اليمين الشعبوي في إسرائيل يتفق واتجاهات اليمين المتطرف العالمية

الحجة نفسها: الدفاع عن هوية واحدة مفردة نقية على حساب كل الهويات الأخرى

إدواردو رامون/ غيتي
إدواردو رامون/ غيتي

اليمين الشعبوي في إسرائيل يتفق واتجاهات اليمين المتطرف العالمية

القدس- نادرا ما تُناقش حركة اليمين المتطرف في إسرائيل بوصفها جزءا من الموجة الشعبوية العالمية، ويعود سبب ذلك إلى الطبيعة الفريدة للدولة اليهودية وإلى الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. إلا أن الأيديولوجيا التي يدعمها أمثال وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، أو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أو حتى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه، على علاقة كبيرة باليمين العالمي المتطرف، ولعل نجاحهم ينبع في الأساس من الجذور نفسها.

وقد اعترف ممثلو حركة اليمين الإسرائيلي المتطرف أنفسهم بهذه الصلات الوثيقة. فنتنياهو مثلا يجد من الأسهل عليه مصادقة شخصيات شعبوية مثل رئيس المجر فيكتور أوربان، ورئيس البرازيل السابق جايير بولسونارو والرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب نفسه، بالمقارنة مع بعض القادة العالميين الآخرين (أو أولئك الذين لا يتبعون أصدقاء نتنياهو الشعبويين).

وليس في الأمر صدفة مطلقا. فمشاعر اليمين المتطرف في إسرائيل تنهض على الآليات نفسها وعلى الحجة نفسها: الدفاع عن هوية واحدة مفردة نقية، على حساب كل الهويات الأخرى، أو على حساب مبدأ الديمقراطية. وبن غفير- وهو في الأساس من دعاة التفوق اليهودي- يعتقد أن اليهود في إسرائيل يجب أن يتمتعوا بحقوق أكثر من غيرهم. وقال ذلك بنفسه أكثر من مرة. ولا يترك حزبه )القوة اليهودية( متسعا لأي تفسير آخر.

وفي إسرائيل، تأخذ هذه الحجة معنى أعمق. فالهوية الأساسية لإسرائيل قائمة على مبدأين رئيسين: إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية. غير أن هذين المفهومين لا يمتزجان معا بسهولة دائما، لا بل يناقض أحدهما الآخر بطرق عديدة في الواقع. فإذا كانت إسرائيل دولة يهودية، فما مصير الأقليات؟ وإذا كانت إسرائيل دولة يهودية، فهل ينبغي أن تحل قوانين التوراة محل قوانين الدولة- وهي دولة ليس لها دستور محدد؟

إدواردو رامون/ غيتي

لطالما كانت هذه التناقضات قائمة، لكنها اكتسبت أهمية جديدة في السنوات الماضية. إذ إن قطاعا من الطيف السياسي الإسرائيلي اتخذ على نحو متزايد خياره: إذا حدث تصادم بين هذين المبدأين المؤسسين، فالأولوية دوما للهوية اليهودية للبلاد.

وليس تقويض الديمقراطية في إسرائيل مقابل الحفاظ على الهوية الأساسية للدولة من قبيل الصدفة التاريخية. وفي الوقت الذي كان نتنياهو يدفع باتجاه إصلاح قضائي، لم يكن للتحالف بين نتنياهو واليمين المتطرف أن يفكك التوازن الوحيد الذي يضبط سلطة الحكومة، فيما يتزايد الشقاق بين المبدأين اللذين يشيران إلى هوية إسرائيل. وقد اتخذ الشعبويون في إسرائيل قرارهم حول أي المبدأين يأتي أولا عندهم. وهو اختيار بديهي: بالنسبة لأمثال سموتريتش أو بن غفير، أن تكون إسرائيل ديمقراطية فهو مجرد وضع مؤقت (وهو الوضع الذي تعيشه إسرائيل الآن) أما طابعها اليهودي فهو ضرورة.

نجاح إيتمار بن غفير، يأتي بسبب أفكاره واستعراضاته المسرحية. حيث ينظر إليه أنصاره على أنه "متحدث صريح"، وشخص "يقول الأشياء كما هي"

ونتنياهو- الذي يناديه أنصاره في كثير من الأحيان "الملك بيبي"، ويهتفون له "بيبي ملك إسرائيل"- وجد شركاء له يسعدهم تقويض أحد المبادئ التأسيسية للدولة. غير أن هذا الهجوم المتنامي ضد الديمقراطية كان سببا غير متوقع في إيقاظ أغلبية نائمة من الإسرائيليين، الذين لا يعدون الديمقراطية مجرد تفصيل جانبي في تاريخ إسرائيل، ينبغي عليها أن تنحني أمام أشياء أعظم (أو رجال أعظم). وجاءت احتجاجات العام الماضي نتيجة لإدراك أعمق لدى قطاعات من الجمهور بأن هوية إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية أصبحت في خطر كبير.

إدواردو رامون/ غيتي

غير أن أوجه الشبه لا تقف عند هذا الحد. فقد اعتمدت الموجة الشعبوية في إسرائيل أيضا على الانقسام نفسه الذي يعتمده اليمين المتطرف العالمي، فوضعت "النخبة القديمة" في مواجهة "الشعب". ومع اشتداد مشاكل نتنياهو القضائية، ازداد استخدامه للحجج والخطابات التي يستخدمها اليمين المتطرف في أماكن أخرى من العالم. ووفقا لتصريحاته وتصريحات أنصاره، هو ضحية لحملة مطاردة يقودها عناصر من "الدولة العميقة" الساعين لإيجاد طرق للإطاحة به، بعد أن فشلوا في الإطاحة به بالطرق الديمقراطية. وهاجم المحكمة العليا ووصفها بأنها "سلطة غير منتخبة". واتهم أنصاره المدعي العام ووصفوه بأنه "خائن" وحصان طروادة يستخدمه اليسار المتطرف في إسرائيل.
كما أن استخدام حجة "الشعب ضد النخبة" الكلاسيكية هذه، لها أيضا أصداء أعمق في إسرائيل. فقد تأثرت إسرائيل في العقود الأولى من نشأتها، وكذلك الحركة الصهيونية المبكرة، تأثرا عميقا باليهود القادمين من أوروبا (اليهود  الأشكناز)، الذين جلبوا معهم قيم اليسار وحساسياته. فبقيت إسرائيل لعقود من الزمن يحكمها حزب يساري، ولم يصل اليمين إلى السلطة إلا في نهاية السبعينات. وفي عام 1948، صوت الاتحاد السوفياتي لصالح قيام إسرائيل، على أمل أن تقف إسرائيل إلى جانب الكتلة الشيوعية الناشئة (وهو أمل لم يكن يجافي الواقع لأن مؤسسي إسرائيل من اليسار).
وبالانتقال سريعا إلى الحاضر، لم يبق من هيمنة اليسار التي استمرت طيلة العقود الأولى سوى القليل من الهيمنة الفعلية في البلاد. فاليسار الإسرائيلي اليوم ليس سوى ظل لما كان عليه في السابق، ولا يصل إلى الكنيست إلا بمشقة- هذا إذا وصل أصلا. ,ربما لا يزال للأشكناز تمثيل مفرط في أوساط الأكاديميين، وبعض مؤسسات الدولة- أهمها المحكمة العليا. لكن الإحساس بالتمييز لا يزال سمة من سمات النفسية الإسرائيلية، وخاصة عند اليهود العرب (السفارديم أو المزراحيم كما يسمونهم في إسرائيل)، الذين جاءوا إلى إسرائيل لاحقا، بعد طردهم من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فعانوا من التمييز، ومن التصور الذي يرى فيهم يهودا "من الدرجة الثانية"، وأُرسلوا للعيش في الضواحي.
وإلى اليوم، لا تزال قضية عدم المساواة بين اليهود الأشكناز والسفارديم تضرب وترا حساسا في إسرائيل.
 هذه هي الصورة التي دأب نتنياهو على استحضارها: اليهود الأشكناز اليساريون القدامى، المتحصنون في "دولة عميقة" خيالية، يتطلعون من أعالي برجهم العاجي إلى الإطاحة برئيس الوزراء المنتخب.
من المؤكد أن هذه الصورة خاصة بإسرائيل، ولكنها تشبه أيضا الخطاب الذي يستخدمه قادة اليمين المتطرف والشعبويون في جميع أنحاء العالم.
وأخيرا، اللغة المستخدمة هي نفسها. فنجاح إيتمار بن غفير، مثلا، يأتي بسبب أفكاره بقدر كونه نتيجة استعراضاته المسرحية. وينظر إليه أنصاره على أنه "متحدث صريح"، وشخص "يقول الأشياء كما هي" ولا يضيره أن يكون أو لا يكون على صواب من الناحية السياسية. وقد قيل الشيء نفسه تقريبا عن جميع الشخصيات الشعبوية الرائدة في العقد الماضي. وبينما تواجه إسرائيل أزمة معقدة عقب هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، سوف يكون هذا أمرا جذابا لدى بعض الناخبين، الذين يريدون حلولا بسيطة ويسعدهم أن يجاهروا بآرائهم على نحو مستفز أمام العالم.

سيعزز نتنياهو ورفاقه من اليمين المتطرف الروابط التي شكلوها مع الجماعات اليمينية المتطرفة والشعبوية المماثلة في جميع أنحاء العالم

وقد أمست هذه الحجج بعد السابع من أكتوبر جاهزة لكي تتضخم. فعلى المستوى الداخلي، سوف يضاعف نتنياهو سعيه كي يفصل نفسه عن الحقائق والمسؤوليات مستخدما خطابا مثيرا للانقسام. وليس نتنياهو في الأساس "مؤمنا حقيقيا" بالأفكار اليمينية المتطرفة بقدر كونه انتهازيا. استخدم وسيستمر في استخدام الخطاب الذي يخدمه على أفضل وجه، مهما كان هذا الخطاب مخيفا.

إدواردو رامون/ غيتي

وفي أعقاب أحداث 7 أكتوبر، انغمس بعض أنصار نتنياهو (ومنهم ابنه) في نظريات المؤامرة- وهي وسيلة كلاسيكية أخرى يستخدمها القادة الشعبويون في العصر الحديث- فزعموا أن عناصر داخل "الدولة العميقة" والجيش "سمحت" بوقوع هجمات "حماس" كي تطيح بنتنياهو.
ويواجه شريكاه، بن غفير وسموتريتش، أزمة خاصة بهما، فقد أشرفا هما أيضا على واحدة من أسوأ الكوارث الأمنية في إسرائيل. وسوف يكرران خطاب نتنياهو نفسه: فيزعمان أن أفكارهما تخنق وتهمش عند كل منعطف. وسيقولان ليتهما فقط استطاعا متابعتها حتى النهاية. هذا الافتقار إلى المساءلة نموذجي أيضا في سياسات الهوية، حيث يفترض بالناخبين أن يدعموا القادة على أساس من يكونون لا على أساس ما يفعلون.
وعلى الساحة الدولية، سيعزز "بيبي" ورفاقه من اليمين المتطرف الروابط التي شكلوها مع الجماعات اليمينية المتطرفة والشعبوية المماثلة في جميع أنحاء العالم. ولا عجب في أن يبني "بيبي" آمالا كبيرة على فوز ترمب، على الرغم من الدعم الذي لا مثيل له الذي قدمه بايدن لإسرائيل بعد 7 أكتوبر. ولم يتغير ذلك حتى بعد أن أعرب ترمب مؤخرا عن رغبته في إنهاء الصراع في غزة، وعلى الرغم مما كشف عنه ترمب العام الماضي من أن نتنياهو قد خانه وحول ولاءه سريعا إلى خندق بايدن. وبشكل أكثر عمومية، تجد إسرائيل نفسها معزولة، ولكنها ما زالت رغم ذلك تعتبر حصنا حاسما من قِبَل الفصائل اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء الغرب وخارجه، التي ترى أن الغرب يقع تحت حصار من قِبَل عالم إسلامي معادٍ.
وسيدفع هذا المسار بإسرائيل إلى انزلاق خطير لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات والسياسات السامة والتحالفات القائمة على المخاوف المشتركة بدل القيم المشتركة.

font change

مقالات ذات صلة