العراق و"الحاكم العسكري"... أزمة وليس حلاً

ما حدث هو انتقال من دكتاتورية القائد إلى تعددية الزعامات

أ ب
أ ب
جلسة للبرلمان العراقي في 3 سبتمبر 2018

العراق و"الحاكم العسكري"... أزمة وليس حلاً

يميل كثير من العراقيين إلى فكرة "الحاكم العسكري" بديلاً عن فوضى الديمقراطية. وربما يطرحونها حلاً للفساد. لذلك تجد الدعوات إلى تمركز السلطة بيد حاكم واحد أوحد حاضرة دائماً في نقاشات إصلاح نظام الحكم. والمفارقة أن من يتبنى هذه الفكرة قد يكون من النخب الأكاديمية أو السياسية وحتى الثقافية.

آخر الدعوات طرحها السيد حميد الياسري قائد لواء "أنصار المرجعية" في "الحشد الشعبي" التابع للعتبات الدينية. وكانت ضمن دعوة وجهها للتظاهر ضد الفساد في محافظة المثنى. ودعا فيها البرلمان ورئيس الوزراء إلى إرسال "حاكم عسكري" نزيه لطرد الفاسدين.

قد تعبر دعوة السيد الياسري عن عدم دراية بالدستور والقوانين الحاكمة التي لا تمنح لرئيس مجلس الوزراء ولا البرلمان الحق في أن يصدرا قرارا بحل مجلس المحافظة وإقالة المحافظ وتعيين حاكم عسكري بديلاً عنهما لتسيير شؤون المحافظة. لكنه يدرك تماماً أن هذه الدعوة لها قوة جاذبية في استقطاب الجمهور الناقم على الطبقة الحاكمة.

مشكلة التفكير بالحلول لأزمات النظام السياسي في العراق تراهن بعضها على "شخصية القائد" والركون إلى "نظرية البطل في التاريخ". يمكن وصفها بأنها تمثل نوعاً من القفز فوق الواقع والتعايش مع الأحلام. ففكرة البطل المنقذ من الأزمات تفترض وجود بطل يصنع الحدث بقوة تأثيره وبما يملكه من قدرات عبقرية وهو الرجل "السوبرمان" كما يسميه الفيلسوف الألماني نيتشه. أو تفترض وجود أحداث وتطورات ممكن أن يستفيد منها شخص أو أشخاص محددين ويتحولون إلى أبطال يغيرون مجرى تاريخ دولة ما. والافتراضان ربما يحتاجان إلى التداخل حتى يمكن أن يتحقق التغيير السياسي في العراق.

تفكير الجمهور، مشكلة أيضا. فالكثير من العناوين السياسية التي تحكمنا الآن تتعيش على وهم "الزعامة السياسية" التي همها صناعة الجمهور الممتثل، ببلاهة تحيزاته، واستعداده للركض وراء من يسوسه، فحياته خواء إن لم يكن ثمة انقياد وسوْس وإن لم يكن ثمة خضوع أعمى لزعيم، والتمجيد به ورفع صوره وترديد شعاراته.

إذ كيف يمكن للعراقيين الذين تجرعوا الموت والخراب ودفعوا ثمن التغيير نحو النظام الديمقراطي بدمائهم عندما تحدوا الجماعات الإرهابية، ودخلوا في دوامة حرب أهلية، يبحثون عن "حاكم واحد أوحد" يخلصهم من حكم الفاسدين ويستعيد لهم الدولة؟ صحيح أن الطبقة الحاكمة بعد 2003 والتي وصلت إلى السلطة عبر الانتخابات، لم تتمكن من محو آثار الدكتاتورية، وبيضت الكثير من صفحاتها عندما جعلت السلطة تحت سيطرة الاوليغارشيات التي تحكم باسم الطائفة أو القومية، وتمادت كثيراً في الفساد وأسست لفوضى السلاح المنفلت. لكن الشعب يبقى مصدر خوف لهذه الطبقة، ومصدر تهديد لبقاء هذه المنظومة الحاكمة، كما حدث في احتجاجات تشرين الاول/ اكتوبر 2019. وهذا المكسب لا يمكن التضحية به، والتفكير بالخضوع لحكم الدكتاتور.

ظاهرياً، تنجح الدكتاتوريات بفرض نظام حكم قوي يحقق الاستقرار، وربما افتقادنا إلى هذا النظام يجعلنا نفكر بالحاجة إليه

ما حدث في العراق، هو انتقال من دكتاتورية الزعيم القائد، إلى تعددية مفرطة في الزعامات والقيادات السياسية. وهنا توزع الاتباع والانتهازيون على تلك الزعامات. حتى أصبحوا جمهورا من المتزلفين مهمته الهتاف والتمجيد لهذا الزعيم وذاك القائد. ونجحوا في تحويل الزعماء إلى "رموز" تنتشر صورهم وشعاراتهم في الشوارع العامة وهي تحمل دلالات النرجسية. بعض هؤلاء وصل إلى السلطة بإرادة أجنبية، وهي قادرة على خلعه أو زيادة نفوذه في الحكم. ولكن الزعماء هؤلاء ينسون كل هذا، ويتحدثون عن جمهورهم أو شرعيتهم السياسية المستمدة من الانتخابات. 

  أ ف ب
امرأة وطفل في الموصل أمام صور مرشحين الى الانتخابات المحلية التي جرت في العراق في 18 ديسمبر

 تخيل أن أحدا من القيادات السياسية التي تحكمنا اليوم يبسط سلطته على العراق، او قائد عسكري من منظومة سلطة الفساد والفوضى، ويؤسس حكم مركزي خاضع لسيطرته. كيف يمكن أن يكون حال العراق؟ هذه الرغبة العاطفية الساذجة، تريد اختزال حل أزماتنا بوجود شخص الحاكم، ولكنها تتجاهل كيف أن النزعة المركزية المفرطة تجد في أموال أو ريوع النفط السهلة أداة لبناء أجهزة أمنية وشراء الولاء. ودولتنا دولة ريعية نفطية. ومن ثم، وجود حاكم متفرد بالسلطة ويهمين على موارد الدولة، لا يمكن أن ينتج لنا تبادل أدوار بين اوليغارشيات حاكمة وحاكم دكتاتوري. 
التعاطي مع فكرة الحاكم العسكري، أو "الدكتاتور العادل"، يعبر عن تجاهل واضح لطبيعة الحكم الشمولي وكيف يمكن أن ينتج مجتمع مفكك الروابط، يشغل أعضاءه كيف يعيشون يومهم، من دون وجود لشيء أسمه الشأن العام أو التفكير بالمستقبل خارج إطار المصلحة الشخصية، كما تشرح ذلك هانا آرنت في كتابها "الشمولية". وهذا هو فعلاً واقع مجتمعنا في ظل حكم الدكتاتورية، ولذلك يجب عدم القفز فوق حقيقة أن ثقافتنا السياسية لحد الآن هي نتاج لما زرعه في تفكيرنا نظام الحزب الواحد والقائد الأوحد، وربما أصبحنا لا نستطيع التفكير بالمستقبل إلا باستحضار الماضي والحنين إلى الدكتاتورية. 
ظاهرياً، تنجح الدكتاتوريات بفرض نظام حكم قوي يحقق الاستقرار، وربما افتقادنا إلى هذا النظام يجعلنا نفكر بالحاجة إليه. لكن كل تجارب الدكتاتورية أثبتت بعد انهيارها أن ذاك الاستقرار وقوة النظام كانا هشين، بمجرد التعرض إلى صدمة داخلية أو خارجية. لأن النظام فشل في تحقيق الاجماع السياسي بين الفرد والدولة، وفشل في ترسيخ سلطة القانون وحكم المؤسسات. لذلك بمجرد انهياره يسعى أفراده الى ضمان تحقيق مصالحهم وحمايتها بقوة السلاح لا القانون. 
صحيح أن التأسيس الخاطئ لا يمكن أن تكون مخرجاته صحيحة، فالنظام السياسي في العراق تأسس وفقاً لهواجس الماضي دون استحضارها لتجاوز الأخطاء التي وقعت فيها الأنظمة السابقة بشأن علاقتها مع المجتمع. ومنذ بداية تأسيسه كان يسيطر على مخيلة من كتب دستوره وأسس مبادئ النظام، أنه مشروع لتقاسم السلطة بين زعماء المكونات وليس نظاما يؤسس لعلاقة صحية بين الدولة والمجتمع.

التعاطي مع فكرة الحاكم العسكري، أو "الدكتاتور العادل"، يعبر عن تجاهل واضح لطبيعة الحكم الشمولي وكيف يمكن أن ينتج مجتمع مفكك الروابط

ولكن، نحن نعيش في زمن لا يحتاج الى ابطال يمتطون ظهر الدبابة ويسيطرون على مبنى الاذاعة والتلفزيون ليعلنوا (البيان رقم 1). فهذه الأحداث مكانها كتب التاريخ وليس الحاضر. ولا حتى من يملك السلطة قادر على أن يحافظ على حكمه بقوة العسكر وترسانة الأسلحة، فثمة الجموع المكتظة في المدن القادرة على تعطيل جنازير الدبابات، وثمة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي القادرة على اختراق جدران عزلة قصور السلطة حتى وأن كانت محاطة بالأسوار والابواب الحديدية، وثمة مجاميع شبابية تتنظر الفرصة للانتقام من نماذج سلطوية تحولت إلى مافيات تضخمت ثرواتها بسبب الفساد.
لو لم تكن الحكومات وقوى السلطة مهزوزة أمام ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي، لما حاولت أن تنشئ عشرات المدونين ومئات الجيوش الكترونية للدفاع عنها وتجميل صورتها لإرضاء غرورها السياسي، الذي يحطمه من ينتقد خطاب قوى السلطة.  
من يردد فكرة "الدكتاتور العادل"، يشبه من يكرر وصفة جاهزة لعلاج حالة مرضية تتشابه بالأعراض لكن تختلف جذرياً في سبب المرض، لأن هذه الفكرة عندما طرحها فولتير تحت عنوان "المستبد المستنير" كان يؤمن بضرورة وجوده لمواجهة سطوة الكنسية. وعندما نُسبت إلى جمال الدين الافغاني، فهي فكرة كان يراد منها أن يقترن حكم السلطان العثماني بالعدل. أما نحن الآن، فلا نحتاج إلى حاكم مطلق. وإنما نحتاج إلى التفكير بحلول لأزمة نظامنا الديمقراطي الهش.

رويترز
مؤيدون للزعيم العراقي مقتدى الصدر في النجف بعد دعوته إلى مقاطعة الانتخابات المحلية في ديسمبر

وتلك، مهمة النخب الأكاديمية والثقافية وحتى السياسية، إذ يجب أن يكون مشروعها الحفاظ على مكاسب الديمقراطية، ومواجهة قوى السلطة التي تريدنا تطبيعنا على أن وجودها هو أمر حتمي، ولا يمكن إلا الخضوع لسطوتها. لأن هذه القوى لا تؤمن بالديمقراطية ولكنها تتعاطى معها براغماتيا، باعتبارها الوسيلة للوصل للحكم أو البقاء فيه. لذلك هذه مهمة النخب الحقيقة وليس العناوين الثقافية والأكاديمية التي قبلت بدور الذيل التابع للقوى السلطوية، وتريد تجميل صورتها باعتبارها تمثل الطائفة أو القومية وتدافع عن حقوقها.
مهمتنا الآن تمكن في مسارين، الأول تهديم ركائز احتكار السلطة بيد أوليغارشيات حاكمة تريد أن تجمل سطوتها بشرعيات موهومة، تارة تكون الانتخابات، ومرة تكرار سرديات تمثيلها المكون الطائفي أو القومي، وأخرى عنوانها معارضة للنظام السابق، وأخرى تكون تحت ظل السلاح الذي دافعت فيه عن "حق المكون بالسلطة". 
أما المسار الثاني، اي المراهنة على ديناميكية النظام السياسي، فالتقادم الزمني في ظل ديمقراطية حتى وإن كانت هشة أو هجينة، يمكن أن ينتج معادلات في منظومة التنافس السياسي تكون قادرة على أضعاف وتشتت القوى السلطوية التقليدية وتقليص نفوذها بسبب إصرارها على البقاء ضمن دائرة الصراع للاستحواذ على الدولة ومؤسساتها وريعها الاقتصادي، من دون التفكير بكسب ثقة الشارع. واللحظة التاريخية لانهيار هذه المنظومة، ربما تكون نتيجة حركات سياسي احتجاجي أو انقلاب بنيوي من داخل بنية الحكم، بالتوافق مع تغيير داخل مؤسسة الحكم لدولة الجوار الإقليمي، ومن ثم يُضعف سطوتها على الفاعليين السياسيين في العراق.

font change

مقالات ذات صلة