بوتين وكيم ... الصراع مع الغرب إلى نقطة اللاعودة

اتفاق الدفاع المشترك بين روسيا وكوريا الشمالية سارٍ إلى أجل غير مسمى

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون بعد توقيع اتفاق التعاون في بيونغ يانغ في 19 يونيو

بوتين وكيم ... الصراع مع الغرب إلى نقطة اللاعودة

تنذر الأجواء الدولية الناشئة بعد قرابة عامين ونصف العام من الحرب الروسية على أوكرانيا بمزيد من التصعيد بين روسيا والغرب ووصول الطرفين إلى نقطة اللاعودة والدخول في صراع مفتوح ربما لن تكون ساحته مقتصرة على أوراسيا بل تطال الولايات المتحدة الأميركية وقد لا تستثني أفريقيا وأميركا اللاتينية، في ظل عودة الحلفاء إلى خنادق الحرب الباردة مع اصطفافات حادة بين معسكر تأمل روسيا في أن يرسم معالم نظام عالمي جديد على أنقاض النظام الحالي الذي يمثله معسكر آخر يقوده الغرب الجماعي ويواظب المسؤولون الروس على انتقاد قيمه الليبرالية وسعي "الحكومات العميقة" في المحور "الأنجلوسكسوني" إلى فرض هيمنتها على العالم ومنع بروز مراكز قوى جديدة لإحداث التوازن في النظام العالمي المختل منذ نهاية الحرب الباردة.

وأججت زيارة الرئيس بوتين إلى كوريا الشمالية، وتوقيع اتفاق للشراكة الاستراتيجية الشاملة يتضمن بندا للدفاع المشترك، مخاوف من انزلاق العالم إلى حرب عالمية بمكونات نووية. وزادت الاتفاقات الدفاعية الموقعة بين الولايات المتحدة والبلدان الإسكندنافية من مخاطر توسع الصراع إلى القطب الشمالي وبحر البلطيق كنتيجة غير مباشرة للحرب على أوكرانيا وتوسع "الناتو" بضم السويد وفنلندا. وتزامنت كل هذه التطورات مع استعراضات للقوة قام بها الغرب وروسيا تمثلت في مناورات عسكرية لقطع بحرية يمكن أن تحمل أسلحة نووية، وتقارير عن زيادة المخزونات العالمية من الأسلحة النووية.

ومع تأكيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خوض بلاده حربا مع "الغرب الجماعي" الراغب في إلحاق هزيمة استراتيجية كبرى في أوكرانيا تهدد بتقويض أسس وجود الدولة الروسية منذ أكثر من ألف عام، لوّح بوتين أكثر من مرة في الشهرين الأخيرين باستخدام سلاح الردع النووي لمنع هزيمة بلاده، وردا على تجاوز الغرب خطوط بلاده الحمراء بتزويده أوكرانيا بأسلحة متطورة، لم يستبعد بوتين تزويد أطراف ثالثة معادية للغرب بأسلحة متطورة.

وبعد زيارته كوريا الشمالية أظهر الرئيس بوتين أنه مستعد لتوسيع الصراع مع الغرب وتصعيده في حال عدم التوقف عن دعم أوكرانيا، وسحب السماح لها باستهداف العمق الروسي بالأسلحة الغربية، والتخلي عن فكرة هزيمة بلاده عسكريا، ومواصلة فرض عقوبات لتحطيم اقتصادها ومنعها من مواصلة إنتاج الأسلحة اللازمة للحرب في أوكرانيا. وبدا واضحا أن بوتين قادر على فتح جبهات جديدة تزعج واشنطن وحلفاءها في اليابان وكوريا الجنوبية.

بعد زيارته كوريا الشمالية أظهر الرئيس بوتين أنه مستعد لتوسيع الصراع مع الغرب وتصعيده في حال عدم التوقف عن دعم أوكرانيا

وتصاعد التوتر بشكل لافت بعدما سمحت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون لأوكرانيا بضرب الأراضي الروسية بأسلحتها بداية الشهر الماضي. ولم يتأخر الرد كثيرا، فقد طالب بوتين برفع الجاهزية لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية قرب المناطق المحاذية لأوكرانيا، وأطلقت وزارة الدفاع لاحقا مناورات في الجنوب، وأتبعتها بمناورات في الجبهة الشمالية الغربية مع بيلاروسيا. ولم يستبعد بوتين أكثر من مرة في الشهر الأخير تغيير العقيدة النووية التي تحدد عتبة استخدام هذه الأسلحة. كما حذر بوتين دولا أوروبية لم يحددها بالاسم ولكنه قال إنها بلدان صغيرة المساحة وبكثافة سكانية عالية، ما رفع مستوى الخوف في الدنمارك على سبيل المثال التي طالبت الحكومة فيها مواطنيها بالتحوط وتخزين الأطعمة والمياه والبطاريات وغيرها من المواد اللازمة في حال تعرض البلاد لهجمات.

حلفاء جدد

وبمهارة لاعب الشطرنج، نقل بوتين تهديداته إلى شرق آسيا حيث أحيا اتفاق الدفاع المشترك مع كوريا الشمالية الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة عام 1961، وحذر من أنه قد يسلح كيم جونغ أون ردا على تخفيف الغرب القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا للأسلحة المتطورة.

وبعد مراسم استقبال اتسمت بالحفاوة البالغة ومحاكاة زيارات المسؤولين السوفيات للدول الحليفة لهم، اتفق الزعيمان على تقديم "المساعدة العسكرية وغيرها" على الفور في حال تعرض أي منهما لهجوم. واتفق بوتين وكيم أيضا على اتخاذ إجراءات مشتركة لتعزيز قدراتهما الدفاعية وتوسيع التعاون في التجارة والاستثمار، وكل ذلك يمكن أن يشكل انتهاكا للعقوبات الدولية. وستكون المعاهدة سارية المفعول إلى أجل غير مسمى حتى يسعى أي منهما إلى إنهاء صلاحيتها. ومعلوم أن البلدين وقعا في 2001 اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة، لكنه من دون البند المتعلق بالدفاع المشترك.

رويترز
احتفال مهيب لبوتين في بيونغ يانغ

ورغم أن نص الاتفاق الجديد لم ينشر، فقد أثار مخاوف الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية بعد تصريحات بوتين وكيم الذي حصل على دعم حليف نووي، والأهم دعم عضو دائم في مجلس الأمن يمنع فرض أي عقوبات أممية جديدة على بلاده كتلك التي وافقت عليها روسيا والصين في 2006 للحد من تطوير بيونغ يانغ برنامجيها الصاروخي والنووي.

ولم تقتصر مكافآت بوتين لشريكه في "مكافحة الإمبريالية الأميركية" على الجوانب العسكرية، فالمعاهدة تمهد الطريق لتعزيز تعاونهما في التجارة والاستثمار، وكذلك في المسائل الأمنية على المدى الطويل، وكلها تريده كوريا الشمالية. ولم يتضح بعد إلى أي درجة سوف تذهب موسكو في مساعدة بيونغ يانغ بالتقنيات اللازمة لبناء غواصة تعمل بالطاقة النووية ونشر مجموعة من أقمار التجسس التجسسية في الفضاء. وتقول كوريا الجنوبية إن أي مساعدة اقتصادية روسية لجارتها الشمالية تحدث فارقا، خاصة أن حجم اقتصاد كوريا الشمالية لا يتجاوز 24.5 مليار دولار وما زال يعاني من تأثيرات جائحة كورونا والعقوبات الغربية المشددة.

اتفاق الدفاع المشترك بين روسيا وكوريا الشمالية سارٍ إلى أجل غير مسمى

وفي المقابل، يستطيع بوتين الحصول على مزيد من القذائف الصاروخية اللازمة لمواصلة الحرب في أوكرانيا إلى حين تحقيق الاكتفاء الذاتي مع تحول الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد حرب لتلبية احتياجات المعركة في أوكرانيا.

ورغم تأكيد بوتين عدم حاجة بلاده لمشاركة جنود كوريين في الحرب على أوكرانيا، فإن احتمال مشاركة هؤلاء الجنود غير مستبعدة، إضافة إلى أن روسيا قد تزيد من حجم العمالة الكورية الشمالية في وقت تعاني فيه من ندرة العمال، والحملة على العمالة المهاجرة من آسيا الوسطى، كما يقوي موقف كيم الاقتصادي، ويجعله أكثر صلابة في أي مفاوضات. ويعد الاتفاق وسيلة لإظهار تحدي روسيا للولايات المتحدة وشركائها في مواجهة العقوبات، أما مدى التزام بوتين بالدفاع الفعلي عن كوريا الشمالية فهو رهن بالمستقبل، مع التذكير بأن الاتحاد السوفياتي لم يلتزم بشكل كامل بالقتال نيابة عن كوريا الشمالية خلال الحرب الكورية في الفترة 1950-1953، ويكاد يكون من المؤكد أن الدخول في صراع الآن يعني مواجهة شاملة مع تحالف تقوده الولايات المتحدة.

ويجبر الاتفاق الجديد بين موسكو وبيونغ يانغ الإدارات الأميركية على إعادة حساباتها وخيارات ردها العسكري على كوريا الشمالية في حال أي استفزازات كبيرة، والأخذ بالاعتبار الردود الروسية المحتملة. ومعلوم أن توجيه ضربة قوية لكوريا الشمالية كانت أحد الخيارات المطروحة على طاولة الرئيس السابق دونالد ترمب بضرب منشأة رئيسة أو اثنتين وتذكير كيم بأن جيشه المترهل لا يضاهي قوة أميركا. كما يشجع الاتفاق كيم على تجاهل دعوة واشنطن للعودة إلى المحادثات النووية.

صراع في المحيطات

بعد أيام من مناورات نادرة للأسطول البحري الروسي قرب كوبا مقابل الشواطئ الأميركية لسفن قادرة على حمل أسلحة نووية، ذكر أسطول الشمال الروسي أن غواصات تعمل بالطاقة النووية تابعة للأسطول أطلقت صواريخ كروز على أهداف بحرية في إطار تدريبات في بحر بارنتس. وأوضح بيان الأسطول يوم الأربعاء الماضي أن الغواصتين سيفيرودفينسك وأريول العاملتين بالطاقة النووية أطلقتا صواريخ كروز من طراز كاليبر وغرانيت على مسافة نحو 170 كيلومترا على هدف يحاكي مفرزة إنزال لعدو وهمي. ويقع بحر بارنتس في المحيط المتجمد الشمالي قبالة السواحل الشمالية للنرويج وروسيا وينقسم بين المياه الإقليمية النرويجية والروسية.

وزادت الحرب الروسية على أوكرانيا من مخاطر الصراع بين روسيا والغرب في بحر البلطيق والمحيط المتجمد الشمالي بعد قرار فنلندا والسويد الانضمام للحلف، والدعم الكبير من الدول الاسكندنافية ودول البلطيق لأوكرانيا عسكريا واقتصاديا.

ومع ارتفاع المخاوف من هجوم روسيا عليها، انضمت السويد وفنلندا والدنمارك نهاية العام الماضي إلى النرويج بتوقيع اتفاقات دفاعية مع الولايات المتحدة. ووقّع وزير الدفاع السويدي بول جونسون ونظيره الأميركي لويد أوستن، في البنتاغون يوم 5 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، بالأحرف الأولى على اتفاق تعاون دفاعي جديد بين السويد والولايات المتحدة، يمنح الجيش الأميركي إمكانية استخدام 17 قاعدة أو منشأة أو منطقة عسكرية سويدية، تشمل مناطق التدريب وقواعد بحرية وجوية وبرية في مناطق مختلفة من السويد. وتنص أيضا على السماح للقوات الأميركية بتخزين معدات دفاعية على الأراضي السويدية. وبعد نقاشات طويلة صادق البرلمان السويدي على الاتفاق يوم الثلاثاء الماضي بأغلبية كبيرة.

وفي رد على تعزيز "الناتو" علاقاته مع الدول الاسكندنافية، ونشر مزيد من قوات "الناتو" في البلطيق، أعادت روسيا تشكيل المنطقة العسكرية الشمالية الغربية بعدما ضمتها سابقا إلى منطقة موسكو العسكرية.

سحبت روسيا التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وعلقت معاهدة تخفيض الأسلحة النووية الاستراتيجية (ستارت-3)

ومع زيادة القناعة بأهمية الردع النووي في وقف الدعم الغربي غير المحدود لأوكرانيا، وفي محاولة لتأليب الشعوب على حكوماتها خوفا من خطر الحرب النووية، زادت روسيا من وتيرة تهديداتها باستخدام هذه الأسلحة، وقرنت التصريحات بنشر الأسلحة النووية في بيلاروسيا، وسحبت التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وعلقت معاهدة تخفيض الأسلحة النووية الاستراتيجية (ستارت-3). ومن غير المستبعد أن تواصل روسيا استخدام هذه الورقة، والتلويح بتغيير عقيدتها النووية لتخفيف عتبة استخدام هذه الأسلحة وإزاحة أي غموض في تفسيراتها، وقبلها يمكن لروسيا زيادة عدد الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، وإنشاء دفاع صاروخي وطني، وإعادة النظر في الالتزام بأن لا تكون أول من ينشر صواريخ متوسطة أو قصيرة المدى في أوروبا، وزيادة الإمكانات النووية في كالينينغراد وعدد الأسلحة النووية وحاملاتها التكتيكية. وصولا إلى تنفيذ تجربة نووية استعراضية.

وفي 17 يونيو/حزيران الجاري حذر معهد ستكهولم الدولي لأبحاث السلام ( سيبري) من أن عدد وأنواع الأسلحة النووية قيد التطوير قد زاد مع تعميق الدول لاعتمادها على الردع النووي. وخلص التقرير إلى أن الترسانات النووية يجري تعزيزها في جميع أنحاء العالم.

وأوضح التقرير أن الدول التسع المسلحة نوويا (الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل) واصلت تحديث ترساناتها النووية ونشرت كثير من هذه الدول أسلحة نووية جديدة، وأنظمة مسلحة أو ذات قدرات نووية عام 2023. وحسب التقرير فإنه يمكن استخدام 9585 رأسا نوويا من أصل 12121 رأسا في العالم، وأشار إلى أنه تم نشر ما يقدر بنحو 3904 من تلك الرؤوس النووية بالصواريخ والطائرات، أي أكثر بـ60 رأسا مما كانت عليه في يناير/كانون الثاني 2023. وذكر التقرير أنه تم الاحتفاظ بحوالي 2100 رأس حربي منشور في حالة تأهب تشغيلي عالٍ للصواريخ البالستية، وتعود جميع هذه الرؤوس النووية تقريبا إلى روسيا أو الولايات المتحدة الأميركية.

رويترز
بوتين يلتقط صورة "سيلفي" مع معجبيه قبل مغادرة بيونغ يانغ

وتمتلك روسيا والولايات المتحدة معا ما يقرب من 90 في المائة من جميع الأسلحة النووية، ويبدو أن أحجام مخزوناتها (أي الرؤوس النووية القابلة للاستخدام) ظلت مستقرة نسبيا في عام 2023، على الرغم من أن التقديرات تشير إلى أن روسيا نشرت حوالي 36 رأسا حربيا إضافيا مع قوات تشغيلية عما كانت عليه في يناير/كانون الثاني 2023، وفي المقابل انخفضت الشفافية فيما يتعلق بالقوات النووية في كلا البلدين عام 2023، في أعقاب الحرب على أوكرانيا وتعليق عمليات المراقبة المفتوحة.

ومع تفوق الغرب تقنيا في صف واسع من الأسلحة، تمارس روسيا ضغوطا سياسية ونفسية على الغرب عبر الأسلحة النووية. وفي عام 2018، أخبر بوتين العالم عن تطوير الأسلحة التي لا تغطيها معاهدة "نيو ستارت"، مثل الصاروخ المجنح "بوريفيستنيك" طويل المدى، والغواصة النووية غير المأهولة "بوسيدون"، وغيرهما من الصواريخ "التي لا تقهر" والتي تزيد سرعتها على سرعة الصوت، حسب وصف الرئيس بوتين.

وتزداد المخاوف من الانزلاق إلى صراع نووي، مع رهانات روسيا على مواصلة الحرب في أوكرانيا لإخضاع الغرب وإجباره على تنفيذ ورقة المطالب التي قدمتها في مشروع اتفاق للولايات المتحدة و"الناتو" منتصف ديسمبر 2021 والذي تضمن عودة قوات "الناتو" إلى مواقعها عام 1997 وسحب الأسلحة النووية الأميركية من دول أخرى. وفي المقابل، يبدو أن الغرب سيواصل دعم أوكرانيا على المدى المنظور، بأقل تقدير، من أجل إعادة تجهيز قدراته العسكرية لمواجهة أي هجوم روسي في حال انهارت أوكرانيا. وكهدف أساسي، يريد هزيمة استراتيجية للرئيس بوتين. وفيما يرفع الطرفان سقف مطالبهما، سيواصل العالم حبس أنفاسه خوفا من العرض غير المنضبط للقوى النووية، كما ينجر العالم لسباق تسلح غير مسبوق، ربما يشمل تطوير طائرات "درونز" نووية من دون طيار، وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت والليزر. ومن غير المستبعد أن ينتقل الفضاء إلى ساحة صراع محتدم بين الغرب وروسيا، إضافة إلى البحار والمحيطات.

font change

مقالات ذات صلة