مؤتمر السلام حول أوكرانيا في سويسرا: نتائج متواضعة في واقع عالمي متغير

بعثت تصريحات بوتين رسالة قوية حول رفض بلاده سياسة الاملاءات الغربية

أي بي أيه
أي بي أيه
الزعماء المشاركون في قمة السلام في أوكرانيا أثناء التقاط الصورة التذكارية في ستانستاد السويسرية في 15 يونيو

مؤتمر السلام حول أوكرانيا في سويسرا: نتائج متواضعة في واقع عالمي متغير

كشف البيان الختامي ومواقف الوفود المشاركة في مؤتمر السلام حول أوكرانيا الذي انعقد في سويسرا أن الطريق إلى انهاء الحرب الروسية على أوكرانيا مايزال بعيدا جدا، في ظل تباعد مواقف الطرفين الروسي والأوكراني، وعدم نجاح المشرفين على المؤتمر في حشد دعم بلدان الجنوب لخطة السلام الأوكرانية. يضاف إلى الأسباب السابقة الواقع الجديد المتوقع بعد " زلزال" نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، والمخاوف من تغيرات قد تجلبها الانتخابات المقبلة في بريطانيا والولايات المتحدة.

ولا يرقى البيان إلى الهدف الذي وضعته أوكرانيا حين دعت إلى عقد المؤتمر، باستثناء الديباجة التي أشارت إلى أن "ميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك مبادئ احترام سلامة أراضي وسيادة جميع الدول يمكن أن تشكل أساساً لتحقيق سلام شامل وعادل ودائم في أوكرانيا".

أ ب
المشاركون في الجلسة الافتتاحية لقمة السلام في أوكرانيا في بلدة أوبرجن السويسرية في 15 يونيو

وكما كان متوقعا ركز البيان على ثلاث قضايا ثانوية تحظى باجماع عالمي من أصل عشر نقاط طرحها الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي نهاية عام 2022 فيما عرف بخطة السلام الأوكرانية أو "صيغة زيلينسكي للسلام".

ومع الإشارة إلى أن" القمة عُقدت من أجل تعزيز حوار رفيع المستوى حول مسارات نحو التوصل إلى سلام شامل وعادل ودائم لأوكرانيا على أساس القانون الدولي بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة"، عبّر المشاركون في صوغ البيان عن الاعتقاد "بأن التوصل إلى سلام يتطلب مشاركة جميع الأطراف والحوار في ما بينها"، ما يعكس آراء عدد من " بلدان الجنوب" الفاعلة التي قررت المشاركة في المؤتمر وطرح رأيها، ومن أبرزها ما أكده وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان يوم السبت الماضي، من أن مشاركة بلاده في القمة، تأتي انطلاقاً من التزامها بدعم جميع الجهود الرّامية إلى إنهاء هذا الصراع وتحقيق سلام عادل وأمن مستدام. وتشديده على دعم السعودية للمجتمع الدولي في أي خطوة يخطوها لعقد مفاوضات جادة. وفي كلمته للقمة شدد الوزير السعودي على أنه "من الضروري التأكيد على أن أي عملية جادة ستتطلب مشاركة روسية فيها، ونأمل أن تؤدي نتائج هذه القمة لتحقيق هذه الأهداف"، ورأى أن الوصول إلى حل وسط يتطلب تنازلات من الطرفين.

رسالة بوتين الغائب الحاضر

وعشية افتتاح المؤتمر في سويسرا عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رؤية بلاده لكيفية احلال السلام في أوكرانيا والعالم. وبعثت تصريحات بوتين رسالة قوية للمؤتمر حول رفض بلاده سياسة الاملاءات الغربية والوصول إلى وثائق تعرض عليها من أجل التنفيذ، وتأكيده على قدرة بلاده في مواصلة الحرب في حال لم تقبل أوكرانيا بالوقائع على الأرض.

لا يرقى البيان إلى الهدف الذي وضعته أوكرانيا حين دعت إلى عقد المؤتمر، باستثناء الديباجة التي أشارت إلى أن "ميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك مبادئ احترام سلامة أراضي وسيادة جميع الدول يمكن أن تشكل أساساً لتحقيق سلام شامل وعادل ودائم في أوكرانيا"

 وشدد بوتين على أنه لا يمكن تحقيق السلام وحل الأزمة الأوكرانية من "دون حوار صادق مع روسيا". وحدد بوتين شروط بلاده لوقف اطلاق النار وبدء المفاوضات مع أوكرانيا، وطالب، في كلمة أمام الدبلوماسين الروس، بانسحاب القوات الأوكرانية من كامل أراضي مقاطعات دونتسك ولوهانسك وزاباروجيا وخيرسون بحدودها الإدارية حين استقلت أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي. وأكد بوتين أن بلاده تقدم عرض سلام حقيقي آخر لأوكرانيا والغرب، موضحا أن روسيا تقترح تجميد الصراع، مقابل جملة من الشروط منها تعهد أوكرانيا بالحياد، وعدم انضمامها "للناتو"، ونزع أسلحتها، واجتثاث مظاهر النازية فيها. وحذر بوتين من أن رفض عرضه "طي هذه الصفحة المؤسفة من التاريخ" يجعل كييف والغرب مسؤولين عن استمرار إراقة الدماء. ولم يستبعد أن تتغير شروط التسوية في حال رفض عرضه وفقا للأوضاع  العسكرية على الأرض التي تسير بشكل واضح لمصلحة بلاده، مذكرا ان روسيا كانت مستعدة للانسحاب من مقاطعتي زاباروجيا وخيرسون في مفاوضات اسطنبول ما بين مارس/ آذار ومايو/ أيار 2022.  وأكد بوتين على أن جميع الاتفاقات المتضمنة تبعية القرم والمقاطعات الأربع التي ضمتها روسيا في خريف 2022 يجب أن تحدد بشكل واضح في المنظمات الدولية على أنها روسية إلى الأبد.  ووصف بوتين قمة سويسرا المخصصة للسلام في أوكرانيا بأنها "خدعة لتشتيت انتباه الجميع".

أقل من الطموحات

وفي حين عرض بوتين ما يرقى إلى اعتباره توقيع أوكرانيا والغرب على "وثيقة استسلام"، بدا واضحا  أن عدد المشاركين ومواقفهم المتباينة ومستوى التمثيل في مؤتمر سويسرا، والنقاط الأساسية للبيان الختامي للمؤتمر لم تحقق الهدف الاساسي الذي سعى إليه زيلينسكي وعمل عليه منذ أكثر من عام، وهو اجبار روسيا على السلام وفق شروطه، رغم اقتصار جدول أعماله على ثلاث نقاط من "خطة زيلينسكي للسلام" ذات النقاط العشر التي أطلقها للمرة الاولى خريف 2022 أثناء قمة العشرين في أندونيسيا. 
وشاركت وفود 90 دولة، و8 منظمات دولية في المؤتمر الذي نُظم في منتجع بورغنشتوك على بحيرة لوتسيرن السويسرية، لكن اللافت هو غياب الصين والبرازيل، وتخفيض مستوى تمثل الهند وكثير من بلدان الجنوب ما يمثل ضربة كبيرة لجهود أوكرانيا في اشراك أكبر قدر من دول العالم في دعم "خطة زيلينسكي للسلام" والضغط من أجل جلب روسيا إلى حضور مؤتمر حاسم، يحدد موعده لاحقا، يجبرها على تنفيذ "توافق الغرب والجنوب" بشأن الانسحاب إلى الحدود الدولية بين البلدين وفق خريطة 1991، واحلال العدالة عبر تشكيل محاكم للمسؤولين الروس عن "جرائم مرتكبة" خلال الحرب، والحصول على تعويضات عن الدمار ودفع روسيا تعويضات وتحميلها كلفة إعادة الإعمار. 

صيغة زيلينسكي

منذ مطلع العام الماضي ركزت كييف جهودها الدبلوماسية على أن "صيغة زيلينسكي للسلام". وكرر الرئيس الأوكراني أكثر من مرة أن تنفيذ جميع النقاط العشر هو وحده الذي يمكن أن يحقق السلام العادل في بلاده، ورفضت كييف رفضاً قاطعاً مناقشة خطط السلام الأخرى، وبنت مخططاتها على أن تتويج العمل وفق "الصيغة الأوكرانية" يكمن في عقد "قمة السلام العالمية" في سويسرا، وفيها يجب على زعماء عشرات الدول حول العالم مناقشة صيغة زيلينسكي معا ووضع خطة واضحة لتحقيق السلام على أساسها، على أن تقدم لاحقا  لموسكو، كوثيقة للتنفيذ. 

شاركت وفود 90 دولة، و8 منظمات دولية في المؤتمر الذي نُظم في منتجع بورغنشتوك على بحيرة لوتسيرن السويسرية، لكن اللافت هو غياب الصين والبرازيل، وتخفيض مستوى تمثل الهند وكثير من بلدان الجنوب

وجاءت فكرة عقد المؤتمر في نهاية 2022 على خلفية ارتفاع الروح المعنوية و"النشوة" في كييف بعد سلسلة من "الانتصارات" الأوكرانية و"الانتكاسات" الروسية مع استعادة الجيش الأوكراني السيطرة على قرابة ثلاثة ألاف كيلومتر في خاركيف ومقاطعتي دونتسك ولوهانسك، وانسحاب الجيش الروسي من مدينة خيرسون خريف ذلك العام. ومع رفع الغرب تدريجيا حجم ونوعية مساعداته  العسكرية لبلاده،  بدا  الرئيس زيلينسكي أكثر ثقة بامكانية تحقيق نصر عسكري على الأرض، وإلحاق الهزيمة بروسيا، وعرض في خطاب أمام قمة  العشرين في أندونيسيا خطته المكونة من عشر نقاط للسلام. 

أ ف ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متحدثا أمام لقاء مع قدامى المحاربين في موسكو في 14 يونيو

وخرجت خطة زيلينسكي إلى العلن في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 بعد أربعة أيام من انسحاب روسيا من مدينة خيرسون، وقال حينها إن تنفيذ خطته سيجعل من الممكن تحقيق سلام عادل في أوكرانيا، ويضمن العقاب المناسب للمعتدي، ويجعل من المستحيل اندلاع صراع جديد. وتتضمن الخطة عشر نقاط هي:
•    السلامة النووية (التأكيد على المخاطر التي يفرضها احتلال روسيا لمحطة زاباروجيا للطاقة  الذرية، فضلاً عن التهديد النووي الروسي )
•    الأمن الغذائي (معالجة انقطاع الإمدادات الغذائية العالمية الناجم عن الغزو والحاجة إلى حرية الملاحة من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود).
•    أمن الطاقة (تسليط الضوء على الهجمات الروسية التي شلت البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا )
•    إطلاق سراح جميع السجناء الأوكرانيين وإعادة الأطفال الأوكرانيين المرحلين إلى روسيا.
•    إستعادة الأراضي الأوكرانية المحتلة وفق حدودها المعترف بها دولياً.
•    الانسحاب الكامل للقوات العسكرية الروسية إلى الحدود الدولية.
•    العدالة بموجب القانون الدولي، بما في ذلك إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة جرائم الحرب المزعومة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بأوكرانيا. 
•    معالجة الدمار البيئي الناجم عن الحرب.
•    ضمانات أمنية لأوكرانيا ضد أي عدوان روسي مستقبلي.
•    عقد مؤتمر سلام متعدد الأطراف مع معاهدة ملزمة لإنهاء الحرب.
واقع جديد 
وحسب الأوضاع على أرض المعركة، ربما كانت الخطة الأوكرانية واقعية نهاية 2022، ولكن الأوضاع اليوم تعاكس ما كان عليه الحال فمنذ فشل الهجوم الأوكراني المضاد في صيف 2023، امتلكت روسيا زمام المبادرة، وحققت تقدما وان كان بطيئا، على مختلف الجبهات في دونتسك وزاباروجيا، وأخير فتحت جبهة جديدة مرة أخرى في خاركيف. وتفسر التطورات الميدانية الأخيرة على أرض المعركة، وعزوف صف واسع من بلدان "الجنوب العالمي" عن المشاركة أو تخفيض مستوى التمثيل، تصلب المواقف الروسية بشأن مؤتمر سويسرا والتي عبر عنها الرئيس بوتين بوضوح قبل ساعات على افتتاحه، ورفضها المشاركة فيه حتى في حال طُلب منها ذلك، واصرارها على رفض لغة "التهديدات والانذارات النهائية" التي ينطوي عليها صوغ خطة سلام من دون مشاركتها، وتقديمها لاحقا للتنفيذ. 

ضربة أميركية

ورغم تحديد أوكرانيا وسويسرا موعدا مناسبا لعقد المؤتمر بعد اسبوع من انتخابات البرلمان الاوروبي ما يخفف الضغوط على القادة الأوروبيين الداعمين لها، وافتتاحه تزامنا مع انتهاء قمة السبع الكبار في إيطاليا لضمان حضور الرئيس الأميركي جو بايدين، إلا أن هذه الخطوات لم تجلب النتائج المأمولة. فصعود اليمين الشعبوي في أوروبا أحدث زلزالا سياسيا في فرنسا وألمانيا وبلجيكا. وبات على القادة الأوروبيين التزام الحذر في المبالغة بدعم أوكرانيا لعدم اثارة الناخبين في الانتخابات المقبلة. وفي ظل احتدام الصراع على الوصول إلى البيت الأبيض فضل بايدن العودة إلى بلاده لجمع التبرعات لحملته، والتخفيف من تأثيرات توجيه ثلاث تهم جنائية بحق ابنه هانتر، وقرر ايفاد نائبته كامالا هاريس التي لم تنتظر حتى اليوم الثاني وعادت إلى واشنطن.

صعود اليمين الشعبوي في أوروبا أحدث زلزالا سياسيا في فرنسا وألمانيا وبلجيكا. وبات على القادة الأوروبيين التزام الحذر في المبالغة بدعم أوكرانيا لعدم اثارة الناخبين في الانتخابات المقبلة

وبعيدا عن صمود الاقتصاد الروسي، ونجاحها في نسج علاقات أوثق مع بلدان "الجنوب العالمي"، يبدو أن المسؤولين المتحمسين لعقد مؤتمر السلام في سويسرا لم يلتفتوا إلى التغيرات الحاصلة  ومنها التقدم الروسي ميدانيا، وانشغال العالم بالحرب في غزة وتداعياتها، والأهم عدم ادراك الواقع الجيوسياسي الجديد في العالم حاليا ومن أهم ملامحه زيادة دور الصين، وتراجع الثقة بالغرب.   

ثلاث نقاط رئيسية

ومن المؤكد أن التقدم بشأن النقاط الثلاث في "صيغة زيلينسكي للسلام"  ليس هو ما راهن عليه المبادرون الأوكرانيون للقمة في البداية. وكان من المفترض حينها أن يخرج المشاركون في القمة الأولى بخطة واضحة لتحقيق السلام يعرضونها على روسيا في القمة الثانية. واضطرت أوكرانيا في مرحلة الإعداد للقمة الحالية، إلى تقليص جدول الأعمال واقتصاره على نقاط ثانوية بعدما  اتضح أن بعض الدول، في المقام الأول تلك التي تمثل "الجنوب العالمي"،  ترفض رفضا قاطعا مناقشة أو دعم النقاط "الإشكالية" في "صيغة السلام الأوكرانية" مثل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية أو إنشاء محكمة لمعاقبة مجرمي الحرب. 
ومن الواضح أن تقليص جدول الأعمال وتكييفه من أجل جذب مزيد من الدول إلى المؤتمر لم يجلب النتائج المرجوة حسب نقاط البيان الختامي للمؤتمر، وكلمات الوفود وتصريحاتها على هامشه. ومن غير المستبعد أن تبرز مبادرات جديدة لعقد مؤتمر أو مؤتمرات للسلام بمشاركة روسيا ربما تلعب فيه الصين والبرازيل أو السعودية وتركيا دورا بارزا على حساب سويسرا التي قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مارس/ آذار الماضي إنها فقدت دورها الحيادي. 
ومن المؤكد أن مستقبل السلام في أوكرانيا تحدده الأوضاع الميدانية العسكرية على الأرض.
وفي الواقع الحالي تبدو كفة روسيا أرجح نظرا لأنها استطاعت تجاوز تأثيرات العقوبات  على الاقتصاد الذي تحول إلى " اقتصاد حرب"، وتمكنت من تعويض النقص في الأفراد والمعدات في ساحة الحرب ما دفعه إلى التشدد وعدم التنازل عن مكتسباته . في المقابل  يواصل زيلينسكي رفض زيلينسكي أي خطة سلام لا تتضمن سيادة أوكرانيا على المناطق الأربع التي احتلتها روسيا منذ بداية الحرب في فبراير/ شباط 2022، وشبه جزيرة القرم في 2014، ولكن بلاده عاجزة حاليا عن شن أي هجوم مضاد لفشلها في تعبئة العدد اللازم من الجنود والزج بهم إلى الجبهات، والحصول على الأسلحة اللازمة. ولعل الأهم أن الدعم الغربي غير المحدود عسكريا واقتصاديا لن يدوم إلى الأبد مع صعود اليمين المتطرف أوروبيا، واحتدام المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة مع عدم ضمان أن يكون حاكم البيت الأبيض بعد نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل داعما لأوكرانيا. ويجب عدم التقليل من ارتفاع المخاوف المتزايدة في العالم من الانجرار إلى حرب نووية، ما قد يضغط على أوكرانيا لتجميد الصراع  أو تقديم تنازلات مؤلمة.  

font change

مقالات ذات صلة