تستعيد الراوية في البداية قصّة جدّة أمّها شهيرة منذ أن قرّرت العائلة تزويجها وهي في الرابعة عشرة من عمرها من زوج أختها المتوفاة لتربي الطفلين اللذين تركتهما، فنكتشف سلوك عائلة لبنانية في قرية تبدو متخيّلة، اسمها كسورة، بداية القرن العشرين، كنظرتها الى جسد الأنثى، تنظيفه وعلاقته الأولى واللاحقة بالرجل، واتباعها تقاليد اجتماعية تعتمد على السمعة بين الأهالي. هكذا نجد أن شهيرة تكف عن الغناء مؤقتا بعدما فقدت بسبب هذه التقاليد حبّها الأوّل يزيد، وبسبب مفاجأتها لفعل زوجها نايف في أوّل ليلة لهما معا، إذ لم تتحقق رغبتها في أن يجالسها وأن يسمع غناءها. هي أيضا تُزفّ دون مهر، ففي حالها "للعريس الحق بعدم دفع أيّ مهر" على أن "يُنقل مهر المتوفاة إلى شقيقتها العروس الجديدة".
مع تفاصيل حياة قروية تستعيد شغفها بالغناء ليسمع صوتها الجميل في البيت بعدما كان يُسمع في الأعراس وأثناء حصاد القمح. كما يُسمع صوتها حين خالفت زوجها وطالبت بذهاب الأولاد إلى المدرسة. وجودها يصبح ضروريا في مواجهة كلّ الصعوبات، من دفع أقساط المدرسة ومواجهة الفقر في عائلة كبيرة، خاصة بعدما أضافت إلى ولدي نايف من شقيقتها الراحلة أولادا ثلاثة.
قلة الحيلة
تشهد شهيرة في حياتها الكثير من التحولات المتصلة بعلاقتها بزوجها وبالمحيط الاجتماعي والجغرافي وبالذات سوريا وفلسطين، ومن أبرزها وصول الجراد في ربيع 1915 بعد أقلّ من سنة من اندلاع الحرب العالمية الأولى. فهي إذ تعيش قرابة قرن نجدها تتساءل: "ماذا لو عادت الحرب؟ ماذا لو عاد الجراد ثانية يأكل مؤونتنا وطعامنا ويقتل أولادنا؟".
أمّا عن جدّتها ياسمين التي "قتلها الزواج المبكّر وقلّة الحيلة"، فتروي أسمهان أنها زوِّجت إلى ابن عمّها، وهو زواج يقيهما من تدخّل الغرباء في الدم وفي الميراث. ولم تكن قد أكملت دراستها فليس هناك مدارس تكميلية للفتيات لمتابعة دراستهنّ بعد الابتدائية. لهذا تتعلّم الخياطة وتعمل فيها بعد الزواج. ووسط شجارات عائلية تبقى تسأل نفسها إذا كان الحلم بحياة أفضل صعبا إلى هذا الحد؟ ويكون لديها أمل في أن تلحق بزوجها غسان الذي سافر إلى حيفا في فلسطين ليعمل في شركة سكة الحديد لكن رغبتها لم تتحقق وسرعان ما توفيت بعد ولادة طفلتهما ليلى.
لليلى هذه لها قصّة مختلفة، فهي تنشأ في رعاية جدتها شهيرة، التي لا يفارقها السرد، حيث كانت بنشاطها وحيويتها "الرافعة الوحيدة لتواصل أهل البيت". ستشعر ليلى "أن الذاكرة عبارة عن حياة مستعارة لم تعشها"، فهي ترعرعت في بيت يخيّم عليه شبح الفقدان، تدرس وتعجب بالشعر والروايات التي تقتنيها من مصروفها الخاص الذي يرسله والدها من فلسطين. تندهش لحركة الطبيعة فتمضي بعض وقتها في تأملها، قبل أن تنتقل إلى بيروت، وفيها تتعرف الى مجتمع مختلف حيث يتفتح ذهنها على كثير من أسئلة الحياة، وبالذات علاقتها بيوسف الذي أدخلها إلى عالم جديد سيخذله في ما بعد حين يرفض الهرب معها. مع هذا ستشعر أنها قطّة برّية يتم تدجينها، حين يرسمون لها في العائلة حياتها المستقبلية، فتتبخر مع الزواج المفروض عليها أحلامها كلّها وأوّلها مواصلة الدراسة. ولم تستطع مواجهة الحياة الزوجية حتى بعد ولادة ياسمين ووليد. فقد كان الجنس بالنسبة إلى زوجها سالم وسيلة انتقام. وكما تكتب في يومياتها أنه "كان يطرد خوفه من الموت بالجنس، فيما أقاوم الموت بالكتابة"، لكن مقاومة هذا العنف لم تدم طويلا فسرعان ما اختفت ليلى فجأة ولم يعرف مصيرها.
في الرواية نتعرّف الى تحولات كثيرة زامنت الوجود العثماني بشخصية المتصرّف ثم الانتداب الفرنسي وبعده، وخلال الأزمة الأولى نلاحظ مظاهر الفقر، حيث "المجاعة تولّد الخوف والخوف يولّد العنف".
النساء في الرواية هنّ عماد السرد وتاريخه على امتداد ثلثي قرن من تاريخ لبنان. وهنّ جزء من الفعل، العمل والحياة، مع أنهن يبقين في حالة متوارية، أو مهمّشة في نظر الرجال الذين يستقوون بإرث ذكوري يعطيهم الكلمة والحق، ومن أجل تحقق هذه المكانة لا يتراجعون عن ممارسة العنف بكل أشكاله، بما في ذلك الخذلان الذي لا يقوون معه على عمل شيء من أجل الحب.
رواية حميمية تضاف إلى تجربة إيمان حميدان في تقصّيها لحيوات كثيرة نشعر ونحن نقرأها أنّها تخصّنا، أو تخصّ أناسا نعرفهم وعشنا معهم.