أفكار ومشاعر شتى خطرت ببالي، وأنا أسير بين صالات العرض التي تتجاوز الست في النسخة الثانية من بينالي الدرعية وقد جاءت تحت شعار "ما بعد الغيث"، ولا تختلف في ضخامتها وقيمتها عن مهرجانات الأفلام والمحافل الرياضية، مما يتبدّى في مواضيع البينالي وتنوعها الثقافي بمزيج دقيق لا يكاد يُرى في ظل زحام الحياة اليومية. وكانت النسخة الأولى من بينالي الدرعية انطلقت في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2021، بتنظيم من وزارة الثقافة ومؤسسة بينالي الدرعية.
ولعلّ أبهج ما في هذا الحدث الفني العالمي، أن الدرعية عاصمة السعودية التاريخية، تمدّ يدها لتصافح فينيسا بل العالم أجمع لتكون الدرعية وجهة تلهم الحواس، احتفاء بالفن العالمي المعاصر تحت خيمة عربية اشتاقت أرضها للمطر بعد طول انتظار فأطلقت "ما بعد الغيث" ليكون شعار البينالي لهذا العام، الذي عرضت فيه 177 عملاً لزهاء مئة فنان ركزوا على عناصر الحياة الأساسية، الماء، والغذاء، والسكن.
يقدم لنا تاريخ دراسة الفن بعض الإجابات، والعلاقة الشائكة التي بدأ بها، فقد اهتمت المناهج الأنثروبولوجية منذ ستينات القرن الماضي بآليات وطبيعة الرسائل التي يحملها الفن، اعتمادا على علم النفس أو اللغويات، مما يعكس الأنماط الوظيفية والبنيوية له. فكما توصل اللغة المعلومات إلى الآخرين، فإن الفن يوصل المشاعر. كتب عالم النفس الأميركي ألبرت مور مسجلا خبرته من خلال العديد من المخاوف العاطفية التي سمعها "كل مخاوف الشعور بفقدان الذات، والفراغ، وخيبة الأمل، والاكتئاب، والشوق إلى المعنى، والتوق إلى الروحانية، تتلاشى في لحظة التعبير، والفن أعلاها مرتبة".
لعلّ أبهج ما في هذا الحدث الفني العالمي، أن الدرعية عاصمة السعودية التاريخية، تمدّ يدها لتصافح العالم أجمع
امتدادا لإرث فني تقليدي ممتد من خلال فنونها الشعبية المختلفة، أدركت الثقافة السعودية الوظائف الاجتماعية والنفسية والتواصلية للفن، ليس بإبراز الفنون المحلية فقط، إنما العالمي منها، والذي يقدم صور الفقر والجوع وفي المقابل صور النماء، وصور الحب بأنواعه، والحرب وبشاعتها تحت عباءة عربية عالمية، من خلال أقدم أدوات التواصل غير اللفظي: المجسمات والفنون.
فكما يمكن لفن الأداء، مثل المسرحيات، أن يثير المشاعر ويحشد الناس نحو هدف معين، فالفن يحشد الحواس ليقرأ من خلال لوحة معلقة على حائط أو مجسم فريد التصميم، قصصا فريدة من حول العالم، ترويه مثلاً، أغصان زيتون تتمدد داخل قطعة نسيج مشدود مليء الثقوب يصور هوية فلسطينية تحارب لإثبات ذاتها، أو تناغم عجيب بين ديانات تعكس التمازج الديني بين ديانات شرق آسيا، وعلى النقيض تلمح صورا أخرى تصوّر التسلسل الهرمي الاجتماعي والعنصري خلال الحقب الاستعمارية، والحركات الناشئة المناهضة للاستعمار، وحياة النساء من مختلف مشارب الحياة، ومجسمات أخرى تكشف غطاء الأنظمة الاجتماعية والسياسية في العصر الحديث، معرّية الأطر التي تعمل ضمنها السلطة، وكاشفة النقاب عن السرديات التاريخية، أو القوى التكنولوجية للفن المعاصر في سنغافورة مثلا.
جميع هذه القوالب الفنية تحولت بلغة الفن لتصبح مصدراً للإلهام والتعبير عن لحظات غير معبر عنها، اختزلتها الذاكرة والذات في صور إنسانية مركبة، فنرى الحنين الى أشخاص كانوا في حياتنا، عبر أحد المجسمات من ألواح صابون صنعت يدويا من مكونات طبيعية مثل السدر والكافور. ولم يغفل العمل الإشارة إلى الشعائر الإسلامية الخاصة بغسل المتوفى قبل دفنه، من خلالها يشتم الزوار هذه الرائحة المرتبطة بالرحيل وهم يقرؤون السؤال الذي يتكرر ليكون بمثابة مواجهة مع القدر، ومحاولة متواصلة لإطالة لحظة الوداع.
الفن يصبح فعالا عندما يكون لدى الفنان شيء يقوله للناس، ويخرجه من ساحات الحرب إلى مرابع الجمال
الفن يوجد من العدم، ويولد من الخراب، العمل الفني هو خاتمة المطر، هو الأثر الذي يأتي ما بعد الغيث، ويحول الدمار والقبح الى صورة جميلة. للفنان الروائي مارسيل بروست مقولة، قد تتفق مع هذا المقام، يقول: "لنترك النساء الجميلات للرجال الذين يفتقرون الى الجمال"، وهذا بالضبط ما يفعله الفنان، عمل الفنان ليس عفوياً، والفن ليس كما يصوره البعض فوضويا وطائشا، إنما هو نشاط معرفي يبنى على خطة، وتوجهه رؤية شمولية، ويصبح فعالا عندما يكون لدى الفنان شيء يقوله للناس، ويخرجه من ساحات الحرب إلى مرابع الجمال والسلام.
وأختم بمجسم فني فريد لصندوق زجاجي تضمّن شبكتي عنكبوت من تصميم فنان معاصر وعالم البيئة بالأصل، الأرجنتيني توماس ساراسينو، الذي جمع فصيلتين مختلفتين من العناكب، عادة ما تهاجم إحداها الأخرى حتى الموت، وجد أنها مع طول المقام حقّقت هذا الانسجام المتبادل ضمن عيش مشترك سلمي. فن السلام يأتي من سلام الفن.