يأتي التوقيع على اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة الجديد بين روسيا وكوريا الشمالية، ليعكس عملية إعادة التنظيم العميقة في الجغرافيا السياسية التي تجري الآن والتي تنطوي على تحد للهيمنة الأميركية التي طال أمدها على الشؤون العالمية. إذ تمتعت واشنطن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر الثمانينات، بمكانة القوة المهيمنة في العالم. وهو موقع مكنها من إملاء أجندتها في القضايا الرئيسة، بدءا من توجيه مسار الاقتصاد العالمي إلى شن الأعمال العسكرية ضد من ترى أنهم يمثلون تهديدا للهيمنة الأميركية، مثل الديكتاتور العراقي صدام حسين.
غير أن الأحداث الأخيرة أظهرت أن قدرة واشنطن على توجيه مسار السياسة العالمية في الاتجاه الذي يناسب مصالحها الخاصة، تقابله تحديات متزايدة من كثير من زعماء العالم، الذين كفوا عن النظر إلى الهيمنة الأميركية على أنها مفيدة حتما للمجتمع العالمي.
كانت إرادة التحدي لأجندة واشنطن واضحة للغاية في القمة التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي في سويسرا، والتي أملت الولايات المتحدة أن تحشد من خلالها الدعم لأوكرانيا في حربها المستمرة ضد روسيا منذ عامين. إذ اختار عدد معتبر من الدول المشاركة، الامتناع عن دعم البيان المشترك الذي يؤكد من جديد وحدة وسلامة أراضي أوكرانيا. وكانت البرازيل والهند وجنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية من بين الدول التي اختارت عدم التوقيع على الإعلان.
ولذلك ينبغي النظر إلى الشراكة الجديدة التي وقعها الرئيسان، الروسي فلاديمير بوتين والكوري الشمالي كيم جونغ أون، ضمن هذا السياق الأوسع لإعادة التنظيم الدولي الذي يحدث على المسرح العالمي، الذي يسعى إلى تحدي التفوق الأميركي الذي طال أمده في المجالين السياسي والعسكري.
وكما أوضح بوتين في رسالته التي نشرتها وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية عشية زيارته، يأتي تعميق التعاون بين البلدين ردا على ما سماه الجهود الأميركية لفرض "ديكتاتورية استعمارية جديدة" على العالم. فمن ناحية، يعد توقيع الاتفاق بين موسكو وبيونغ يانغ محاولة منهما لإظهار التضامن في ما بينهما ضد عزلتهما المتزايدة عن الغرب، مع تعرضهما للحظر عقابا لهما. حيث تضرر اقتصاد كوريا الشمالية بشدة من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ردا على برنامج كوريا الشمالية للأسلحة النووية والصواريخ البالستية، بينما تعرضت روسيا لمجموعة من العقوبات الاقتصادية القاسية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ردا على غزوها أوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
أوضح بوتين أن تعميق التعاون بين البلدين يأتي ردا على ما سماه الجهود الأميركية لفرض "ديكتاتورية استعمارية جديدة" على العالم
وفي الوقت الذي يعتقد فيه البلدان أن اتفاقهما الجديد سيساعدهما في تخفيف تأثير العقوبات عليهما، إذ ستوفر موسكو الوقود والنقود والغذاء والخبرة العسكرية لبيونغ يانغ مقابل توفير شحنات الأسلحة الكورية الشمالية لدعم جهود روسيا الحربية في أوكرانيا، فإن للصفقة بعدا مهماً آخر وهو تعزيز قدرتهما على تحمل ضغوط الولايات المتحدة وحلفائها.
وكما أوضح بوتين بعد زيارته التي استمرت يومين لبيونغ يانغ، وشملت محادثات واسعة النطاق مع كيم، فإن الهدف الرئيس من الاتفاق، الذي تضمن زيادة التعاون العسكري بين البلدين، هو وضع روسيا وكوريا الشمالية في مركز المحور المناهض للغرب.
وبالإضافة إلى تعميق التعاون العسكري، فإن أحد البنود الأساسية في الاتفاق هو عقد معاهدة دفاع مشترك، تتطلب من كلا البلدين أن يساعد أحدهما الآخر في حال تعرض أي منهما لهجوم، وهي خطوة تهدف إلى تعزيز قدرتهما على الصمود أمام ضغوط الولايات المتحدة وحلفائها.
وإذ وصف بوتين الاتفاق بأنه "وثيقة ثورية" سترفع العلاقات "إلى مستوى جديد،" أكد على أنه "ينص على تقديم العون المتبادل في حال الاعتداء على أي طرف من أطراف هذا الاتفاق".
ويعني الاتفاق من الناحية العملية، أن كوريا الشمالية ستستمر في تزويد موسكو بالمعدات العسكرية الحيوية التي تحتاجها القوات الروسية بشدة لدعم حملتها العسكرية في أوكرانيا.
وزعم مسؤولون أميركيون في الآونة الأخيرة أن كوريا الشمالية شحنت لروسيا أكثر من 10 آلاف حاوية مليئة بقذائف المدفعية والصواريخ وغيرهما من الأسلحة، منذ التقى الزعيمان آخر مرة في سبتمبر/أيلول في قاعدة فضائية في أقصى شرق روسيا، وصل إليها كيم على متن قطار مدرع.
أما كوريا الشمالية فتأمل، في المقابل، أن تقدم موسكو- بالإضافة إلى مساعدتها في تخفيف نقص الوقود والغذاء- مساعدتها في تطوير المشاريع العسكرية الرئيسة، بما فيها الأقمار الصناعية والتخصيب النووي.
يتسم توقيت الاتفاق الذي توصل إليه بوتين وكيم بأهمية كبيرة أيضا، لأنه يؤكد على الانقسامات العميقة بين الغرب والقوى الأخرى المنافسة له. وجاء وصول بوتين إلى بيونغ يانغ بعد شهر واحد فقط من زيارته للصين، الحليف الوثيق الآخر لموسكو، حيث أجرى محادثات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ.
كما جاءت قمة بوتين وكيم بعد أيام من استخدام زعماء دول مجموعة السبع (G7) قمتهم التي عقدت في إيطاليا لإظهار دعمهم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.
وفي الوقت نفسه، يعود أحد العوامل الرئيسة لرغبة كوريا الشمالية في توسيع علاقاتها مع روسيا، إلى قلقها المتزايد من تنامي التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وكل من كوريا الجنوبية واليابان، الهادف إلى لجم التهديد الذي يفرضه برنامج الأسلحة النووي لكوريا الشمالية على الأمن الإقليمي.
وكما أوضح بوتين عشية زيارته، فسيكون الهدف الآخر للشراكة الاستراتيجية الجديدة بين موسكو وبيونغ يانغ "تشكيل البنية المعمارية لأمن أوراسيا المتساوي وغير القابل للتجزئة".
وبالإضافة إلى تقديم العون الفني للبرنامج النووي لكوريا الشمالية، فمن المرجح أن يدعم الكرملين في المستقبل بيونغ يانغ دبلوماسيا في الأمم المتحدة ضد أي محاولات من الولايات المتحدة لفرض عقوبات على أنشطتها النووية.
زعم مسؤولون أميركيون في الآونة الأخيرة أن كوريا الشمالية شحنت لروسيا أكثر من 10 آلاف حاوية مليئة بقذائف المدفعية والصواريخ وغيرهما من الأسلحة، منذ التقى الزعيمان آخر مرة في سبتمبر/أيلول
قد يبدو الاتفاق الجديد بين روسيا وكوريا الشمالية مشروعا متواضعا نسبيا، مقارنة بتحالفات أخرى مثل حلف شمال الأطلسي، الذي تهيمن فيه الولايات المتحدة على تحالف يضم 32 عضوا، إلا أن الاتفاق مع ذلك يسلط الضوء على التغيرات الدراماتيكية التي تشهدها الساحة الجيوسياسية العالمية، والتي لم يعد من الممكن معها ضمان الهيمنة الأميركية.