خصوصية المواطنين في الولايات المتحدة أصبحت صعبة المنال

تمديد العمل بالبند 702 من قانون الاستخبارات الأجنبية للتجسس يضع الأمن القومي في مواجهة الحقوق الأساسية للأفراد

Shutterstock
Shutterstock
شعار مكتب التحقيقات الفيديرالي (FBI)، على هاتف ذكي.

خصوصية المواطنين في الولايات المتحدة أصبحت صعبة المنال

وافق الكونغرس الأميركي أخيرا على تمديد البند 702 من قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية، المعروف بـ" Foreign Intelligence Surveillance Act" (FISA) لمدة عامين. يسمح هذا القانون لوكالات الاستخبارات الأميركية بجمع معلومات استخباراتية عن أشخاص غير أميركيين، موجودين في الخارج، يمكن أن يمتلكوا أو يتلقوا أو يتشاركوا معلومات إستخباراتية أجنبية خارج الولايات المتحدة من دون إذن قضائي.

قوبل هذا القانون باعتراضات كبيرة من المجتمع الأميركي نظرا لإمكان جمع معلومات حساسة ومحادثات لمواطنين أميركيين كان قد سبق لهم التحدث مع أشخاص يعتبرون أهدافا أجنبية تم رصدها بالفعل. وقد عكس تمرير القانون الحالة السياسية في الولايات المتحدة التي تعطي أولوية للأمن القومي على حساب المطالبة بالحقوق الأساسية والحريات.

حقوق الأفراد في مقابل الأمن القومي

رفض الفريق المدافع عن الحريات والحقوق الأساسية بشدة هذا القرار لاختراقه خصوصية المواطنين الأميركيين، كما اعترض على عدم وجود ضمانات كافية لإلزام الأجهزة الأمنية عدم تتبع أو البحث عن معلومات تخص أشخاصا أميركيين، خصوصا بعد التقارير المتداولة في صحيفة "نيويورك تايمز" في شهر مايو/أيار من العام المنصرم، عن تورط جهاز التحقيقات الفيديرالي (FBI) في التجسس والبحث عن معلومات بدون إذن قضائي، على مئات الأميركيين الذي ثبت انخراطهم في تظاهرات عمت الولايات المتحدة بعد مقتل الشاب ذي البشرة السمراء، جورج فلويد، وأيضا الأشخاص المشاركين في اقتحام مبنى الكونغرس في يناير/كانون الثاني من عام 2021، لاعتراضهم على نتيجة الانتخابات الرئاسية.

 يمكن هذا القانون أجهزة الاستخبارات الأميركية، كهيئة الأمن القومي "NSA" و"FBI" و"CIA" من جمع معلومات عن مواطنين غير أميركيين من دون إذن قضائي، والتجسس على البريد الالكتروني والرسائل النصية

أما الفريق المدافع عن تمرير هذا القانون، فيؤمن بأهميته الكبيرة لتمكين السلطات من حماية الأمن القومي الأميركي، خصوصا ضد الهجمات السيبرانية العابرة للحدود، وضد جرائم المخدرات والاتجار بالبشر. ويقول الفريق نفسه إن القانون مخصص فقط للتجسس على مواطنين غير أميركيين مقيمين خارج البلاد ويشكلون خطرا على الأمن القومي الأميركي، وإن هناك ضوابط محددة تمكن أجهزة الاستخبارات من القيام بذلك من قبل محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية (FISC). ووفقا للفريق المدافع عن القانون، تشهد البيئة الأمنية العالمية تطورا سريعا في التواصل التكنولوجي بين الأفراد يتطلب تحركا سريعا من الحكومة الاميركية لرصد الأخطار والإنذار بوجودها على وجه السرعة.

البند 702 

طرح البند 702 من القانون في عام 2008 كتعديل لقانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية الذي جرى تمريره عام 1978. وجاء هذا التعديل نتيجة لرغبة الولايات المتحدة في تحديد المجموعات الإرهابية وكيفية استخدامها للتكنولوجيا بهدف التواصل في ما بينها، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية داخل الولايات المتحدة.

مكن هذا القانون أجهزة الاستخبارات الأميركية، كهيئة الأمن القومي (NSA) وجهاز التحقيقات الفيديرالي (FBI)، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) من جمع معلومات عن مواطنين غير أميركيين من دون إذن قضائي. حيث ألزم مزودي الخدمات التكنولوجية، كشركة "غوغل" و"إيه. تي. أند تي." (AT&T) تزويد الحكومة الأميركية رسائل البريد الالكتروني والرسائل النصية للأشخاص المستهدفين، كما ألزمت الشركات الاستماع إلى المكالمات الهاتفية لهؤلاء الأشخاص ومشاركتها مع الحكومة الأميركية إذا طلبت ذلك.

Shutterstock
عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي

الهدف الرئيس من هذا البند في قانون الاستخبارات الأجنبية، هو تقليل الفجوة في المعلومات الاستخباراتية نتيجة التطور التكنولوجي السريع واستخدام الأهداف التي تمثل خطرا على الأمن القومي الأميركي أحدث وسائل الاتصالات للتعاون في ما بينها. وأوضح كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيديرالي، في جلسة استماع في مجلس النواب الأميركي في أبريل/نيسان الماضي، الأسباب الكثيرة والمهمة لهذا البند بالنسبة للأمن القومي الأميركي، لجهة تحديد الأخطار الناجمة من إيران وروسيا والصين وسرعة الإنذار المبكر بها والحفاظ على المصالح الأميركية، منها البنية التحتية للأمن السيبراني، خصوصا أنظمة الحواسيب في القطاع الطبي.

إقرأ أيضا: الهجمات السيبرانية المتبادلة على إيقاع حرب غزة

أراد راي في هذه الجلسة إيصال رسائل تحذير بأن الأمن القومي الأميركي سيكون في خطر في حال عدم التصويت على تمديده. على الرغم من الأهمية الأمنية التي يمثلها هذا القانون من سرعة رصد الأخطار وسرعة الإنذار بها، يمثل هذا البند من قانون الاستخبارات الأجنبية تهديدا للحريات والحقوق الأساسية للأميركيين المنصوص عليها في الدستور

الأسباب كثيرة ومهمة لهذا البند بالنسبة للأمن القومي الأميركي، لجهة تحديد الأخطار الناجمة عن إيران وروسيا والصين وسرعة الإنذار المبكر بها والحفاظ على المصالح الأميركية، ومنها البنية التحتية للأمن السيبراني

كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيديرالي (FBI)

طرح تعديل هذا البند من القانون المثير للجدال من خلال التصويت عليه بـ212 صوتا موافقا بالتساوي مع 212 صوتا معترضا. ووفقا لقواعد مجلس النواب، يعني التساوي في عدد الأصوات أن القانون لم تتم الموافقة عليه. كانت مسودة التعديل تطالب بوجود إذن قضائي للموافقة على التجسس ليتماشى مع المبادئ الدستورية.

اختراق للخصوصية

كذلك، طالبت مسودة التعديل التي تم رفضها، بمراقبة دورية لأجهزة الاستخبارات الأميركية للتأكد من امتثالها للقانون وفرض قيود على الشركات التي لها الحق في الوصول الى قواعد البيانات التي جمعت. حيث دافع الفريق الرافض لمسودة التعديل بأن هذه الإجراءات من شأنها تعطيل أعمال المراقبة والتجسس نظرا للوقت الذي يستغرقه الحصول على إذن قضائي.

EPA

على الرغم من أن هذا البند من القانون موجه خصيصا لأشخاص غير أميركيين خارج الولايات المتحدة، إلا أنه مكن الأجهزة الأمنية من اختراق خصوصية المواطنين الأميركيين وجمع معلوماتهم الشخصية. يحدث ذلك عند تواصل الأشخاص المستهدفين والذين يتم التجسس عليهم مع أشخاص أميركيين، فتحصل الأجهزة الأمنية على معلومات من طريق الخطأ عن كل أطراف المحادثات أو المراسلات، بمن فيهم مواطنون أميركيون.

أيضا، يمكن لأجهزة الأمن البحث في قواعد البيانات التي تم تحديدها بموجب البند 702 بكلمات مفتاحية عن أشخاص أميركيين. يحدث ذلك عندما تستخدم الأجهزة الأمنية كلمات كأسماء أميركية، أرقام جوازات سفر أميركية، أرقام هواتف، وأيضا أرقام الضمان الاجتماعي.

كشف القرار عن قيام مكتب التحقيقات الفيديرالي بالبحث غير القانوني ولنحو 278 ألف مرة، عن أشخاص أميركيين في قواعد البيانات. وفقا للوثيقة التي تناولتها صحف أميركية مختلفة

الكشف المتكرر عن انتهاكات للمعايير المتعلقة بالبحث عن معلومات تتعلق بأميركيين، زاد حالة الاعتراض على هذا البند من القانون. حيث تمت إزالة السرية عن قرار من محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية (FISC) صدر في أبريل/نيسان 2022 ولم يتم الكشف عنه إلا في مارس/آذار 2023. كما كشف القرار عن قيام مكتب التحقيقات الفيديرالي بالبحث غير القانوني ولنحو 278 ألف مرة، عن أشخاص أميركيين في قواعد البيانات. وفقا للوثيقة التي تناولتها صحف أميركية مختلفة، قام مكتب التحقيقات الفيديرالي في يونيو/حزيران 2020، بالبحث عن 133 شخصا اعتقلوا خلال الاحتجاجات العنيفة بعد مقتل الشاب الأسود جورج فلويد على يد الشرطة في مدينة مينابوليس.

وثيقة استخباراتية تؤكد انكشاف الأميركيين

كان الغرض من البحث التأكد من وجود أي معلومات تتعلق بالإرهاب عن الأشخاص المعتقلين. أيضا، جاء في الوثيقة عن القيام بالبحث عن معلومات تخص أشخاصا أميركيين لهم صلة بأحداث الشغب واقتحام مبنى الكونغرس لاعتراضهم على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية في السادس من يناير/كانون الثاني عام 2021.

من جانبه، قام مكتب التحقيقات الفيديرالي (FBI)  بإعادة هيكلة نظامه الخاص بتنفيذ البند 702 للتأكد من امتثال العاملين للقانون والدستور الأميركيين. حيث نشر وثيقة من أربع صفحات عام 2023 عن فرض قيود صارمة داخلية على استعلامات مكتب التحقيقات الفيديرالي في شأن معلومات عن أميركيين في سجل الاتصالات الذي تم جمعه بواسطة البند 702 بدون تصريح. وقد أفضى ذلك إلى تقليل عدد الاستعلامات غير القانونية، ولكن لم يتم القضاء عليها تماما.

برنامج "PRSIM"

البند 702 من قانون الاستخبارات الأجنبية في الولايات المتحدة ليس الوحيد في جمع معلومات استخباراتية والتجسس على أشخاص، سواء أكانوا أجانب أو أميركيي الجنسية. أعادت المناقشات الحادة داخل دوائر صنع القرار ووسائل الإعلام حول تمديد هذا البند من القانون، إلى الأذهان برنامج "PRSIM" الذي كشف عنه إدوارد سنودن في عام 2013. كان سنودن يعمل لدى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، وهو الذي سرب معلومات عن كيفية قيام الحكومة الأميركية بجمع بيانات ومعلومات عن ملايين المواطنين الأميركيين تحت بند حماية الأمن القومي. من المفترض أن يكون برنامج "PRSIM" أعطى الحكومة الفيديرالية حق الوصول مباشرة إلى الخوادم العملاقة لشركات مثل "غوغل"، و"أبل" و"فايسبوك" و"مايكروسوفت". أيضا، كشف سنودن عن تعاون شركة اتصالات "فيريزون" (Verizon) مع الحكومة الأميركية ونشرها معلومات عن ملايين المكالمات الهاتفية لعملائها، تضمنت بيانات حول المكالمات الهاتفية مثل أرقام الهواتف ومدة المكالمة وموقع المتحدثين وليس تسجيل المكالمات نفسها.

أحدث هذا التسريب صدمة كبيرة في المجتمع الأميركي، كون هذه الأعمال التجسسية على مواطنين أميركيين مخالفة للتعديل الرابع من الدستور الأميركي الذي ينص على "حق الشعب في أمان أشخاصهم ومنازلهم وأوراقهم وممتلكاتهم"

أحدث هذا التسريب صدمة كبيرة في المجتمع الأميركي، كون هذه الأعمال التجسسية على مواطنين أميركيين مخالفة للتعديل الرابع من الدستور الأميركي الذي ينص على "حق الشعب في أمان أشخاصهم ومنازلهم وأوراقهم وممتلكاتهم، ضد التفتيشات والمصادرات غير المنطقية، لا يجوز انتهاكه، ولن تصدر أوامر تفتيش، إلا بناءً على سبب وجيه، مدعوم بقسم أو تأكيد، ويصف بالتحديد المكان الذي سيتم فيه التفتيش، والأشخاص أو الأشياء التي ستتم مصادرتها".

وفي عام 2020، تم الحكم على برنامج التجسس "PRSIM" بعدم قانونيته نظرا لاختراقه الخصوصية والتجسس بدون أذون قضائية مبنية على أسباب مقنعة ووجيهة.  

الأمن القومي... مظلة التبرير

في هذا العالم، أصبحت المعلومات والبيانات سلاح خطير تحاول كل الحكومات الحصول على أكبر قدر منها لحماية أمنها القومي من أخطار الإرهاب التقليدي أو الإرهاب التكنولوجي. إلا أن الحصول على هذه المعلومات يجب أن يتم بالطرق القانونية التي تتماشى مع الدساتير التي تنادي بحقوق الإنسان في الخصوصية، وعدم انتهاك هذه الخصوصية إلا بوجود إذن قضائي مبني على معلومات دقيقة بأن الشخص المستهدف يمثل خطرا على الأمن القومي. ما يحدث فعليا من جمع معلومات مهمة عن المستخدمين من قبل الشركات التكنولوجية ومشاركتها مع الحكومة الأميركية، هو أمر غير أخلاقي وغير قانوني، ويبرهن أن حماية الأمن القومي الأميركي هو مبرر واسع وفضفاض يستخدم لتمرير قوانين كهذه من شأنها تمكين أجهزة الأمن من التجسس على المواطنين من دون قيود واضحة. بالطبع، ما يعلمه العامة هو شيء لا يذكر عما يجري بالفعل خلف الأبواب المغلقة حيث أصبح الحق في الخصوصية شيئا صعب المنال.

font change

مقالات ذات صلة