كان لافتا مؤخرا سعي الولايات المتحدة الأميركية إلى ثني شركائها الأوروبيين، بريطانيا وألمانيا وفرنسا، عن المضي في تبني مشروع قرار بتوجيه لوم أو تقريع رسمي لإيران على إعاقتها الرقابة الدولية على منشآتها النووية التي تزيد من إنتاج اليورانيوم المخصب، وذلك في الاجتماع الدوري للمنظمة الدولية للطاقة الذرية الذي عُقد في فيينا مطلع هذا الشهر.
كانت فحوى الحجة الأميركية أن توجيه مثل هذا اللوم لإيران سيثير غضب الأخيرة ويدفعها لزيادة التخصيب، كما فعلت عند توجيه لوم مماثل لها في منتصف 2022، إذ زادت نسبة تخصيبها لليورانيوم ليصل إلى 60 في المئة (يحتاج صناعة قنبلة ذرية تخصيبا بمستوى 90 في المئة). في آخر المطاف، و بإزاء الرفض الأوروبي لسحب مشروع القرار، اضطرت أميركا للتصويت إلى جانبه. فعدم التصويت يحمل مخاطر سياسية أكبر على الرئيس الأميركي جو بايدن وهو بصدد خوض سباق انتخابي صعب.
كانت الحجة الأميركية المعلنة هي أن تمرير هذا القرار سيساهم في تصعيد التوتر في المنطقة إذا قررت إيران الرد عليه بمزيد من التخصيب، في وقت انشغال أميركا الشديد بحل ملف غزة وغياب الرغبة في التعاطي مع التحدي النووي الإيراني في هذه الأثناء. الحجة بذاتها صحيحة لكنها لا تمثل كل الحقيقة ولا حتى معظمها. الهدف الأميركي الأساسي هنا هو الحجة غير المعلنة: تجنب إدارة بايدن استفزاز إيران وبالتالي الاضطرار للدخول في مواجهة معها في موسم انتخابي رئاسي أميركي ساخن. ولذلك تسعى أميركا إلى تحييد إيران وحلفائها انتخابيا قدر المستطاع، قاطعة، لحد الآن، شوطا مهما وطويلا في هذا الصدد.
السعي الأميركي الجدي لإبعاد تأثير إيران و"محور المقاومة" الذي تتزعمه عن الانتخابات الأميركية بدأ تدريجيا وتسارع كثيرا مع استمرار حرب غزة على امتداد أشهر طويلة واتساعها في جبهات مختلفة وصلت إلى سوريا والعراق وحتى الأردن. كانت "ضربة الأردن" في نهاية يناير/كانون الثاني، حين قَتلت مُسيَّرَة أطلقتها "كتائب حزب الله" العراقية، المنضوية في "محور المقاومة" من سوريا ثلاثة عسكريين أميركيين وجرحت عشرات آخرين في نقطة مراقبة حدودية أميركية شمال الأردن، حاسمة في تغيير الموقف الأميركي من الاحتواء إلى الهجوم بهذا الصدد.
وقد تسببت الضربة في غضب سياسي أميركي واسع، مصحوبا بتشكيك إعلامي وحزبي، خصوصا من الحزب الجمهوري، بجدوى سياسة بايدن في الشرق الأوسط واتهام الإدارة بالفشل في حماية أرواح العسكريين الأميركيين. كان هذا كافيا لإثارة قلق الإدارة من تحول حياة العسكريين الأميركيين إلى مادة انتخابية تستخدم ضدها، وعلى الأخص إذا تواصل سقوط العسكريين، قتلى أو جرحى حتى بأعداد صغيرة، وصولا إلى موعد الانتخابات. يمكن لهذه المادة وحدها أن تطيح ببايدن انتخابيا في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في ظل انتخابات شديدة التنافسية تستطيع بضعة آلاف من الأصوات في ولايات قليلة أن تحسمها.
السعي الأميركي الجدي لإبعاد تأثير إيران و"محور المقاومة" الذي تتزعمه عن الانتخابات الأميركية بدأ تدريجيا وتسارع كثيرا مع استمرار حرب غزة على امتداد أشهر طويلة
بسبب الإحساس بالخطر الانتخابي هذا، لجأت إدارة بايدن إلى رد سريع وقوي وواسع وتركته، عن عمد، مفتوحا كي تمنح نفسها حرية المناورة زمانيا ومكانيا. تَمثلَ الرد أولا في عمليات قصف في سوريا والعراق مطلع فبراير/شباط هذا العام ضد 85 هدفا في سياق استهداف سبع منشآت قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنها تعود لـ"الحرس الثوري" الإيراني "وميليشيات تابعة له"، مضيفا قوله إن "ردنا الذي بدأ اليوم سيستمر في الأوقات والأماكن التي نختارها". بعدها بأيام اغتالت الولايات المتحدة، بقصف طائرة مسيرة، اثنين من المسؤولين الأمنيين رفيعي المستوى في "كتائب حزب الله" يُعتقد أن لأحدهما دورا مباشرا في ضربة الأردن. كانت إدارة بايدن تسعى لتكريس وقائع ردع قاس ومؤلم ضد فصائل "محور المقاومة" يمنع هذه الأخيرة من استهداف القوات الأميركية وبالتالي إيقاع خسائر فيها تفتح أبواب الانتقاد الداخلي الأميركي ضد الإدارة.
نجحت استراتيجية الردع القوي الذي تبنته الإدارة، إذ لم تحصل عمليات مسلحة جدية ضد العسكريين الأميركيين في المنطقة، وعلى الأغلب سيستمر هذا الوضع حتى نهاية الانتخابات الأميركية. أحد أسباب نجاح هذه الاستراتيجية هي دعم إيران الضمني لها، أو على الأقل رفضها تحديها، كما ظهر من خلال زيارة قائد "فيلق القدس" الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، للعراق وقتها، في يناير بعد ضربة الأردن مباشرة، لممارسة الضغوط اللازمة التي قادت إلى إسكات بنادق الفصائل المسلحة نحو القوات الأميركية. من هناك كان بيان "كتائب حزب الله" بتعليق عملياتها ضد القوات الأميركية مؤقتا منعا لـ"إحراج الحكومة العراقية" ودعوتها لتبني "الدفاع السلبي" أي الرد فقط على الهجمات الأميركية في حال وقوعها.
تستفيد إيران كثيرا من صمت "بنادق المقاومة" إزاء الولايات المتحدة في هذه الفترة، لأن مصالحها تقتضي فوز الرئيس بايدن ضد خصمه الجمهوري دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وإذا قامت إيران، عبر حلفائها في "محور المقاومة"، أو سمحت لهم باستهداف عسكريين أميركيين وقتلهم أثناء هذا الموسم الانتخابي في أميركا، فسيؤدي هذا إلى إضعاف حظوظ بايدن الانتخابية لصالح ترمب الذي قد ينتهي بأن يصبح رئيسا لأميركا مجددا. ويمثل فوز ترمب أسوأ سيناريو لإيران، فالرجل معروف بخصومته الشديدة لـ"الجمهورية الإسلامية" بعد انسحابه عام 2018 من الاتفاق النووي مع إيران الذي أبرمته معها عام 2015 إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما مع شركائها الأوروبيين. أَتبَعَ ترمب قرار الانسحاب هذا بفرض ما سُمي حينها سياسة "الضغط الأقصى" التي أعادت الولايات المتحدة عبرها فرض العقوبات على إيران وأضافت أخرى جديدة مثل منعها من استخدام النظام المالي الدولي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة. على الأكثر، ستعود المواجهة ساخنة وقوية بين إيران وأميركا في حال فوز ترمب. في إطار هذه المواجهة، ستكون الخيارات العسكرية الأميركية حاضرة على نحو أكثر في استراتيجية إدارة يقودها ترمب، كما ظهر سابقا في اتخاذ الرجل قرار اغتيال قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني، قاسم سليماني، مطلع 2020 في مطار بغداد.
يُعد بايدن، وفوزه المُرتجى في الانتخابات المقبلة، الخيار الأفضل المتيسر لإيران، أو أهون الشرين، فهو في آخر المطاف يريد إحياء الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة ديمقراطية كان هو نائبَ الرئيس فيها، وسياسة إدارته الحالية إزاء إيران تقوم على الفصل بين الملفات الثلاثة المختلفة (الملف النووي، ملف الصواريخ الإيرانية، وملف "محور المقاومة") والتعاطي معها واحدا بعد الآخر، بعكس ما تريده إدارة جمهورية محتملة بقيادة ترمب تُصر على التعاطي مع هذه الملفات كحزمة واحدة، الأمر الذي ترفضه إيران بشدة، ويزيد احتمالات مواجهة أميركية- إيرانية مباشرة. وتستطيع إيران التعايش مع سياسة إدارة بايدن نحوها وطورت تدريجيا وسائل تكيف معها، لكن سيكون صعبا عليها التكيف على مدى فترة طويلة مع سياسة إدارة ترمبية متشددة.
نجحت استراتيجية الردع القوي الذي تبنته الإدارة، إذ لم تحصل عمليات مسلحة جدية ضد العسكريين الأميركيين في المنطقة، وعلى الأغلب سيستمر هذا الوضع حتى نهاية الانتخابات الأميركية
بغض النظر عما إذا كانت الترتيبات الأميركية- الإيرانية غير المباشرة ستصمد بخصوص صمت "بنادق المقاومة" أم لا على مدى الأشهر المقبلة، سيكون ملف تعاطي إدارة بايدن مع إيران حاضرا في الانتخابات الأميركية، وسيثيره الجمهوريون على الأكثر بقوة، لأن سجل بايدن في مواجهة إيران، وتحديدا في الملف النووي، ليس لصالحه انتخابيا ويُفهم في أميركا على أنه فاشل عموما، كما في زيادة إيران نسب تخصيب اليورانيوم إلى مستويات عالية، ومنعها- الناجح لحد الآن- لمنظمة الطاقة الذرية الدولية من فرض الرقابة على منشآت نووية إيرانية فيها يورانيوم مخصب وتجري عمليات تخصيب فيها. لكن على الأغلب لن يؤثر هذا الملف، عند إثارته، على خيارات الناخبين الأميركيين في نوفمبر/تشرين الثاني، بل سيمر عابرا بوصفه ملف سياسة خارجية بعيدا لا تأثير مباشرا له على حياة الأميركيين أو أولوياتهم.
مع ذلك، سيختلف الأمر كثيرا في حال سقوط عسكريين أميركيين قتلى أو جرحى في عمليات مسلحة إيرانية أو لحلفاء إيران في "محور المقاومة" عند اشتداد التنافس الانتخابي باقتراب يوم الانتخابات. حينها سيكون بايدن إزاء موقف صعب جدا يقترب من أن يكون كارثة انتخابية تكلفه وصوله إلى البيت الأبيض. وسيكون هذا أيضا كارثة لإيران، ونصرا كبيرا لإسرائيل في ظل حكومة اليمين التي تقودها حاليا وتتمنى أن يكون ترمب هو حاكم البيت الأبيض من جديد.