في سياق تحولات الحداثة الفنية ظهرت تقنيات مختلفة أخرجت الرسم من مناطق المعالجات التقليدية التي كانت تعتمد كليّا على الأصباغ والفرشاة. وليس الكولاج (اللصق) إلا واحدة من تلك التقنيات التي لجأ إليها التكعيبيون الأوائل وفي الأخص جورج براك وبابلو بيكاسو في عشرينات القرن العشرين. بعدهما صنع هنري ماتيس لوحات مبهرة من طريق القص واللصق. ولا تزال لوحاته تلك تُعرض في المتاحف باعتبارها قطعا فريدة من نوعها. ولم يقلده في ذلك أحد، فمَن يفعل ذلك إنما يعرض نفسه للسخرية.
تلك تقنيات لا يمكن تكرارها وهي شبيهة بما فعله الإيطالي فونتانا حين أحدث شقوقا في سطح اللوحة الملون واكتفى بذلك. لا أحد شق سطح اللوحة بعد ذلك واسترعى الانتباه. البريطاني دارين ألموند (1971) يعيدنا في معرضه في "وايت كيوب" بلندن الذي يحمل عنوان "خط الحياة"، إلى محاولة الهروب من الاستسلام للفرشاة والأصباغ وابتكار معالجات جديدة تفتح آفاقا جديدة أمام الرسم. تلك معالجات سعى الرسام من خلالها إلى أن يخلق نوعا من الإيهام البصري بحيث يظن المرء أول وهلة أن ما يراه على سطوح لوحاته من أوراق وأغصان هو من صنع الفرشاة، غير أنه بعد تأمل يكتشف أن كل ما ظنه مرسوما إنما هو نتاج عملية قطع قام بها الرسام بحثا عن الأشكال التي تخيلها. كان واضحا أن الرسام قد تأثر بإقامته في اليابان. فرسومه تحمل مزاجا يابانيا، وإن لم تكن تشبه الرسوم اليابانية.
تحويل المرئيات إلى أحلام
تعلم دارين ألموند في اليابان الشيء الكثير عن الرسم. وهو الأمر الذي لا يدخل ضمن وصفات الرسم الكلاسيكي الأوروبي. لليابانيين حيل مختلفة في استدراج المشهد الطبيعي، غير تلك الحيل التي تعلمها الرسامون الأوروبيون بمختلف أساليبهم، الواقعية والانطباعية والتجريدية على حد سواء. ما تعلمه ألموند يدخل في لغة الاختزال التي لن تتمكن الثرثرة اللغوية الأوروبية من القبض عليها. لقد ابتكر الرسام لغة استطاع من خلال مفرداتها أن يستحضر الطبيعة من غير أن يلجأ إلى المعجم الأوروبي الجاهز.