دبابات فرنسية تُطلق النار على الجنود الإنكليز، وطائرات حربية تُغير على أحياء العاصمة السورية. قوات أجنبية تشتبك مع بعضها بعضا على ضفاف نهر الفرات، ورفع أعلام أوروبية على الشرفات وفي ساحات دمشق قبل الدخول في مفاوضات لوقف إطلاق النار، بغياب سوري كامل.
قد يبدو المشهد خارجا من دفاتر الحرب السورية المستمرة منذ ثلاثة عشر عاما، فالقوات الأجنبية منتشرة بكثافة في طول البلاد وعرضها، تتنافس على الحدود والبترول وعلى المرافئ والمعابر، ولكنه في الواقع ليس مشهدا معاصرا بل من الماضي البعيد، يعود إلى سنة 1941، يوم شهدت سوريا حربا أهلية أوروبية على أرضها. لم تكن سوريا وقتها مستقلة، ليس فيها لا جيش ولا آبار نفط، ولا تنظيمات جهادية وعسكرية. وللمفارقة، فإن معظم معارك سنة 1941 دارت في المناطق نفسها التي شهدت أعنف مراحل القتال في السنوات القليلة الماضية.
لا يجب أن تضيع منا سوريا
جاءت حرب عام 1941 بعد سنة من سقوط باريس في يد الجيش النازي في 14 يونيو/حزيران 1940 وقيام حكم فرنسي موالٍ لأدولف هتلر، ترأسه المارشال فيليب بيتان من مدينة فيشي وسط البلاد. أصبحت سوريا تتبع بشكل مباشر لحكم فيشي، وشكلت مقاومة عسكرية فرنسية في بريطانيا لمحاربة النازيين، بقيادة الجنرال شارل ديغول. سقوط سوريا في يد الألمان دق ناقوس الخطر في لندن، وكان يعني قطع خطوط التجارة البريطانية مع الهند، وفقدان قواعد بريطانيا في قبرص، مع احتمال ضياع مصر، ومعها قناة السويس، ما جعل رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل يكتب في مذكراته: "لا يجب أن تضيع منا سوريا".
دروس عراقية وإيرانية
بدا لوهلة وكأن الألمان يسابقونه على كسب ود العرب والمسلمين وتعاطفهم، بعد انتقال مفتي القدس الحاج أمين الحسيني للعيش في برلين ولقائه بهتلر، وتخصيص ساعة بث له عبر الإذاعة النازية للوصول إلى مسلمي أوروبا. رد تشرشل ببناء مسجد لندن الكبير استرضاء لمسلمي بريطانيا، وكسب عقول مسلمي الوطن العربي، ولكنه طالبهم بولاء مطلق، كما فعل العراق، وفعلت مصر يوم قطعت علاقتها الدبلوماسية مع ألمانيا، نزولا عند رغبة تشرشل.
ولكن ولاء حكام العراق فجّر ثورة عارمة ضد بريطانيا، قادها رئيس الحكومة الأسبق رشيد عالي الكيلاني في أبريل/نيسان 1941. لم يكن في العراق يومها قنصلية ألمانية، ووحدهم الإيطاليون من دول المحور كانوا ممثلين في بغداد، ولكن الكيلاني اتُهم فورا بالعمالة لهتلر، وقيل إن ثورته جاءت بتمويل وتخطيط من الرايخ الثالث.
أُسقطت حكومة نوري باشا السعيد المحسوبة على الإنكليز، وهرب رئيسها إلى الأردن، وفر الوصي على عرش العراق، الأمير عبد الإله، على متن سفينة بريطانية نقلته إلى فلسطين. دعا الكيلاني إلى جهاد مقدس ضد الإنكليز، ولبى نداءه مئات الشبان من الدول العربية المجاورة، ووصلت الحماسة إلى صفوف الجنود المسلمين الهنود العاملين في الجيش البريطاني.