لقب "موسيقار الأجيال" دخل حلبة الصراع مع بروز صفحة على "فيسبوك" تتعصب للموسيقار بليغ حمدي تحت عنوان "بليغ حمدي موسيقار الأجيال الحقيقي"، بمعنى أن كل ما ينسب إلى عبد الوهاب إنما هو حق ضائع من حقوق بليغ حمدي.

لا تغيب صيغة التآمر عن منطق التفكير. ما ينشر على تلك الصفحات لا يفتح آفاقا قد تكون مفيدة في الكشف عن أسرار التأليف عند عبد الوهاب وبليغ حمدي، ولا يعرض مقاربة موسيقية أو يضع أعمالهما في سياقاتها ويطرح مسألة التفاضل بينها من داخل عملية البناء الفني للألحان. تكتفي المواد المنشورة بإعلان التعصب لبليغ كما هو حال الصفحات الموالية لعبد الوهاب، فلا نكتشف شيئا ولا حتى نستذكر ما نعرفه من معلومات، بل ندخل في حفلة تعصب تستعيد لغة التطرف ومنطقه، ويعتبر أصحابها ان الموسيقى قد توقفت مع وفاة النجم المفضل وأنها كانت في الأساس مقتصرة عليه.

وكان لقب موسيقار الأجيال قد مُنح للملحن الأشهر في العالم العربي محمد عبد الوهاب تقديرا لنجاحه في التفاهم مع أذواق أجيال مختلفة. لا ينقص الموسيقار الراحل الأشياع والمحازبين والمتعصبين بل إن العديد من كبار الموسيقيين يقرون له بالصدارة ويحرصون على توصيف أسبابها الموسيقية وشرح مؤلفاته موسيقيا وفنيا. لكنّ الصفحات التي تحاول تقديم مادة رصينة حوله لا تكاد تظهر ويقتصر متابعوها على قلة قليلة. وحتى مع حرص القيمين عليها على تقديم مواد لغير المختصين، يبقى الاهتمام ضعيفا ومحدودا للغاية، في حين تحظى الصفحات التي تعلن التعصب والتحزب بمتابعات مليونية مع أن معظمها يكتفي بإعادة نشر الأعمال وحسب، وتقتصر التعليقات على عبارات الإعجاب وذم المنافسين.

خلق بليغ حالة رواج استثنائية في زمنه ولكن أثرها الأبرز كان في التأسيس للمنتَج الذي لا يحتاج إلى جماهير

يلعب بليغ حمدي في ذهن متعصبيه دور منتج الأغاني الأكثر رواجا والأكثر تطابقا مع أحوال الأجيال، ويمثل كذلك حداثة وقدرة على الاستمرارية لا تتوفر لسواه. يتم الاستشهاد بشبابه وبكونه أصغر من لحّن للست أم كلثوم، ويوظف ما اشتهر به من سرعة الإنتاج وغزارته في سياق البرهنة  على عبقرية لا تضاهى.

الحالم والمعلم

تفسير التعصب لبليغ، قد يعود إلى قابلية عدد كبير من الأغاني التي لحنها للتوظيف المباشر والاستعمال الشخصي للتعبير عن أحوال عاطفية محددة، كما أن الصيغة العامة لأعماله تحارب ثقل الواقع العام وتنشئ حالة تنفيس ووعود.

WikiCommons
محمد عبد الوهاب

لحن بليغ خطابات حب يمكن تبادلها بين العشاق وحرص -حتى في ألحانه الوطنية- على الابتعاد عن النشيدية وخلق بعدا عاطفيا رومانسيا للوطن والقضايا بأسلوب يعتمد على سطوة الإيقاعات. يمكن القول إن جل نتاجه كان مشخصنا وراقصا واحتفاليا، وعموميته وشيوعه ينبعان من تلك الأبعاد. لقد رقّص الألم والحنين والغربة والوطن فبدا كل ثقل عابرا وآيلا الى الزوال وذلك بغض النظر عن عناصر التماسك الفني والموسيقى وبناء العمل. لقد بنى مناطق هروب وأحلام وعزاء واستجاب لضرورات اجتماعية وسياسية في توقيت مناسب. 

عبد الوهاب لم يكن معاديا للخفة والترقيص، ولكنه كان يسعى على الدوام إلى أن تكون تلك العناصر جزءا من التكوين الموسيقي والبنائي للأغنية والعمل الموسيقي وليست حالة تسقط عليهما استجابة لضرورات خارجية. كان يعتبر أن السلطة كل السلطة للفن وأنه قادر على خلق الأحوال والأمزجة وليس مجرد التماهي معها. عناصر التماسك والانسجام التي طبعت جل نتاجه الفني والموسيقى أسست منطق معنى بقي مرتبطا بطريقة العمل نفسها لناحية الدلالات التي لا تدافع عن الهروب بل عن البناء المتواصل والتجريبي والشاق القائم على واقعية حساسة ومنتبهة. عبد الوهاب لم يشأ لعب دور المعزي والحالم بل حرص على أن يكون دائما المنبّه والمعلم.

ولعل اختلاف المناهج بينه وبين بليغ ينعكس كذلك على الشخصية، فبليغ كان بوهيميا فوضويا تلقائيا انفعاليا، بينما كان عبد الوهاب منهجيا ومنظما ومنضبطا وعقلانيا. ولعل الانحياز الى بليغ قد يكون في عمقه رغبة في تمثل شكل حياته على الرغم من نهايتها المأسوية بينما لا تشكل حياة عبد الوهاب تجربة مغرية.

نهاية الإصغاء 

في محاولة للتحليل لا تعنى بمعارك التفوق، يمكن القول إن حرص بليغ على إدخال الإيقاعات الراقصة إلى الأغاني واللعب عليها، خلق مدرسة نمت واستمرت وسادت. انتقل معها تلقي الغناء من حالة الاستماع الرصين والهادئ إلى الحالة المهرجانية والصاخبة التي تجعل العمل الفني الغنائي مثيرا لحالة معينة وليس غاية في حد ذاته.

WikiCommons
بليغ حمدي

قد يكون تمثل شغل بليغ حمدي -عن قصد أو من دون قصد-  فاتحة لعهد سطوة الصورة على الصوت وغناء المهرجانات وغيرها. الجمهور الذي راح من تلك اللحظة يهلل ويصرخ ويرقص، بات مصنوعا بالكامل وبشكل مسبق. تاليا، شرع الملحن بالتحول إلى نموذج سلطة لا تنتظر جماهير ولا تتوقع رد فعل مجهولا مع كل عمل جديد بل بات كل شيء مضمونا وواضحا.

خلق بليغ حالة رواج استثنائية في زمنه ولكن أثرها الأبرز كان في التأسيس للمنتَج الذي لا يحتاج إلى جماهير. ولعل عبد الحليم حافظ الذي حرص على توظيف نجاح بليغ حمدي مع محمد رشدي وسرقة هذا النجاح وتوظيفه في توسيع دائرة جماهيريته قد انتبه إلى أن الألحان الشعبية التي غناها يعود نجاحها إلى سطوة النوع وليس إليه وإلى الحالة التي يمثلها.

صارت العلاقة بين المغني والناس محكومة بشروط نجومية لا تفترض أي دين للجماهير

دفعه ذلك - بعد الإصرار على  الاستفادة القصوى من حالة بليغ حمدي في الأغاني الشعبية وأغاني الأفلام- إلى العودة إلى حالة المطرب التي كان قد غادرها، والتي تنتمي إلى علاقة مختلفة مع الجماهير. عاد إلى غناء القصائد التي تفترض نوعا مغايرا من التلقي، لكن الإصغاء كان قد اختل. المشاغبون في حفلة "قارئة الفنجان" -ومع أنهم كانوا مدفوعين إلى التشويش- نسخوا سلوكهم عن سلوك جماهيري شائع مع بعض المبالغة، ولذا كانت مطالبتهم بالصمت والعودة إلى الحالة السابقة مستنكرة وغير مفهومة.

المشكلة مع عبد الوهاب أنه بقي مصرا على الدفاع عن نمط علاقة مع الجماهير محكومة بالإصغاء، وحتى في أعماله التي لعب فيها على الايقاعات الراقصة، لم يتخلّ إطلاقا عن تلك العلاقة وحرص على الحفاظ عليها خلافا للموجة التي كان بليغ قد عمّمها.

من هنا فإن التعصب لبليغ حمدي الآن في لحظتنا، ينطلق من الانتصار للسائد والدفاع عنه ولا يعنى بقراءة شغله وتحليله. لقد انتصر بليغ بهذا المعنى فعلا ولكنه لم يصبح ممثلا لمعنى لقب موسيقار الأجيال، لأن من يستعيدونه إذ ينظرون إلى منجزه في لحظته لا ينتبهون إلى أنه كان يشكل ذروة لم تلبث أن انحلت وتشظت ولم تتطور وتكتمل.

EUTERS
ملصق للموسيقار المصري الشهير محمد عبد الوهاب قبل افتتاح متحف التراث الموسيقي الجديد في القاهرة في 2 يونيو 2002

ما بعد بليغ حمدي، لم يستأنف منجزه -بغض النظر عن الرأي في القيمة- بل حاول من جاء بعده الحصول على وصفة النجاح عبر الصخب والإيقاع وحسب، مع غياب المشروع والمنهج. ليس لدينا الآن أبناء بليغ حمدي وتلاميذه بل نعثر على حالة من المسخ المتواصل والمنحدر أوصلت إلى حالة من الرداءة -لا يمكن اتهامه بالمسؤولية عنها- ولكنها نتجت من محاولة اللحاق بوصفته السحرية للنجاح.

عبد الوهاب من جهته بقي متطلبا ويريد الحفاظ على سلطاته وعلى شكل العلاقة القائمة على الإصغاء. بليغ حمدي أناط السلطة بالمنتج نفسه الذي لم يعد حاليا مرتبطا بشخص بل بمؤسسات وسلطات.

المزاج الموسيقي والغنائي في متنه الحالي وضع في عهدة عمالقة الإعلان والإنتاج. فصارت العلاقة بين المغني والناس محكومة بشروط نجومية لا تفترض أي دين للجماهير على فنان يحيا بقدر قدرته على مخاطبة مشاريع الشركات والعلامات التجارية التي تسيطر على سوق الإعلانات والإنتاج ويموت حين لا يعود متطابقا مع معاييرها.

 تلك الاستعادة لبليغ حمدي وغيره والمعارك المفتوحة حول فكرة موسيقار الأجيال تقوم بها جماهير فقدت دورها ومكانتها وسلطاتها على الحاضر وتحاول فرضها على الماضي.

يسيطر الحاضر بمعاييره على واقع تلك الاستعادة ويضمها إلى مجاله محولا إياها إلى رحلة انتماء إلى الأخ الأكبر في مجال الغناء والموسيقى، ما يعني الدخول في لحظة تفكيك مفهوم الإصغاء حيث لا موسيقار يلحن ولا جماهير تصغي.

font change

مقالات ذات صلة