التحول الأوروبي ورهان ماكرون المحفوف بالمخاطر

خلاصات الانتخابات... الصعود الشعبوي والخلل الفرنسي

أ ف ب
أ ف ب
زعيم حزب "فرنسا الأبية" جون – لوك ميلونشون ورئيسة الكتلة البرلمانية لحزب "التجمع الوطني" في صورتين من الأرشيف

التحول الأوروبي ورهان ماكرون المحفوف بالمخاطر

اهتزت القارة العجوز ليل التاسع من يونيو/حزيران، على وقع نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي أسفرت عن خريطة جديدة غير تقليدية للمشهد السياسي وما تحمله من تداعيات ناتجة عن صعود أقصى اليمين، خصوصا في البلدان الستة المؤسسة للعمل الأوروبي المشترك (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا ولوكسمبورغ).

وقد شهدت أوروبا الغربية صعودا مذهلا لليمين المتطرف، بينما تراجع هذا التيار في أوروبا الوسطى الشيوعية سابقا، والأرجح أن "الخوف من النفوذ الروسي" كان له أثره على تعبئة المؤيدين لأوروبا في هذا النطاق.

لا تتمثل المفارقة فقط في مشهد منقسم جغرافيا وسياسيا، بل بسبب التزامن في التوقيت بين الصعود الشعبوي والقومي الوطني مع احتفالات أوروبا في الذكرى الثمانين لإنزال النورماندي وبداية تحريرها من النازية.

وبرز أهم مظاهر "التصدع الأوروبي" في فرنسا التي تغير فيها ميزان القوى السياسي ودفع ذلك رئيسها إيمانويل ماكرون لاتخاذ قرار حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة.

في المحصلة، يخرج الاتحاد الأوروبي ضعيفا من الانتخابات تلك في هذا المنعطف الدقيق من التنافس بين التكتلات الدولية. وفي لحظة الاحتياج إلى أوروبا متينة وفاعلة، يفقد "الاتحاد" بعض قدرة جذبه وتأثيره نتيجة تزايد رصيد المشككين في الفكرة الأوروبية. لهذا ستكون العواقب وخيمة مستقبلا إذا لم يتم استخلاص الدروس من إنذار لا لبس فيه.

دلالات الصعود الشعبوي وانعكاساته

تمخض الاستحقاق الانتخابي عن برلمان أوروبي راسخ بقوة في اليمين، مع وجود أكبر لأقصى اليمين مما كان عليه في الهيئة التشريعية السابقة، من دون وصوله إلى الحجم الذي خشي منه البعض، مع الإشارة إلى انقسامه بين مجموعتين.

يخرج الاتحاد الأوروبي ضعيفا من الانتخابات في منعطف دقيق من التنافس بين التكتلات الدولية

وفق النتائج النهائية، يبقى حزب "الشعب الأوروبي"، الذي يجمع بين المسؤولين المنتخبين من المحافظين ويمين الوسط، المجموعة الأقوى، في حين يبقى الديمقراطيون الاشتراكيون (يسار الوسط) في الموقع الثاني، والوسط الليبرالي في الموقع الثالث. وفي الإجمال، تسجل الأحزاب الخضراء والليبرالية انحدارا واضحا، لصالح اليمين المتطرف.
حققت أحزاب أقصى اليمين الشعبوي مكاسب مهمة لها في انتخابات البرلمان الأوروبي، في عدد من أكبر دول "الاتحاد" ولا سيما في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا- فيما تقدمت أحزاب يسار الوسط في شمال القارة (السويد والدنمارك)، كما في رومانيا ومالطة.

رويترز
زعيم "الحزب الشيوعي الفرنسي" فابيان روسيل أثناء مؤتمر صحافي لـ"الجبهة الشعبية الجديدة" التي تضم قوى اليسار الفرنسي في 14 يونيو

في التفاصيل، تعرضت أكثرية الرئيس إيمانويل ماكرون لهزيمة في فرنسا مع حصول حزب "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبان، وغوردن بارديلا (أقصى اليمين) على 32 في المئة من مجموع الأصوات، أي أكثر من ضعف ما توقفت عنده حصة مرشحي "النهضة" (حزب ماكرون).
من جهته، تزعزع الائتلاف الحاكم في ألمانيا، بقيادة المستشار أولاف شولتس، الذي حل حزبه "الاشتراكي الديمقراطي" ثالثا بعد حزب "البديل من أجل ألمانيا" (أقصى اليمين) الذي حل ثانيا، وأحرز تقدما ملموسا رغم الاتهامات حول ارتباطات بعض قادته مع روسيا والصين. وأنقذ وضع الائتلاف "الحزب الديمقراطي المسيحي" الذي حافظ على المركز الأول. وفي إيطاليا، حيث تقود جورجيا ميلوني من حزب "إخوان إيطاليا" (أقصى اليمين، ووريث الحزب الفاشستي) حكومة ائتلافية، نجح حزبها في المحافظة على دعم ثلث الإيطاليين تقريبا، متقدما بشكل مريح على منافسيه من الوسط ويسار الوسط. أما في النمسا، فقد حصد حزب "الحرية" (أقصى اليمين) المرتبة الأولى. وفي بلجيكا  التي جرت فيها أيضا الانتخابات البرلمانية، أزاح "التحالف القومي الفلمنكي" رئيس الوزراء الليبرالي، ألكسندر دي كرو.

وأخيرا من المهم الإشارة إلى أن مالطة وسلوفينيا كانا البلدين الوحيدين اللذين لم يرسلا ممثلين لليمين المتطرف إلى برلمان بروكسل.
وكان من اللافت تباهي رئيس الوزراء البولندي، دونالد تاسك بفوزه الباهر غامزا من قناة المحرك الفرنسي- الألماني، ومشيرا إلى تحول مقلق بقوله: "في ألمانيا الوضع ليس جيدا، وفي فرنسا مأساوي. وفي بولندا انتصرت الديمقراطية. لقد أظهرنا أننا منارة الأمل في أوروبا، وأننا زعماء الاتحاد الأوروبي!".
بالطبع، رغم الاطمئنان الذي أبدته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين بالقياس لمحافظة  الأحزاب المؤيدة للفكرة الأوروبية على الأكثرية، لا يمكن إنكار  الإنذار الجدي والتحذير من "تطبيع" وضع أقصى اليمين (يتم الإقرار بأنه حزب مؤهل للحكم والتأقلم كما حال ميلوني في إيطاليا) وحيازته أيضا على تصويت الشباب مع ما ينطوي عليه ذلك من هاجس تكرار سيناريو ثلاثينات القرن الماضي بحلة جديدة مع "صعود الفاشية والقومية"، و"عودة دورة الحروب" حسب المؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش.
من أجل تفسير هذا التحول، يمكن التركيز على تراجع صورة "الاتحاد" الذي كان بالنسبة للكثيرين في البداية مرادفا للازدهار والنمو، وأصبح  الآن  المرادف للتقشف والبطالة، ويمنح ذلك الذرائع لأصحاب الخطاب الانعزالي والقومي.
وتتعدد أسباب الغضب والقطيعة، ومن بين أبرزها نجد موضوعات الهجرة واللجوء (الخوف على الهوية والسيادة)، والقدرة الشرائية والأمن. 
ويدلل ترسخ التشكيك في الفكرة الأوروبية عند قطاع من الأوروبيين على العطل الذي أصاب المشروع الأوروبي وأوقف ديناميته، واقتصاره على القطب الاقتصادي من دون أبعاد جيوسياسية واستراتيجية كافية. بالإضافة إلى انعكاسات العولمة غير الإنسانية، وانتشار مظاهر انعدام المساواة وأزمة الطبقات الشعبية، التي تفاقمت مع التضخم بعد أزمة كورونا وحرب أوكرانيا. وترهل الأحزاب التقليدية وموجة صعود الهويات والأصوليات الدينية وغالبية هذه العوامل أدت للصعود الراديكالي الذي يعكس القلق حول المستقبل مع التساؤل عن وظيفة  "الاتحاد" في المقام الاول.
ستبرز الانعكاسات تباعا داخل آلية القرار في الاتحاد الأوروبي وفاعلية ماكينة بروكسل البيرقراطية وأفق تطوير "الاتحاد" على أكثر من صعيد، ويمكن لهذا الإنذار أن يكون مفيدا إذا تم استخلاص الدروس من التجارب السابقة. وسيكون صدى الانعكاسات أكبر في البلدان المؤثرة وتكتسب الحالة الفرنسية أفضل مثال على ذلك. 

المنعطف الفرنسي على محك التحول الأوروبي 

لا تعد نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة في فرنسا زلزالا مفاجئا في المشهد السياسي الفرنسي، إذ سبقه في عام 2002 الزلزال الأول عند وصول مؤسس ورئيس حزب "الجبهة الوطنية" جان- ماري لوبان إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية على حساب ليونيل جوسبان مرشح "الحزب الاشتراكي"، وحينها أتاح تكتل كل القوى الأخرى (التي شكلت "الحاجز الجمهوري") اكتساح جاك شيراك الدور الثاني. لذلك فإن صعود حزب "التجمع الوطني" وريث "الجبهة الوطنية" يعتبر تتمة لمسارٍ تجذر مع الوقت وتعزز بسبب فشل معالجات الطبقة السياسية خصوصا خلال الحقبة الماكرونية منذ 2017، إذ إنه بالرغم من تسجيل سيد الإليزيه الحالي انتصاراته ضد زعيمة أقصى اليمين في معركتين رئاسيتين، لم يحقق ماكرون إنجازات ولم يغير ممارسات تسمح بالحد من صعود التطرف بكل أشكاله. 

من أجل تفسير هذا التحول، يمكن التركيز على تراجع صورة "الاتحاد" الذي كان بالنسبة للكثيرين في البداية مرادفا للازدهار والنمو، وأصبح الآن المرادف للتقشف والبطالة، ويمنح ذلك الذرائع لأصحاب الخطاب الانعزالي والقومي

هكذا إزاء المشهد السياسي المرتسم بعد الانتخابات الأوروبية، لجأ الرئيس الفرنسي إلى ما يشبه السلاح النووي في دستور الجمهورية الخامسة وهو "حل الجمعية الوطنية" والاحتكام إلى الرأي العام، وقد أراد من وراء ذلك وضع الناخبين أمام الأمر الواقع من أجل إعادة تعويم الوسط الموالي له على حساب كتلتين يشكل "أقصى اليمين" و"أقصى اليسار" نواتهما. بيد أن الرياح على ما يبدو لن تسير وفق ما يشتهيه إيمانويل ماكرون لأن الصدمة التي أحدثها قرار الحل سببت تشتتا عند اليمين التقليدي وإعادة تجميع لليسار الواسع لن تكون في مصلحة تصوراته. 

وبدا رهان ماكرون محفوفا بالمخاطر حسبما يدل أول استطلاعات الرأي قبل الدور الأول للانتخابات التشريعية في 30 يونيو (الدور الثاني في 7 يوليو/تموز) على فرز حاد بين ثلاث كتل يتصدرها  "التجمع الوطني" (أقصى اليمين) الذي يمكن ان ينال بين 29.5 في المئة و 32 في المئة حسب آخر الاستطلاعات للدور الأول. ويليه تكتل اليسار الجديد "الجبهة الشعبية" بين 26 في المئة و 28 في المئة ثم يأتي التكتل المؤيد لماكرون "معا من أجل الجمهورية" بين 18 و19 في المئة وبعده اليمين التقليدي "الجمهوريون" بين 8 و10 في المئة. ونظرا لقواعد الاقتراع الأكثري من دورين، أصبح التصويت للمعسكر الرئاسي بعيدا عن التصويت المفيد وسيكون التنافس الحاد بين معسكري اليسار (الذي يشمل "الخضر") وأقصى اليمين. لذا يصعب التكهن بالنتيجة النهائية، حيث سيتوقف ذلك على نسبة التصويت ومعدل الالتزام بين أطراف التحالف وأيضا تدوير الأصوات في الجولة الثانية. 
أيا يكن السيناريو، سيجد رئيس الجمهورية نفسه في موقف حرج، إلى حد أن أحد منتقديه أطلق عليه لقب "مهندس الفوضى". وحسب العرف في الجمهورية الخامسة يفترض أن يكلف ماكرون  رئيس اللائحة الفائزة أو من ينتدبه بتشكيل الحكومة، وإذا كان ينتمي لأقصى اليمين فإنه سيكون أول رئيس جمهورية يفتح أبواب قصر ماتينيون (مقر رئاسة الوزراء) أمام اليمين المتطرف مع تداعيات محتملة على التماسك الفرنسي وعلى صلات فرنسا الخارجية. وإذا تمكن التحالف اليساري الجديد من تشكيل أكثرية مع بعض الوسط، فسيعني ذلك عمليا نهاية الماكرونية قبل نهاية عهد ماكرون في 2027.

رويترز
رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب "التجمع الوطني" مارين لوبن تتصور مع مؤيدين أثناء الحملة الانتخابية في هنين- بومون شمال فرنسا في 14 يونيو

لم يحسب رئيس الجمهورية أن رهانه على جذب اليمين وبعض اليسار كما حصل في 2017 و2022 لن يتكرر تلقائيا، إذ انفجر حزب "الجمهوريين" اليميني بين شخصيات أرادت التحالف مع أقصى اليمين وغالبية ترغب في الحفاظ على الخط التاريخي المستقل. وكانت المفاجأة الكبرى في نجاح قوى اليسار بكل تشكيلاته والخضر في الانضواء تحت اسم "الجبهة الشعبية الجديدة" في استذكار  لـ"الجبهة الشعبية" التي نشأت في 1936 وذلك في أعقاب أعمال الشغب اليمينية المتطرفة في 6 فبراير/شباط 1934، وحينها تحت ضغط قاعدة الناشطين، تجمع اليسار وأنشأ "الجبهة الشعبية"، التي فازت في الانتخابات العامة عام 1936. وهكذا يعيد التاريخ نفسه إذ يبقى "النضال ضد اليمين المتطرف بمثابة أسمنت اليسار" حسب مصدر من التحالف الجديد.

أيا يكن السيناريو سيجد رئيس الجمهورية نفسه في موقف حرج، إلى حد أن أحد منتقديه أطلق عليه لقب "مهندس الفوضى"

تعيش فرنسا منعطفا حادا على محك نتائج الانتخابات الأوروبية التي كشفت خللا بنيويا على صعيد المؤسسات الفرنسية. وهذا يتقاطع مع الإنذار على مستوى "الاتحاد" بشأن الصعود الشعبوي الذي لا يمكن الاستخفاف به لجهة  مخاطر  تنامي النزعة القومية في أوروبا، ولأنه  سيعقد  أمور التشريع وعمليات صنع القرار واتخاذه في بروكسل، ويمكن أن يهز على مدى متوسط منظومة قيم "الاتحاد" ويزيد من تهميش موقعه العالمي في ظل مخاض إعادة تشكيل النظام الدولي.

font change

مقالات ذات صلة