كانت القابلة أو المُوّلدة في منطقة الخليج العربي، تنحدر من سلالة ممتدة لنساء قابلات، أخرجن أجيالا ممن ورثن مهنة التوليد من أمهاتهن وخالاتهن وجداتهن، وقد امتزن غالبا بسمعة طيبة، ولعلها بسبب جدية التعاطي مع عمل طارئ وغير تقليدي لممارسة وظيفة علمية دقيقة ممزوجة بالرحمة، لتأتي نتيجة هذه الخبرة في سلامة الوليد، وخصوبة ضد المحو والنسيان، من قابلة معلومة الأصل، ومن سلالة مهنية متأهبة، تُنَادى لتجيء في كلّ وقت.
يقودني هذا الحديث عن القابلات ومهنتهن الموروثة، إلى ندرة التطرق الى عوالمهن على المستوى الأدبي أو الفني، فالقابلة في الأدب والسينما، تمرّ سريعا، ثم تقبض أجرا وتذهب. لكن في زمن الكتابة الإبداعية التنويرية، على مستوى العالم، نجد المؤلف الحقيقي يكتب المستحيل ليقبض على المخفيات النادرة ووعي الذاكرة. وفي هذا المعنى، وقعت بين يدي رواية بعنوان "الكلمة الأجمل"، لأورو آفا أولافستودير، وهي كاتبة أيسلندية، تتمحور فكرتها حول القابلة وحياتها، وذلك الإرث الطويل لهذه المهنة.
عمل دقيق ومذهل، وشعور يتدفق بتأثير الماضي في مهنة موروثة ترسو في بعض الأحيان شاعرية وفلسفية، خاصة حين ترسم المؤلفة بكلماتها كيف أن الماضي يبدو ملكا للجميع، وأن النور والظلام هما الحياة والموت، فيأتي السرد على نحو متصاعد دون أسيجة، فتأخذنا المشاعر إلى الانغماس في عالم الطبيعة في أيسلندا، وبحارها التي بدأت تضيق وتنحصر، ومهما اختلفت طبيعتك وحياتك عن طبيعة النص المقروء عن أيسلندا، تذهب مُنصتا إلى كل مولود يأتي إلى الحياة، بواسطة القابلة وقيامها بأعمال خيالية من غناء وكتابة وخياطة وقضاء ساعات في انتظار كائن حيّ يخرج إلى النور.
شعور يتدفق بتأثير الماضي في مهنة موروثة ترسو في بعض الأحيان شاعرية وفلسفية
من جانب آخر، ومن غنى المتخيل في الرواية، إلى الواقع القريب البعيد في بلادنا، أن غالبية المهن العائلية كانت موروثة، والدهشة الاجمل هم أزواج القابلات، فغالبيتهم كانوا يمتهنون مهنة التجبير وإصلاح كسر العظام في الخليج العربي، حيث يأتي المُجبّر من سلالة الأجداد المُجَبّرين، أبا عن جد، وقد امتازوا بمعرفة دقيقة عن مكان العظمة المكسورة في اليد أو الساق، وإعادتها إلى مكانها، وهذا يشابه ما في الرواية بأن أزواج القابلات في أيسلندا يعملون في صناعة التوابيت والدفن وشواهد القبور، وهي مهنة موروثة أيضا من الأجداد.
اللافت أن مشاعر الناس تجاه هذه المهن، كلها تقدير وتوقير، خاصة القابلة بوصفها والدة الجميع صانعة الفرح وخالقة الهيبة أمام المشاعر المشتركة، وذاكرة بكائها مع الأم، ومع الأب فرحا، وتحتاج أحيانا العزاء إذا مات الكائن الصغير في ظلماته. وكأن القابلة وسلالتها الطويلة والأصيلة آتية من عالم خاص.
الجدير بالذكر أن القابلة في اللغة العربية هي الأمر، وأوائله، فهي أول من تتلقى الوليد عند ولادته، ومعناها حرفيا في اللغة الأيسلندية "أم النور"، بوصفها الواسطة لمسار يقطعه الإنسان من ظلمات الرحم إلى ظلمات القبر، وسرد القابلة الحفيدة، أشبه برواية بديعة عن الوجود والعدم لأمهات النور، وعن هشاشة الإنسان، ومتى يجب أن يتوقف عن الإنجاب، ومتى عليه أن يستمر في جلب النور، فمن في وسعه أن يستجلي أبعاد الحياة أفضل من المرأة القابلة التي على يديها نأتي؟ ومن في وسعه أن يتساءل عن الومضة بشكل أعمق، طالما اسم القابلة يعني النور بعينه، وحيث كل التماعة ضوء كُتِبَت في الصفحات.
لنتساءل، هل القصد من الحياة التكاثر؟
تأتي الرواية ومؤلفتها الناشطة البيئية، لتقدم لنا أبعاد الحياة من خلال البطلة القابلة، أم النور، وهي تنذر البشر من التكاثر، وأننا سنتلاشى سريعا إن لم نقدم للحياة شيئا.