نصير شمّة مؤلف موسيقي وعازف عود عراقي ولد عام 1963 في مدينة الكوت بالعراق. تخرج في معهد الدراسات الموسيقية ببغداد وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة الموسيقية. أسّس بيت العود في العديد من المدن العربية. عن تجربته الفنية المتعددة كان هذا الحوار.
اخترعت طرق عزف جديدة على آلة العود، مثل العزف بيد واحدة، حتى يواصل أحد أصدقائك العزف بعدما فقد ذراعه أثناء الحرب في العراق. وأضفت أيضا العزف بإصبعين على زند العود، حتى يتمكن صهرك من العزف بعدما فقد ثلاثا من أصابعه، هل العود طيع دوما بين يديك؟
الأمر الأساسي في علاقة العازف بآلته هو التوافق الذي يُبنى من خلال عشرة طويلة ليتمكن العازف من السيطرة والإحكام على الآلة الموسيقيه وعلى مشاعره وأصابعه وأوامر العقل الآنية معا. هذه رابطة تجمع عناصر كثيرة وهدفها الانسجام واستنباط أفكار جديدة يفترض انها غير مسبوقة، وليصل العازف إلى هذا التكامل يجب ألا تعانده الآلة وألا يعاند نفسه أيضا. سيكون مطيعا لها في البداية حتى يغدو متمكنا فتصير طيعة بدورها، ومن بعدها ستصبح العلاقة بينهما متوازنة. هناك تفاهم غير مرئي ولا يُفسر وقد لا يُشرح.
في تجربتي المتواضعة، هكذا مرّت الأحداث، فرضت الآلة تاريخها وسلالة عازفين كبار مرّوا عليها، روت سيرة حضارات وأشياء كثيرة، ولد الانسجام بيني وبين العود حتى لم يعد يرفض شيئا مما أطلبه منه.
دورنا يحب أن يكون إنسانيا ومؤثرا في حياة الآخرين وليس مدعاة للتفاخر
بيت العود
أسّست بيوت العود في مدن عربية عربية عديدة، أخبرنا عن تجربتك مع هذه البيوت، وما إنجازاتها؟
بدأت تجربة بيت العود فردية وتحولت إلى مؤسسة. بداية كنت أود محاربة الأنا فيّ، وقد وعيت هذه الفكرة حين التقيت الكثير من الأسماء الكبيرة في بداياتي ولمست أناها العالية حدّ المرض، صغروا كثيرا في نظري، كنت أسأل نفسي دوما كيف أن فنانا كبير يصغر الى درجة البخل حتى في معلومة لمن يسأله. والبخل لا يتجزأ، فإذا أصاب الإنسان يمتد من القلب الى العقل ومن ثم يشلّ اليد. لم أرد أن يراني أي طالب على ما رأيت به بعض الأساتذة، فمذ كنت طالبا في دراسة الموسيقى في بغداد، درست ودرّست وأعطيت بلا حدود لأختبر إلى أي مدى يستطيع الانسان العطاء والزهد بالدنيا.
نحن الذين يسمينا العالم موهوبين، لدينا مسؤولية تجاه هذه الموهبة بأن يكون دورنا إنسانيا ومؤثرا في حياة الآخرين وليس مدعاة للتفاخر ولا للثراء.
أين تلامذتك الآن، وهل تجاوزك أحدهم؟
كل الذين ساعدت في تدريسهم صاروا فنانين ناجحين دون أن ينتقصوا من مكانتي أو أن يلغوا وجودي، بالعكس فإنني أكبر بنجاحاتهم. كانت المسألة تتطلب اختبارا حقيقيا في الحياة، وهذا انعكس على سلالة عازفين تخرجوا في بيوت العود، في الرياض والقاهرة والإسكندرية وأبوظبي وبغداد والموصل والخرطوم والرياض. ساهمت البيوت في نشر الجمال عبر عازفي عود وقانون وناي منتشرين في العالم، وقسم الغناء ساهم أيضا قس تخريج عدد من الأصوات الجميلة التي تقدم أغنية محترمة ولها معنى في زمن ساد فيه اللامعنى.
كيف تصف علاقتك بالعود؟
العود من الآلات التي تلامس الصدر بالكامل وتهتز باهتزازه، وحين يضرب العازف بريشته على الأوتار يخرج الصوت بعمق الداخل وبعمق معرفته وثقافته، يظهر للمتلقي العارف فورا مستواه وعمقه وحالته النفسية، فلو كان العازف متوترا ينعكس على الصوت الصاعد من العود، ولو كان مثقفا فإنه من أول ضربة يطرح ثقافته. العود آلة تشبه المرآة تماما، تعكس مشاعر العازف وثقافته وتفضح كل من يحملها. صحيح أن الجمهور ليس المقياس، ولكن بالتراكم الزمني تتشكل ذائقة جمعية عند البشر يعول عليها، لأن الموسيقى خلاص نفسي وروحي مهما تنوعت الأمزجة وتعقدت.
فلسفة الموسيقى
هل عمل الموسيقى نقل المشاعر أو الصور إلى المستمع، وهل هي صادقة ومباشرة كما تظهر أم أنها قابلة للتأويل مثل النصوص المكتوبة بالكلمات؟
كل عمل قابل للتعدد هو عمل يستطيع أن يعيش فكره زمنا طويلا. الآلة تترجم حرفيا مشاعر المؤدّي والمؤلف وليس بالضرورة أن يتفق الناس معها أو أن يستسيغوها، ولكنها على الأقل تؤثر بهم من خلال اختراقها قلوبهم وأفكارهم. ولكن ليس دور الموسيقى فقط نقل المشاعر ولا خلودها يعتمد على ذلك، بل على تعدّد تأويلها من جيل إلى جيل، وهذا أعلى أشكال الإبداع. لذلك يستحسن، وهذه وصلت إليها بعد تجربة، أن لا تسمّى المقطوعات الموسيقية تسمية مباشرة، كي لا نضع المتلقي في إطار واحد وتحت سقف فكرة واحدة. يفضّل أن نتركه أمام عنوان مفتوح الاحتمالات ليفهمه ويسميه مثلما يرغب.
كيف تصف حال الموسيقى العربية اليوم؟ وهل هناك نقد موسيقي حقيقي يُعنى بدراسة الأعمال الموسيقية لتصويب الإعوجاج؟
للأسف لا يوجد حاليا نقد حقيقي كما في زمن موزار وشوبان وبيتهوفن وفاغنر وغيرهم. كان حين يقدم أحدهم عرضا، ينتظر في اليوم التالي آراء النقاد، رأيهم عبارة عن سيف على رقاب المبدع، ونقدهم ينبع من علم كبير ودراية. الناقد يجب أن يكون أعلم من الفنان بذاته، لكي يقيّم ويصوب لا ليتحول إلى خصم.
توقف النقد في العالم العربي منذ ثمانينات القرن الماضي، والنقاد إن وجدوا لن يقدروا على قول كلمتهم بحرية، فالرد على الناقد المحترم سيكون انتقاما وشتما، لذلك اختفت هذه الظاهرة لا سيما أن ثقافتنا لا تشجع على النقد، وترفض الآخر المختلف. ولكي يتغير هذا الواقع، علينا البدء من روضات الأطفال حتى نكسب بعد عشرين سنة عقولا قابلة للنقد والتحاور والقبول. ولا أخفيك سرا بأنني كنت أحد هؤلاء لكنني عالجت نفسي فصرت أحترم الآخر المختلف وأسمعه جيدا وأتقبّله. بل ساعدني النقد كثيرا في معالجة بعض الهنّات في عزفي.
تجريد
الموسيقى كيان مجرّد بطبيعته، عكس الأدب الذي يحمل مضمونا محددا وعكس العمارة التي تحمل في وجودها حيزا مكانيا، فهل الموسيقى عمل عقلي خالص أم هناك تفسير لمعاملتها ككيان وليس بالضبط كفن؟
الموسيقى كيان غير مرئي، فلا يرى المتلقي صورا وأفكارا ومشاعر كما في الشعر واللوحة والمسرح والسينما. فهي لامرئية تخلق التصورات من تجريديتها العالية، هي بذلك لا تشبه شيئا آخر. الرغبة في الوصول بالموسيقى وبرموز غير مفهومة، تبتكر صورة مفهومة عند المتلقي، نرى شيئا يشبه هذا على شكل خطوط بسيطة أو بوجوه غريبة في أعمال بيكاسو الذي اعتمد فكرة التجريد الموجود في الموسيقى كي يخلق صورة من اللاشيء.
علينا البدء من روضات الأطفال حتى نكسب بعد عشرين سنة عقولا قابلة للنقد والتحاور والقبول
المتلقي يخرج معبأ بطاقة عظيمة حين تكون الموسيقى عظيمة، تولد لديه رغبة بالحياة، سيحب حتى الجالس بجانبه، سيعانق من يلتقيه وسيبتسم من دون سبب واضح وسيصمت ويستغني عن الكلام، كأنه تقرب من السماوات واستغنى عن العالم، هنا تأتي قيمة الموسيقى، ومن هنا نفهم كيف أن الموسيقى علاج حقيقي للإنسان الذي ابتكر شيئا غيبيا ليصنع منه وجودا، وبالتالي لطالما تساءلت هل تطاق الجنة بلا موسيقى؟
عملك الجديد "باقون"، من كلمات الشاعر حسن عامر، يختزل أوجاع الشعب الفلسطيني ومدى صموده أمام وحشية الاحتلال، ماذا تقول الموسيقى للضحايا؟ وهل تستطيع إسقاط الطغاة؟
"باقون" عمل تضافرت فيه جهود الجميع، الشاعر والملحن والتوزيع والأوركسترا، وهناك أحد الأصدقاء المخلصين الفلسطينيين الذي ساعد أن ينتج الفيديو كليب، وهو رسالة تقدير من كل فريق العمل إلى الشعب الفلسطيني وقضيته، وهذا الثابت لدينا، تربينا على القضية الحق ولن نركن إلى أن يُحسم هذا الصراع مع عودة الفلسطيني إلى أرضه وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة. وهذا ما سيحدث ولو بعد حين، فلن تضيع الجهود والتضحيات التي قدمها هذا الشعب الجبار والصامد الذي يعطينا كل يوم دروسا في الإنسانية وفي محبة الوطن.
سنة 1985 قدمت أولى حفلاتك في العراق، ومن بعدها وقفت على أهم مسارح العالم وعزفت مع عازفين عالميين، بعد كل ما حصل في العراق من نكبات، كيف تصف حاله اليوم إنسانيا وسياسيا وثقافيا؟
أن تولد في أرض ذلت دلالات كبرى، من حيث ما مرّ عليها من حضارات عريقة بسبب موقعها الاستراتيجي والجيوسياسي والغنية بالخيرات، يعني أنت أمام تكالب سياسات الدول ومخططاتها. الصراع في بلاد ما بين النهرين قديم جدا منذ 6000 عام ومع ذلك ولدت حضارات عظيمة ولا يزال العالم يتنعم بما قدمته. هذا الثراء في الجينات الموجودة في أرض العراق هو مسؤولية في غاية الأهمية، لذا لا مجال وأنت ابن هذه الحضارات لأن تفشل ولا يحق لك أن تكون نكرة أو مجرد رقم، بل عليك أن تكون فاعلا لا تتعكز على الظروف والمشاكل.
هذه البيئات تصنع إنسانا صلبا، رجلا كان أم امرأة أم طفلا. فأنا حين خرجت الى العالم وما زلت بعد مراهقا، وعيت تماما ما عليّ فعله من أجل مستقبل لا يتعكز على التاريخ ولا يتواطأ مع الحاضر، ومن وقتها لم أركن البتة إلى السكون لأنني ابن هذه البلاد.
في ظلّ البعث
نشأت في بيئة شيوعية ثورية، في زمن صدام حسين، ومعاناتك من الاحتلال الأميركي أدت إلى منفاك خارج العراق، هذا غير منفى الإنسان الوجودي، ما بين هذه المنافي أيها كان الأصعب؟
- ما نشأت عليه شكّل هويتي اليوم، وأسّس لوعيي الوجداني والثقافي والسياسي والمعرفي أيضا. نشأت في بيئة كان يحكمها حزب واحد وباقي الأحزاب كانت تعمل سرا وإذا ما كُشفت تُباد في الحال. والحركة الشيوعية زمن حكم البعث كانت مغضوبا عليها وملاحقة، ومعظم المتحزبين فيها وضعوا في أقسى سجن يدعى "نقرة سلمان" وهو عبارة عن حفرة تبعد ست ساعات في الصحراء. كنا نسمع القصص عن الشعراء والمبدعين والمعارضين الوطنين الذين سجنوا هناك، ومنهم الشاعر مظفر النواب وأخي الأكبر سعدي.
لا مجال وأنت ابن هذه الحضارات لأن تفشل ولا يحق لك أن تكون نكرة
نشأت في هذا المناخ، وعرفت أن الشيوعي المثقف والحضاري والعارف والنبيل والمنظم فكريا يلاحق ويسجن، والحزب العسكري الصارم الديكتاتوري القاتل والذي لا يعرف الرحمة هو المسيطر. الصورة كانت لا تقبل أن أكون مع الظالم بأي شكل من الأشكال.
ساعدني في خياراتي أني جاورت منذ طفولتي مكتبة كبيرة كانت صديقتي وملاذي إلى أن اضطررنا في وقت من الأوقات إلى حرقها في تنور الخبز، حرقنا أكثر من ثلاثة آلاف مجلّد، كنت أحب شكل الكتب كثيرا وأنا بعد صغير دون أن أعرف ماذا تحتوي، أكثرها كتب ماركسية، استطعت تهريب بعضها إلى مكان خفي اخترته بجانب سور بيت المحافظ الذي كان يمثل النظام، ولتقديري بأنهم لن يبحثوا هناك، كنت أحمل الكتب التي أستطيع حملها ليلا وأدفنها بجانب السور. في عام 1983 استطعنا إخراجها وما زلنا نحتفظ بها في بغداد. خوف السلطة من الكتّاب والمثقفين لفت انتباهي، كما تقدير الناس واحترامهم. بدأت أدرك أن الوعي يرعب الطاغية. لم أتحزّب أبدا وأنا ضد تحزب الفنان ولكن الهوى كان شيوعيا.
ذهبت أخيرا إلى الرسم والألوان، هل ضاقت مساحات البوح في الموسيقى، أم أن هناك أسبابا أخرى؟ أخبرنا عن مواضيع لوحاتك ومعرضك الأول في أبوظبي؟
رافقني الرسم منذ أربعين عاما لكني لم أبح به ولم أعلنه. كنت حين أحتاج خلال الأحداث الكبرى إلى فلتر لأعود إلى الموسيقى مسالما، أذهب إلى اللون واللوحة، فكانا العلاج الذي من بعده أستطيع حمل العود وأن أؤلف وأعزف. في أثناء الحجر الذي فرض علينا بسبب كوفيد 19، قرّرت إعلان التجربة فسميت أعمالي "الأبواب"، وهي عبارة عن أكثر من ثمانين عملا عرضت منها 72 في أبوظبي. أحب الرسم بقدر حبي للموسيقى، وهما يتشابهان، فللألوان مقامات كما للنوتات.