ما يبقى

ما يبقى

علق بذاكرتي مشهدان يحضران كلما فكرت في الكتابة في هذا الموضوع الذي سيتجلّى تدريجيا. الأول، لرجل خضّب لحيته ورأسه بالحناء حتى صار لونهما أحمر. كان ينتمي إلى جماعة التبليغ الصوفية، وقد شهدته مرة يدافع عن انتمائه الحزبي أمام من ينتقدونه بحجج بدت لي لحظتها متهافتة لغياب المنطق عنها، وبسبب ما تشمئز منه النفس من ممارسات الطرقيين. عندما أكثروا عليه اللوم، كشف عن رأسه الذي تقاسم شعره البياض والحمرة، ورفع صوته بأنه كان مع هؤلاء المتصوفة طوال حياته، وبأنه قد شارف السبعين ولم يعد يرغب في أي تغيير. وهكذا أغلق النقاش.

مشهد مشابه شهدته أيضا لسبعيني آخر، ماركسي أحمر، انهال عليه النقد، ألم تسمع بغورباتشوف؟ ألم تعلم بأن الحائط قد انهار؟ ألم تعلم أن الاتحاد السوفياتي قد تفكك؟ ألم تشاهد فيلم "وداعا لينين"؟ فكان جوابه – و يا للدهشة – مقاربا لرأي ذلك الصوفي. القضية مع توالي السنين لا تبقى قضية فكر بقدر ما هي علاقات اجتماعية. يقضي الإنسان عمره في دائرة معينة من الأشخاص ويعرّف نفسه بهم ويصرح بانتمائه إليهم، ولا يعرف من الذكريات السعيدة إلا ما اقترن بهم، لأنهم كانوا موجودين دائما في تلك الذكريات. في عبارة أخرى، كانت الصداقة هي سبب التواصل على الرغم من تلاشي الأفكار وتفكك الأحزاب.

من جهة أخرى، يمكن للحزبية أن تكون سببا في تفكك العلاقات وهي التي كانت سبب الرباط أول مرة. عندما يشعر الإنسان بفردانيته ويبدأ في التفكير وحده واتخاذ قرارات لا يشاور فيها أحد، فلا يلبث أن يخسر رفاق الأمس، لأن هذه الأيديولوجيات ترفض التفكير المستقل ويضيق صدرها بالشكوكي الذي يتساءل عن صحة الطريق ويناقش أصغر التفاصيل وأدقّها. وعندما تكثر التساؤلات أو الاعتراضات فإن الأيديولوجيا من دون شك سوف تقصي المتسائل وتبتره بترا. ولن تستطيع الصداقة أن تصنع شيئا حيال ذلك.

أصدقاؤك حقا هم أولئك الذين ترغب في أن تراهم بعد ليلة من الشجار الحاد معهم

لكن ما هي الصداقة؟

حدّد أرسطو ثلاثة أنواع: صداقة المنفعة، وصداقة المتعة، والصداقة الكاملة. في صداقة المنفعة، يرتبط الأفراد بعضهم ببعض بسبب بعض الخير الذي سيحصلون عليه من هذا الارتباط، كمن يتشاركون في تجارة. بمجرد أن يأخذ كل واحد نصيبه من الخير الذي يرغب فيه فإن الصداقة تتلاشى. وفي صداقة المتعة لا يرتبط الأفراد إلا بسبب نوع من المتعة يمكن أن يحصلوا عليه إذا اجتمعوا، كمن يجتمعون حول طاولة واحدة للعب الورق أو للمنادمة. خذ هذه الطاولة بعيدا عنهم، تتفكك تلك الصداقة، لأنها علاقة سطحية للغاية.

إن كان لي أن أتفلسف في قضية الصداقة محاولا أن أقول فيها شيئا جديدا أو تحديدها تحديدا دقيقا، فسأقول إنه من الخطأ أن نتخيل أن كل تفاعل إنساني هو صداقة. الصداقة هي ما يبقى بعد وقوع الخلاف وتجلي الاختلاف. أصدقاؤك حقا هم أولئك الذين ترغب في أن تراهم بعد ليلة من الشجار الحاد معهم. تخاف أن تكون قد فقدتهم فتكتشف أنهم هم أيضا خافوا أن يفقدوك. هؤلاء هم الأصدقاء حقا. من تخسرهم بسبب خلاف فكري أو أي سبب تافه آخر هم في الحقيقة ليسوا أصدقاءك، هم مجرد معارف.

font change
مقالات ذات صلة