يطبق مدار الأشياء والمعنى في امتحان الإنسانية أمام الحرب الوحشية المستمرّة بكلّ فداحة على شعب غزة الأعزل.
على نحو رمادي يبلغ بك التفكير حدوده متسائلا في استياء وسخط: ما جدوى الكلمة (الكتابة) إن كانت لا تستطيع أن توقف جريمة حرب ضد شعب أعزل، يُباد على مرّ شهور تحت مطر قذائف ثقيلة على مرأى العالم، تخطّت جميع الأرقام القياسية للكارثة؟
ما جدوى الفن والفلسفة والموسيقى والسينما ومجمل أشكال التعبير والجماليات إن لم يستطع أي منها إيقاف مأساة أطفال يقتلون ببشاعة على مرّ كل دقيقة؟ أطفال لا ذنب لهم سوى أنهم خلقوا في سجن قطاع يحاصره الاحتلال، فتارة يجوّعه وفق بربرية ممنهجة ويدمّر مستشفياته ويقصف حتّى مرضاه، وتارة يمارس عليه أفدح أساليب الإعدام الجماعي علنا في وضح نهار المقتلة العامة.
ما جدوى الفن والفلسفة والموسيقى ومجمل أشكال التعبير إن لم يستطع أي منها إيقاف مأساة أطفال يقتلون كل دقيقة
لقد بلغت أشكال هذا التقتيل الإسرائيلي في جريمة الحرب على غزة حدّ التلذذ باغتيال الرُّضّع. لم يسبق لي أن صادفت في تاريخ حرب شائنة العار جبنا من هذا القبيل الذي يفتخر فيه جنديّ مدجّج بأعتى الأسلحة الحديثة بقتله لطفل بريء ولا يتردّد في أن يصرّح بذلك مختالا في محاورة مؤرخة بالصوت والصورة، والشيء نفسه حينما يرسل جنديّ معايدة لطفلته أو زوجته أو أهله عبر فيديو يوثق فيه قتله الشنيع لأسرة فلسطينية مسالمة، عبر قذيفة أو عبوة ناسفة تهدّ البيت على رؤوسهم أو مداهمة لشقتهم ورميا لهم بالرصاص، هذا بعد أن تخطّى افتخارهم الوضيع تقليد اغتصابهم لنساء وتعريتهم لرجال مدنيين ممن اقتحمت بيوتهم أو مستشفياتهم، والشعار الإسرائيلي المنذور لنذالة وجبن كهذين: كل ما هو غزّاوي مستباح من الشيخ إلى الرضيع، ومن البيت إلى الحيوان إلى النبات إلى الماء والهواء... كلٌّ بلا استثناء إلى المذبحة من الوريد إلى الوريد.
يطبق مدار الأشياء والمعنى في امتحان الإنسانية أمام الحرب الوحشية المستمرّة بكلّ فداحة على شعب غزة الأعزل، على نحو رماديٍّ يبلغ بك التفكير حدوده متسائلا في استياء ويأس معا:
ما جدوى إنسانيتك إن لم تستطع إيقاف كل هذه الوحشية غير المسبوقة من كيان طارئ بنى وجوده المريب على واقعة محرقة ألمانية، وعلى نحو مفارق صار هو نفسه يقترف محارق معاصرة يومية ضد الفلسطينيّين، باسم سوريالية الدفاع عن النفس ويا للنكتة التي يندى لها جبين المسخرة، بل إن ما يرتكبه من إبادة عرقية شاملة لا يعدو أن يكون عملية نظيفة لا شبهة فيها، باسم القانون الدولي، تحت ذريعة استرجاع الرهائن!
من المأسوي أن تعيش في لحظة كونية يدّعي مجتمعها الدولي الانتساب إلى طفرة بشرية شاهقة، ميسمها القطع الجذري مع البدائية والوحشية، بعد حربين عالميتين ماحقتين، حكمت على الإنسان بموت الإنسان ونهاية المعنى، قبل أن يلملم شتاته زاعما أنه تعلّم من درسهما وقد انبعث فينيقا جديدا. طفرة بشرية سامقة ديدنها الرقي بالمنظومة الإنسانية في أصقاع الكوكب، عدالة وديمقراطية ومساواة وهلم شعارات زائفة، انطلت على من صدّق المسرحية الطاعنة في الكوميديا، ودافع عن أكذوبتها مطولا أكثر ممن صنعوها، فيما واقع ما يحدث في غزة يكرّر بملء الصرخة المدوية: إن سقط ضمير العالم أمس، فاليوم مدفنه السوداوي بغير ما تشييع.
وكأن غزة جزيرة لا تنتمي إلى أرخبيل العالم، منفصلة عن كوكب الأرض، وأهلها لا ينتمون إلى الوجود الإنساني. بل إن ما يحدث عند الكثيرين لا يعدو أن يكون مشاهد سينمائية متكرّرة، اعتادوا الفرجة على الفيلم الفانتازي، والمعادلة الطبيعية في نظرهم بصدد ما يحدث في كلّ غزة من بشاعة مطبقة: إسرائيل ضحية المحرقة الألمانية، من حقها حرق فلسطين عن بكرة أبيها، بذريعة الاختلاف مع "حماس"، هذا هو المشجب الذي تعلق عليه مضاعفات جريمة حرب يومية لا حدود لشناعتها.
كيف يغدو مقتل الأطفال بالمئات مبررا وفق هذه الذريعة البائسة؟ كيف تغدو إبادة شعب بأكمله مبررة وفق هذه الذريعة الخرقاء؟ كيف يغدو حمام الدم الفلسطيني المراق على رأس كل دقيقة مبررا وفق هذه الذريعة المقرفة؟
كأن غزة جزيرة لا تنتمي إلى أرخبيل العالم، منفصلة عن كوكب الأرض، وأهلها لا ينتمون إلى الوجود الإنساني
هذا نصلٌ غائر الفجيعة، بأثر طاعن في الألم حين يأتيك من خيانة أشقاء الوعي والدم واللغة والوجدان، فبالأحرى من خيانة الضمير الإنساني المشترك.
ومع ذلك، إن كان من جدوى للكلمة في إطباقة مدار الأشياء والمعنى في امتحان الإنسانية أمام الحرب الوحشية المستمرّة بكلّ فداحة على شعب غزة الأعزل، فهو أن تسحج معدنها من طبقات الصمت السميكة ولا تتردّد في الغضب بملء الصرخة مدوية بـ: لا.
إن كان من جدوى للكتابة فهو أن تحلج غيمة الحياد بينها وبين المذبحة، ولا تتردّد في الغضب بملء الصرخة مدوية بـ: لا.
إن كان من جدوى للفن والفلسفة والموسيقى والسينما ومجمل أشكال التعبير والجماليات... فهو زحزحة الصخرة الرابضة بينها وبين الإبادة اليومية، ولا تتردّد في الغضب بملء الصرخة مدوية بـ: لا.
غضب ينتصر للجمال إذ ينتصر للإنسانية حينما يُصرّف بطريقة لا تناقض الفن، بل تسمق به إذ تنحاز للصرخة المفقودة ضد الوحشية والبشاعة والحرب المتفاقمة قتلا جماعيا ضد أطفال ونساء وشيوخ محاصرين في سجن سماؤه تمطر قذائف وصواريخ وخرابا.