لم يُهزم أحد طوال قرن كاملٍ مضى مثلما هُزم الكُرد، شعبا وأحزابا وحركات مُسلحة، كما ونوعا وعددا، حتى صاروا يؤخذون كاستعارة سياسية كُبرى عن الهزيمة بكل مضامينها. لكن، ومع التسليم بكُل ذلك، لا يزال الكُرد حاضرين في المشهد الكلي للحياة السياسية والأمنية والأيديولوجية في المنطقة، فاعلا أساسيا ضمن الحسابات الكبرى والحساسيات المتداخلة، طاقة حاضرة وذات تأثير، لاعبين لا يُمكن غض النظر عنهم في أربع من أكبر دول المنطقة.
ليس بعيدا عنهم، يعيش السوريون واحدة من أكبر ملاحم الهزيمة في التاريخ المعاصر للمنطقة: جذر مشروعهم السياسي، الذي كان يتمثل بالانتفاض على النظام الشمولي والسعي لبناء آخر ديمقراطي مكانه، تحطم تماما، نصف السُكان مهجرون خارج بلدهم، يعايشون أسوأ أشكال الذل في المخيمات وأفظع أنواع الفوقية في مُدن دول اللجوء، معارضتهم السياسية تابعة لأجندات أطراف وأجهزة لا تُعد، مُدنهم التاريخية صارت مدمرة تماما، وأريافهم غدت يبابا، ضحايا بمئات الآلاف، وفوق ذلك استنكاف العالم عن أي تدخل أو مساهمة إيجابية في حل مشكلتهم، حتى على مستواها الإنساني، ومعها أفق قاتم.
بجمع الأمرين سوية، يمكن للمطلع الحصيف على السيرة الكلية للكُرد خلال هذه الفترة، أن يقول للمهزومين السوريين هؤلاء الكثير من الأشياء ذات المعنى والقيمة، لنُخبهم السياسية والثقافية والمعرفية أولا، من موقع شخص عرف جماعة جربت الهزيمة كل لحظة، حتى أنها خلقت معه أنزيم مناعة ذاتية لا يُضاهى، جعلته مستعصيا على الانحلال السياسي والتفكك العقائدي، ما أبقت قضيتها حية.
فمثلا، وبالضبط كما كان التاريخ الكردي سلسلة مطولة من الهزائم، فإن التاريخ نفسه كان درسا كبيرا في ما يُمكن تسميه "علم الانتظام". فطوال هذه العقود الكثيرة، لم يترك الكُرد لحظة ومكانا إلا وشكلوا فيه تنظيمات سياسية، مختلفة الأشكال والعناوين والشعارات، في الأرياف والمدن، في الأوطان والمنافي، من أقصى اليسار الرومانسي إلى أقصى اليمين القومي، لكل الطبقات الاجتماعية والنزعات الأيديولوجية والتطلعات السياسية، علنية وسرية، محلية وعابرة للحدود. طحنت الجيوش والأجهزة الأمنية في تلك البلدان عظامهم ليتركوا أحزابهم وتنظيماتهم، لكنهم ما فعلوا قط، بقوا متمركزين حول رؤية جوهرية، تقول "إن أسوأ حزب وتنظيم سياسي، أفضل من أحسن حالة اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية منفلتة". فعلوا ذلك حتى تحولت الأحزاب السياسية إلى جوهر أساسي في حياتهم، يعرفون أنفسهم بالأحزاب وانتمائهم إليها، يشكلون ذواتهم وعائلاتهم وميولهم الحياتية وطبقاتهم الاجتماعية حسبها، يمنحون قادتها ونُخبها سطوة رمزية وقيمة اجتماعية استثنائية، تتجاوز ما لرجل الدين أو زعيم العشيرة أو صاحب المال أو الأستاذ الجامعي.
لم تكن الأحزاب الكردية مجرد فلكلور سياسي، حتى أصغرها حجما وأقلها دورا، وبكل خطاياها وسوء تقديراتها السياسية، بل كانت على الدوام أداة حيوية لتحشيد المجتمعات الكردية وحفظ تطلعاتها المشروعة، التي لولا الاستثنائية في استعصاء المسألة الكردية، لحققت منجزات كبيرة.
في موازاة ذلك، ثمة كل شيء في الحالة السورية، خلا ما يُمكن وصفه بالانتظام السياسي. لا يُمكن تفسير وتبرير الأمر بالفقر السياسي المُدقع الذي فرضه النظام الحاكم على السوريين طوال نصف قرن، وإن كان ذلك صحيحا، لكنه نسبي فحسب.
لم تكن الأحزاب الكردية مجرد فلكلور سياسي، حتى أصغرها حجما وأقلها دورا، وبكل خطاياها وسوء تقديراتها السياسية، بل كانت على الدوام أداة حيوية لتحشيد المجتمعات الكردية وحفظ تطلعاتها المشروعة
فما تعيشه النُخبة السياسية السورية، إن صح هذا التعبير، هو نبذ وازدراء كامل لأي انتظام سياسي: شخصيات ثقافية واقتصادية فردية للغاية، ترى في نفسها الأحقية والجدارة في اقتحام عالم السياسية، تتدافع لتشغل المكانة والدور الذي من المفترض أن يكونا للساسة المؤطرين بأحزابهم. ومثلهم "ساسة مستقلون" يملأهم الغرور، ينحازون لاختصار العالم والمسألة السورية في ذواتهم وخياراتهم، متخمين بـ"الأنا العليا"، ومأخوذين بحكايات المجد الفردي الأسطورية. وإلى جانبهما تنظيمات تتشكل دون أي مضمون سياسي أو قيمة أيديولوجية ما تلبث أن تغرق في صراعات مؤسسيها، لتنقسم على ذاتها بعد فترة وجيزة، وتتحول بالتقادم مجرد منصات وعناوين لمؤسسيها، ليستخدموها كأداة في العلاقات العامة. ومعها جميعا تنظيمات سياسية تاريخية، فاقدة الحيوية وصغيرة الحجم والدور والقدرة على الفعل، حتى صارت شيئا لا يُرى تقريبا، تراثا سياسيا ثقل الوقع حتى على الذين كانوا يُؤمنون بها يوما ما.
مثل التنظيمات، فإن التاريخ السياسي الكردي كان حركة دؤوبة للتجريب والطرح. فمع نهاية حقبة الانتفاضات الكردية الشاملة والجذرية في ثلاثينات القرن المنصرم، وبعدما تيقن الكُرد، وتحديدا نخبتهم السياسية العُليا، من أن هذه الدول أصبحت حقائق شبه مطلقة، مليئة بالعنف وتحظى بالمساندة الإقليمية والدولية، صار الكرد بمعنى ما "يراقصونها"، يطرحون عليها أشكالا لا تُعد من المفاهيم وإمكانيات الحل، يجهدون دون هوادة لايجاد ثقب ما في جدار جبروتها، ليتسربوا منه إلى داخلها، ويفككوا بالتالي عنادها وقسوتها ونكرانها لهم ولقضيتهم.
في الطريق إلى المكان عينه، طرح الأكراد أشياء وصيغا من مثل "الحُكم الذاتي"، و"الاعتراف الثقافي"، و"أخوة الشعوب"، و"الفيدرالية"، و"وحدة العيش والمصير"، و"أمة ما بين النهرين"، أعادوا تفسيرهم للأتاتوركية، وطالبوا الأتراك بأن تكون هي بالذات المظلة التي تجمعهم. تركوا مفهوم السيادة على أراضيهم، وطالبوا بالاعتراف بلغتهم وحقهم في الحكم المنظم في مجالات الإدارة المحلية فحسب. في العراق صفقوا لعبد الكريم قاسم حين انقلب على الملكية، ثم ثاروا على قاسم نفسه بعد ثلاث سنوات. خططوا مع البعثيين للانقلاب على حُكم الأخوين عارف، ثم تحالفوا مع شاه إيران لإسقاط "البعث"، ووافقوا الأميركيين على إسقاط منظومة "البعث" وتشييد غيرها. في إيران ما تركوا متاهة سياسية إيرانية إلا وانخرطوا فيها، وفي سوريا نفذوا تجارب لا تُعد.
قياسا على ذلك، فإن المهزومين السوريين خنقوا أنفسهم بثلاث أو أربع عبارات مُقتضبة، مغلقة وساذجة، ما عاد لها قيمة ومعنى بحُكم التقادم السياسي: "اسقاط النظام ومحاكمته... الدولة المدنية الديمقراطية... دولة المواطنة ستحل كل القضايا... سنترك كل شيء للبرلمان المنتخب مستقبلا". أسرى العبارات المغلقة السوريون هؤلاء، وإن كانوا يطابقون "البعث" والبعثيين الحاكمين في منطقهم، وكانوا في معنى ما ضحايا "البعث"، إلا أنهم أثبتوا كسلا سياسيا بالغا، وفشلا ذريعا في أن يكونوا نُخبة سياسية حقيقية، قادرة على قيادة الناس وإدارة مصالحهم العليا، والتفاوض باسمهم ونيابة عنهم. وإقناعهم أولا بأن هذا المستوى من التبديل والتنازل أو ذاك، هو في مصلحتهم ختاما.