غريب أمر الفرنسيين ومدهش في مجال التسميات الفلسفيّة خصوصا وفلاسفتها الذين يتجاوزون الألوف.
أَمِثْل هذه الأعداد حقيقيّة، أَمْ وهميّة؟
كنتُ أقرأ العديد من الصفحات الثقافية في مجلاتهم أو في كُتبهم، أو في جامعاتهم، ومن خلال البحوث والمضامين التي يدرسونها، في شعراء الفكر أو الفلسفة أو الأدب أو النقد، سواء كانوا متخصّصين بالفلاسفة أو باحثين يستخدمون الفلسفة... كلّ هذا جعلني أتساءل هل يصبح الفرنسيون أكثر حكمة لأنهم تعلّموا من أساتذتهم في تلك المجالات أو المعاهد المدرسيّة؟ أتراهم تعلّموا أن يزداد استعدادهم في مواجهة فخاخ الفكرة أو الأفكار الجاهزة في أمور هذا النوع من التفكير؟
قد يصبح في أفضل الأحوال أن الفلسفة تعتني بوسائطها التاريخيّة والجديدة، فيصبحون أكثر استعدادا لتأويل المفاهيم والقواعد والنصوص، ولذلك يجب أن يكون المعلّم الجامعي يُجيد مهنته بكل تواضع، ويقدّم براهينه الفكريّة على ذلك، ويعمل على إدخال الطلاب في معمعة أمور الفلسفة من عصر الإغريق حتى اليوم، فتخال المؤسسات التعليمية مرتاحة ومنتفعة بمعلّم الفلسفة أو عِلْم النفس، والمسألة تنقلب بأن مدرّس هذه المادة أو محلّلها بمجرد أن يدرِّس هذه المادة أو ينشر كتابا أو اثنين يكرّسه الناشرون ووسائل الإعلام فيلسوفا، ويقابله التميّز، والإطراء...
لكن الحاجة تكمن أن هناك سوقا بعِلم النفس، كما أن هناك سوقا للفلسفة، لا تهمّ الأسماء ولا الشوائب ولا يهمّ أن يتعرّض كبار الفلاسفة للسخرية وقلّة الاعتبار، ويبرز من يدّعون أنفسهم فلاسفة أو يعنيهم الإعلام ودور النشر بهذه التسمية، حتى تحتل "أفكارهم" (وهي ليست أفكارهم) عناوين المؤلفات والمقالات والتحاليل، يطوّبونهم فلاسفة ليكونوا، للمؤسسات الخاضعة تحت الطلب: فلاسفة بلا فلسفة، أو فلسفة بلا فلاسفة، فيكفي أن يكتب هذا المعلّم أو هذا الكاتب، مقالة "فكرية"، أو تحليلا فلسفيا، أو محاضرة متقنة، لكي يوسّم فيلسوفا.
باتت صفة فيلسوف تحتاج إلى تحديد واضح، في الوقت التي أثارت فيه العديد من التساؤلات
صحيح أن في الجامعات الفرنسية، أساتذة مهمّين، قدّموا أطروحات مميّزة وطويلة أو اتخذوا منحى جديدا في التأويل والتفسير في الفلسفة أو تلقّوا تكريمات على جهودهم وثقافتهم، لكن الصحيح أن هؤلاء ليسوا فلاسفة أو بحّاثة كبارا، أو مولجين بطُرق جديدة من عمال الفلاسفة القدامى أو المحدثين.
فدور النشر أولا عندما تزيّن كتابا لهؤلاء، تضيف على جسمه كلمة فيلسوف، لأن ذلك بحسب قوانين السوق إضافة للترويج. فالناس ما زالت تدهش بسحر هذه الكلمة، أو وسائل الإعلام التي تلعب لعبة السوق ذاتها، أي تلقي التسمية ذاتها على المتخصّصين، يعادلون بها الفلاسفة الكبار: هايدغر، سارتر، ألبير كامو، سقراط، ابن خلدون... فلا كل من يكتب دراسة أو مقالة عن هؤلاء وسواهم، يصبح فيلسوفا، والمسألة تتطابق على الآداب والفنون، فلا معلّم الآداب، أو دارسها، أو واضع أبحاث عنها، سواء ضمن الطُرق البنيوية أو التفكيكية أو اللغوية، مهما علا شأنه، يصبح أديبا أو شاعرا أو رساما أو مخرجا سينمائيا. فدارس الشيء ليس مؤلفه، ولا تتعدّى كنيته، الأستاذ أو الناقد أو المفسّر أو المحلل. فالإبداع شيء وتناوله نقدا أو درسا شيء آخر.
الغريب أن فرنسا تختلف عن سواها من البلدان في تنصيب الكتَبَة، والدكاترة، فلاسفة، فلا هي موجودة عند الأميركيين، ولا عند الإيطاليين، وخصوصا الألمان. وألمانيا قدّمت عددا لا بأس به من الفلاسفة كأنها باتت الوارث الشرعي للفلسفة الإغريقية.
صحيح أن عديدين حاولوا في فرنسا وسواها إيجاد قاعدة مشتركة لمفهوم الفلسفة في بعض المراحل، إلا أن هذه المحاولات قد ابتعدت عن أهدافها منذ مدة طويلة. بل نجد أن الاختصاصّيين تخلوا ضمن هذه الفوضى عن محاولة تفاهم علمي حول معنى الفلسفة، فباتت تحتاج اليوم إلى تحديد واضح، في الوقت التي أثارت فيه هذه الكلمة العديد من التساؤلات، كأنها باتت سرّا مخفيا تغطيه تراكمات من نصوص الفلاسفة المكرّسين. وبات كثيرون يتساءلون هنا: هل سارتر أم كامو أو ميشال أونفري أو الفلاسفة الجُدد في فرنسا، فلاسفة أَم مجرد مفكرين يقترحون بأعمالهم ما يوحي بالفلسفة؟ فسارتر متأثرا بهايدغر وهوسرل (الظاهراتية)، تحوّل إلى الشيوعية، فهل خان فلسفته الوجوديّة وانتمى إلى الأيديولوجيا الشيوعية؟ وهناك من يتساءل: هل ماركس نفسه فيلسوف أَم مفكر اقتصادي؟ وميشال أونفري الذي نشر كتابا يهاجم به سارتر أو يمتدح ألبير كامو بلغة أقلّ ما يقال إنها منطقية واصطلاحية، وحتى كامو هل هو واضع النظرية العبثية، هل هو فيلسوف أم جامع أفكار، أم كاتب روائي؟ وكذلك الفلاسفة الجُدد فأفكارهم "اليمينية المسطّحة كانت رمز هذا الالتباس، إذ لم يبْقَ واحد منهم منتميا حتى إلى المنظور الفكري.
وهل يمكن مقارنة هؤلاء ممّن كرّسوا فلاسفة عند الباحثين، بأفلاطون أو أفلوطين أو أدورنو أو بول ريكور؟ أم ضمن الاصطلاح المتعدّد هل يمكن اعتبار أن أبا العلاء فيلسوف، أم حتى الشاعر الجاهلي زهير الذي تمرّد على كل الحروب الجاهلية بين القبائل واقترح السلم، ونبذ الانقسامات العشائريّة ومفاهيمها فيلسوفا؟ فمعلقته فيها كل المعاني والأفكار الجديدة في تلك المرحلة المبكرة. بل يصل الأمر إلى جبران في كتابة "النبي": هل هو شاعر فيلسوف، وكذلك نيتشه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء.
هل يحلّ الاختصاصيون هذه المسألة ويجدون اسما جديرا بالفلسفة لكي يحسموا هذه المعضلة أَم يبقى الحبل على غاربه؟
بل هل يمكن اعتبار الشاعر واللغوي والصوفي فيلسوفا، نذكر أبا حيان المثقف الموسوعي، الذي وضع كتاب "المقابسات"، الذي يتضمن بشكل رئيسي المسائل الوجودية والحوار مع المنطق واللغة، الذي اشتدت حدّته في تلك المرحلة من العصر العباسي الرابع؟
لكن الأهم من هذا أنه كان يجمع الأدباء والمفكرين في حلقات ويناقشون مختلف القضايا الدينية والأدبيّة، ويسميهم كلهم فلاسفة (كما حال الفرنسيين) ويُعدّ كتابة "المقابسات" الذي يعتبر خلاصة الأفكار والفلسفة، مختزل تلك المرحلة الفريدة بين الشعوب.
هنا نعود إلى فرنسا بالذات، في جعلها كل أستاذ في الجامعة، وكل من يكتب مقالة، أو بحثا أو كتابا، فيلسوفا. وعلى هذا الأساس، يمكن أن يكون في فرنسا اليوم مئات أو ألوف الفلاسفة، وبذلك يتجاوز هؤلاء مجموع الفلاسفة من الإغريق، إلى الإيطاليين، إلى العرب، جميعا ومن كل العصور.
فهل يحلّ الاختصاصيون هذه المسألة ويجدون اسما جديرا بالفلسفة لكي يحسموا هذه المعضلة أَم يبقى الحبل على غاربه، ويُصبح كلّ صحافي أو معلم جامعيّ فيلسوفا؟