كيف تجتمع الحرب والحفلات الموسيقية المزدحمة في بلد واحد؟ كيف يدفع رواد الحفلات هذه مبالغ طائلة للحضور في الوقت الذي تنتظر فيه عائلات حصة غذائية من جهة حزبية أو أهلية؟ ماذا يخفي لقاء الصيف وما يحمله من ترفيه، والدمار الواقع على مسافة قليلة من المنتجعات السياحية؟
هذه الأسئلة ربما تجاوز اللبنانيون عبء التفكير والنظر فيها. الاستسلام للواقع جزء مكون من الحياة اليومية اللبنانية وضرورة استمرار عجلتها ولو من خلال طحن حياة ومستقبل مئات الآلاف من المواطنين. شراء بطاقات الحفلات الغنائية التي يزيد ثمن الواحدة منها على راتب شهور عدة لموظف في الدولة أو القطاع الخاص، لا يتعارض في منطق البقاء والنجاة اللبناني مع إقفال شبه نهائي لملف نهب الأموال العامة والخاصة في مؤسسات الدولة وفي المصارف سواء بسواء.
منطق النجاة الفردية السائد اليوم يجد أصوله في تفكك مشروع الدولة اللبنانية المركزية وفشل مشاريع إعادة توحيدها بعد الحرب الأهلية بين 1975 و1990. مرحلة ما بعد الحرب التي جرت فيها محاولة بناء هيمنة بديلة عن تلك التي تزعمتها ما اصطلح على تسميته "المارونية السياسية" بعد استقلال سنة 1943، والقائمة (باختصار شديد) على إحلال تحالف إسلامي مع النظام السوري كبديل عن التحالف المسيحي مع الغرب، أخفقت تماما، وشكل اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في 2005 إعلانا مدويا لنهايتها.
منذ ذلك الحين، ظهرت مساع لبناء محور شيعي– مسيحي عنوانه ولبّه "تفاهم مار مخايل" بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" (العوني)، أحكم سيطرته على إدارات الدولة قبل أن تظهر حدود القدرات المسيحية– العونية في احتلال موقع الند لما يمتلكه الحزب المسلح من كفاءات تتجاوز بأشواط ما يحوزه اللبنانيون بكافة جماعاتهم الطائفية والأهلية.
تشرذم المجتمع اللبناني وهزيمة "قوى 14 آذار" التي اعتقدت أنها تحمل مشروعا سياديا يجمع بنية طائفية يحتل فيها السنة اللبنانيون موقعا معادلا للمسيحيين ويبقي على صلاته القوية مع الغرب، أسفرا عن نهاية غير معلنة لكل ما يجمع اللبنانيين الذين عادوا عمليا إلى العيش في معازل متجاورة، ارتفعت الجدران بينها أكثر بعد الانتكاسة المأساوية لانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وفشل "قوى التغيير" وهزال ممثليها في انتزاع أي دور ذي مغزى في أدغال السياسة اللبنانية.
ارتفعت الجدران في المجتمع اللبناني أكثر بعد الانتكاسة المأساوية لانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وفشل "قوى التغيير" وهزال ممثليها في انتزاع أي دور ذي مغزى في أدغال السياسة اللبنانية
نهاية حركة "17 تشرين" والعجز عن بناء حد أدنى من الإجماع اللبناني ولو على قضايا كبرى مثل التحقيق في تفجير مرفأ بيروت في 2020 أو في استيلاء المصارف على الودائع أو ملاحقة الحاكم السابق للمصرف المركزي الملاحق دوليا ومحليا باتهامات لا تحصى ليس أقلها السطو على المال العام، عكس في واقع الأمر إفلاس فكرة الدولة في لبنان وافتقارها إلى التأييد من أكثرية اللبنانيين المشغولين بتوفير أسباب الحياة اليومية لهم ولأبنائهم.
التجاور وليس التعدد هو ما يفسر كيف تجري الاحتفالات في بيروت، فيما تقصف الطائرات الإسرائيلية قرى الجنوب. ليس من عداء أو كراهية بين جمهور الحفلات الصاخبة وبين القاطنين في أماكن الإيواء المؤقتة لأهالي الشريط الحدودي المتاخم لإسرائيل. بل إن سمة العلاقة بين الجانبين هي التجاهل الذي يخفي تحته إيمانا قويا بعدم وجود ما يجمع الجانبين، لا في المصائب الحالية، ولا في الغنائم التي يقول الجانبان إن كلا منهما حصدها في زمن مضى. فمن سيطر على موارد الدولة في وقت سابق عليه أن يعوض على جمهوره، ومن قرر المشاركة في الحرب لإسناد غزة، عليه أن يتحمل ما يجري في الجنوب.
وهذا من دون أن يغيب عن بال رواد المطاعم والحفلات في بيروت والجبل والشمال أن لا شيء يحميهم من تجرع كأس الحرب قريبا. لكن كل ما في الأمر أن لحظة الموت لم تحن في مناطقهم ومضاربهم بعد. هكذا يعمل منطق التجاور والنجاة.