لماذا تصلح الكرة، جميع أشكال الكرات، وليس كرة القدم وحدها؟ يجيب المتسرعون الناقمون على ما آلت إليه لعبة الكرة في عالمنا المعاصر: إنها تصلح لِلاَشَيء! هذا إن لم ينهالوا عليها بشتى أنواع الانتقاد، وينظرون إليها على أنها أفيون جديد.
في كتابه الطريف "أساتذتي في الرياضة، علموني أن أفكر"، يدعونا الفيلسوف ميشال سير إلى الردّ على هؤلاء، مبيّنا دور الكرة في كل لعبة، وكذا أهميتها في خلق نوع من التعاقد الاجتماعي بين أعضاء الفريق من جهة، وبينهم وبين المشاهدين من جهة أخرى.
في ما يتعلق بالسؤال لماذا تصلح الكرة؟ يجيب الفيلسوف الفرنسي: "إنها تصلح رغم ذلك لشيء عجيب: تصلح لأن تجعل جسدي يتحرك. يلتقط الذي تنقصه المهارة الكرة، إنه يلعب بالكرة. في حين أن الكرة هي التي تلعب بجسد الأكثر مهارة. نتحدث في الفلسفة عن الثورة الكوبيرنيكية: أين هو مركز الكون؟ في حالة الرياضي الماهر مهارة حقيقية يكون المركز هو الكرة، والجسد هو الذي يتكيف مع الكرة، يتكيف جسد لاعب كرة المضرب مع وضع الكرة. إنها هي التي تتحكم في اللعب، الكرة هي التي تتحكم".
الكرة هي التي تلعب بجسد اللاعب، بل إنها هي التي تربط اللاعبين في ما بينهم فتشكّل فريقا
لكي ندرك أهمية الكرة يذكّرنا سير بـ"الثورة الكوبرنيكية" وما أحدثته في الفكر الفلسفي وخصوصا عند فيلسوف النقد إ. كانط. معروف أن هذه الثورة تشير إلى الانقلاب الذي عرفه تصور العالم والكون ابتداء من القرن السادس عشر عقب ظهور كتاب كوبيرنيكوس سنة 1543، الذي بدل النموذج البطليمي الذي كان يتخذ الأرض مركزا للكون، كي يرسي تصورا مغايرا بمقتضاه ستفقد الأرض مركزيتها، وستنتقل الإنسانية، حسب تعبير ألكسندر كوييري، "من العالم المنغلق إلى الكون اللامتناهي".
على غرار هذا الانتقال الذي خلفته الثورة الكوبيرنيكية في تصور الكون، يدعونا م. سير، لتحليل الفرجة الرياضية على وجه الدقة، إلى اعتماد وجهة نظر الكرة لا تلك التي للاعبين. وإلى أن نعتبر أن "الكرة هي المركز" و"هي التي تتحكم" وأنها "هي الفاعل"، وهي التي تلعب بجسد اللاعب، بل إنها هي التي تربط اللاعبين في ما بينهم فتشكّل فريقا: "إنها شيء ليس بشيء، إنها ما يرسم العلاقات بين أعضاء الفريق المعني بالأمر. أذكر أني خلال إحدى بطولات كأس العالم لكرة القدم، شاهدت فريق الأرجنتين يسجل هدفا بعد خمس وعشرين تمريرة. وكان الأمر يتطلب، خلال إحدى مباريات نصف النهاية للعبة الكرة المستطيلة التي تقابلتْ فيها فرنسا مع أوستراليا، كان يتطلب، على ما أظن، ثلاثين تمريرة من طرف الفرنسيين قبل تسجيل المحاولة. كلما كانت هناك تمريرات بين اللاعبين، نوعا ما، ازداد الفريق لعبا، وكلما لعب الفريق، حقق وجوده، وكلما حقق وجوده أخذنا علما بما يشكل الجمع البشري".
الكرة هي راسمة العلاقات، وهي المؤلف للعقد الاجتماعي. فالفريق لا يكون كذلك حقيقة إلا عندما ترتسم علاقات إلى أقصى الحدود بين أعضائه، والتمريرات هي الخيط الذي يربط أعضاء الفريق في ما بينهم. "كان ديكارت يتساءل: "من أنا؟" في الفرجة الرياضية، سواء للعبة كرة القدم، أو للكرة المستطيلة أو لكرة السلة، يكون السؤال بالأحرى هو: من نحن؟ فجأة، يتّحد المشاهدون في ما بينهم، لأنهم يدركون الحل لمشكل لا يتوصل إلى حله السياسيون أنفسهم. لو سألتم رئيس الدولة الفرنسية عما تكون فرنسا، فلن يعرف كيف سيجيبكم. وفي المقابل سيعرف المشاهدون كيف سيجيبون عن السؤال: ما هو الفريق؟ الفريق، فريق قيد الحركة، إنه هو ما يوجد تحت أنظارهم! هذا هو أصل الجمع البشرية".
نحن إزاء فرجة من غير نصّ مكتوب، وتشخيصات بدون لغة، ونسيج مركّب من العلاقات تحبكه الكرة وحركاتها
الكرة إذن فاعل مؤلف، وهي مؤلفة الرابط الاجتماعي ومبدعة التكتلات. لكنها الكرة المتحركة، الكرة قيد الحركة: نقيم عقدا، ونوقع هذا العقد، بإجراء التمريرة. "وحين تتوقف الكرة عن التبادل والحركة، يصبح كل شيء في أسوأ حال. ينحل العقد الاجتماعي، ويتفكك الفريق –وغالبا ما يخسر الفريق في هذه الحال -وتفقد الكرة الجدوى أو الصلاحية في نظر المشاهدين، ولا يعود اللاعبون يلعبون من أجل شيء" لا تعود الكرة تصلح لأي شيء.
بل إن المفكر الفرنسي يذهب أبعد من ذلك، فيرى في اللعبة الرياضية ظاهرة اجتماعية "كلية" بالمعنى الذي يعطيه عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس لهذه الكلمة، ذلك المعنى الذي يجعل الحدث الرياضي "ظاهرة اجتماعية كلية" مع بعد سياسي، وميتافيزيقي، بل وحتى ديني: "حينما قلت لكم بأن المتفرجين يلاقون ذواتهم في الكرة (بكيفية لا شعورية في غالبية الأحيان) وبأنهم يجيبون عن السؤال: "من نحن؟"، وبأن الفريق يعتبر، والحالة هاته، نموذجا شديد الدقة لما يمكن أن تكون عليه الجماعة (أو أن يكون ميلاد الجماعة)، فذلك يعني أننا نكون أقرب ما يمكن من الاصل الاشتقاقي لكلمة "دين"religion المشتقة من Religare التي تعني في اللغة اللاتينية "ربط" "relier" ما يربط بعضنا ببعض".
في الانشداد إلى الفرجة مباشرة، شيء ما يكون من مستوى اجتماعي، وسياسي، وديني دفعة واحدة، اللعبة الكروية ظاهرة "كلّية". فنحن نكون أمامها إزاء فرجة من غير نصّ مكتوب، وتشخيصات بدون لغة، ونسيج مركّب من العلاقات تحبكه الكرة وحركاتها.