نبيل سليمان لـ"المجلة": حين يدرك الأدب هويته يبرأ من لوثة الخطابات جميعاhttps://www.majalla.com/node/319196/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%86%D8%A8%D9%8A%D9%84-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%AD%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D8%AF%D8%B1%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%AA%D9%87-%D9%8A%D8%A8%D8%B1%D8%A3-%D9%85%D9%86-%D9%84%D9%88%D8%AB%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%AC%D9%85%D9%8A%D8%B9%D8%A7
يرتكز الروائي والناقد نبيل سليمان على تاريخ إبداعي طويل بدأ في سبعينات القرن الماضي وأنتج خلاله 23 رواية، وعددا كبيرا من الكتب النقدية، ابتداء بكتاب "النقد الأدبي في سوريا". حصل على عدد من الجوائز الأدبية، آخرها جائزة سلطان العويس الثقافية 2021. وترجمت بعض رواياته إلى الإسبانية والإنكليزية والروسية وغيرها. هنا حوار معه.
صدرت روايتك الأولى "ينداح الطوفان" عام 1970، ولا يزال تدفقك الروائي مستمرا. ما الهاجس الذي يقف وراء كتابتك حتى الآن؟
أكثر من نصف قرن إذن مرت على نشر روايتي الأولى التي كتبتها في مدينة الرقة، حيث كنت أعمل مدرسا في الرابعة والعشرين. ليس أكثر من دوافع البداية، وكان منها بالنسبة إليّ الدافع السيري، والطموح إلى أن أكون كاتبا، وتأثيرات قراءاتي الروائية وغير الروائية.
وسريعا ما جاءت صبوات الحرية ومقاومة عين الرواية لمخرز الديكتاتورية، فكانت روايتي الثانية "السجن" التي صدرت عام 1972. وبعد سنوات ست من الزلزلة التي رمتنا بها هزيمة 1967، تجرأت على أن أكتب رواية عنها هي "ثلج الصيف".
هاجس
كانت هذه الحرب إذن هاجسا عاصفا، كما ستليها حرب 1973 فأكتب لها روايتين، وكانت السيرية هاجس الرواية الثانية "المسلّة" في 1980– دافعا ثانيا، سيجعلني أكتب له ومنه وبه أيضا رواية "هزائم مبكرة" (1985). وستكون الثورة/ الانتفاضة/ الزلزال – تعددت الأسماء، والحرب واحدة، تيمنا بالقول: تعددت الأسماء والموت واحد – الدافع لكتابة أربع روايات هي: "جداريات الشام" (2014) و"ليل العالم" (2016) و"تاريخ العيون المطفأة" (2019) و"تحولات الإنسان الذهبي" (2022)، ولعلي أضيف الدافع السري لرواية "ليل العالم" وهو عيشي خمس سنوات من أخصب سنوات حياتي في مدينة الرقة.
كان السؤال المزلزل بعد هزيمة 1967 وما سبقها وما تلاها من الحروب/ الانتصارات/ الهزائم العربية المجيدة، هو لماذا؟ هو ما تبدى في الحفر الروائي في التاريخ، فكتبت "مدارات الشرق" بأجزائها الأربعة وصفحاتها الألفين وأربعمئة. ثمة دوافع أو هواجس أخرى لروايات أخرى. أما الهاجس (الدافع) المقيم لكل رواية فهو كيف تكتب رواية مختلفة، أجمل وأعمق. كيف تعانق كتابتك أحلام الإبداع.
منعطفات
تتشبع رواياتك بالكثير من الأفكار والاتجاهات الخفية، فكيف تستطيع أن تُخرج الأدب من الخطابات السياسية، وتجعله يخاطب الإنسان في أزمنة مقبلة؟
ولماذا لا أضيف أن بين رواياتي ما تشبّع أيضا بالأفكار الصريحة، وليس الخفية فقط؟ حين يدرك الأدب هويته يبرأ من لوثة الخطابات جميعا، وبخاصة منها الخطاب السياسي. وحين يتعلق الأمر بالرواية من الأدب، أنادي بتمثّل الروايات لما يعني كلا منها من السياسة أو الفلسفة. الرهان هو على التمثّل، هو على تخييل الخطابات جميعا، هو على الكيمياء الروائية التي تعيد تشكيل العناصر الأولى من السياسة أو الاجتماع أو... وهنا تنتأ فجاجة تبرير طغيان السياسي على الفني والجمالي بحق التعبير، بينما يعيدنا هذا التبرير إلى زمن الجدانوفية.
بالبرء من عورات السياسة في الرواية، وليس بالتعالي عليها أو تجنّبها، وبالإخلاص للفن، وبأولوية ما يخلّص الاجتماع البشري من علله، أحسب أن رواياتي تعانق المستقبل، وهي التي لم تحفر في التاريخ، ولا في الحاضر، إلا من أجل معانقة المستقبل بالقيم الإنسانية النبيلة.
غير المكتوب
في عدد من أعمالك تُظهِر التاريخ غير المكتوب. فإلى أي مدى يساهم ذلك في إظهار التاريخ الحقيقي الذي قد يختفي مع الأيام؟
لا يتوافق التاريخ الرسمي المكرس مع التاريخ الحقيقي دائما، بل غالبا ما يكون العكس، أو على الأقل، غالبا ما يكون افتقار التاريخ الحقيقي لقدرٍ أكبر أو أكبر من "الحقيقي". هنا يأتي دور التاريخ غير الرسمي، التاريخ الشعبي، ومنه ما هو شفاهي. وهنا ينابيع فوّارة وثرة للرواية وللحقيقة وللخيال. منها ما ينقّي التاريخ "الحقيقي" من خطله، ومنها ما يملأ فجواته. وقد سعيت منذ البداية خلف ما تدعينه "التاريخ غير المكتوب". ولاحظي هنا أن هذا التاريخ لا يعني أنه كان وكان، بل قد يجري الآن. وهذا ما لعله جاء في روايتي "المسلّة" التي راهنت على ما يقوله الجنود والضباط بشكل غير رسمي في شهادات شفوية، أجل، غير مكتوبة، وهذا ما توفّر لي أثناء أدائي للخدمة العسكرية، حين كُلفت جمع شهادات رهط من المقاتلين، ولولا تاريخهم غير المكتوب لما كانت رواية "المسلّة"، ولما كانت الصورة المختلفة التي قدمتها عن حرب 1973.
وتلك هي رواية "أطياف العرش" (1995) التي عادت إلى عقود الاستعمار الفرنسي لسوريا وظهور حركة دينية رُمي مؤسسها بالتأله، وهو ما لا يزال "التاريخ الحقيقي" لهذه الحركة غامضا، بل وظالما في تسييسه للأمر وتزويره والاجتزاء منه. أما "أطياف العرش" فقد مضت، على العكس، إلى ينابيع الشفاهي. وطالما دعوت إلى التمثل الروائي لما في التراث الديني الشعبي المكتوب والشفاهي.
ما الروايات التي شعرت أنها شكلت منعطفا في تاريخك الأدبي؟
أخشى أن أبدو هنا كثير الانعطافات. سأعود إلى "ثلج الصيف" (1973) التي جرّبت تقنية تعدد الأصوات، والتي لم يكن قد سبقها، كما كتب الروائي المصري الراحل سليمان فياض، إلا روايته "أصوات" (1972) وقبل روايته وروايتي كانت لنجيب محفوظ "ميرامار".
مع "ثلج الصيف" كان المنعطف هو التجريب الروائي في كتابة مختلفة، حديثة وحداثية. وفي "المسلة" كان منعطف آخر تمثل في ما راجت تسميته أخيرا بالتخييل الذاتي، حيث حمل راوي "المسلة" وشخصيتها المحورية اسمي الأول (نبيل)، وكان قد سبقني فقط غالب هلسا في روايته "الخماسين"، 1975، حيث حمل الراوي اسمه الأول غالب، وهذا ما سيلي في رواياته.
مع "مدارات الشرق" جاء المنعطف الذي أعنونه بلذة القراءة والكتابة التي لا تعادلها لذة، كما أعنونه بالحفر الروائي في التاريخ. وحين جاءت رواية "سمر الليالي" (2000) كان المنعطف هو أن أكتب رواية كلها من وعلى وعن المرأة، عبر شخصيات الرواية من الشابات السوريات السجينات السياسيات اليمينيات واليساريات والجنائيات، في الثمانينات السورية من القرن الماضي. وقد عاد منعطف التجريب بخاصة قبل ذلك في رواية "مجاز العشق" (1998) عبر كتابة رواية تخلو من علامات الترقيم إلا في نهاية الفقرات، حيث الرهان هو على انفتاح القول الروائي. وقد غامرت هذه الرواية بنبوءة حرب المياه المقبلة التي لا ريب فيها، حرب النفط الأبيض، بعد حروب النفط الأسود.
وأسرع أخيرا إلى أحدث رواياتي "تحولات الإنسان الذهبي" (2022) وما غامرت فيها في أسئلة الوجود: الكائن، الكيان، الإنسان والحيوان، الطبيعة، وذلك في غمرة الزلزلة السياسية والاجتماعية والروحية التي نعيشها وتعيشها البشرية.
أعمال لجنة "بوكر" اتسمت بالسلاسة والإجماع وكل ما يتردّد سوى ذلك هباء منثور
لك غير الرواية ما يقرب من سبعة وثلاثين كتابا، غالبيتها في النقد الأدبي، ابتداء من "النقد الأدبي في سوريا"، لماذا؟
لأسرعْ إلى القول الذي قلته مرارا: ما كتبت كلمة في النقد إلا لأتبصّر في المشهد الروائي، وأفيد من ذلك في كتابة الرواية، وقد بلغت الحصيلة ثلاثين كتابا، فيا للهول. وعن كتاب "النقد الأدبي في سوريا" الذي صدر عام 1980، لعله كان رائدا في نقد النقد. وقد أردفته عام 1983 بكتاب "مساهمة في نقد النقد". كما ثلّثته بكتاب "المتن المثلث" عام 1999.
أما الكتابة في الشأن العام، فقد ابتدأت بالكتاب الذي يدرس الأيديولوجيا التي تبثّها الدولة عبر التعليم، وكان ذلك في كتابي الذي لا يزال نادر المثال، "النسوية في الكتاب المدرسي السوري" (1977). وقد كتبت العديد من المقالات في الشأن العام بعد ما حدث في سوريا عام 2011، وكان من ذلك كتابان أعتزّ بهما، الأول هو "طغيانياذا: حفريات في التاريخ الثقافي للاستبداد"، والثاني هو "في التباب ونقضه".
هل ستكتب مذكراتك؟
لا أظن أنني سأفعل لأكثر من سبب. ففي رواياتي السيرية التي ذكرتها سابقا، والتي لم أذكرها أيضا، جاء من حياتي ما جاء. وكتابة المذكرات تذكرني باقتراب الموت أو اقتراب نضب الكتابة، وأنا بعيد عنهما حتى لو تفضل الموت بزيارتي غدا صباحا.
ترأست لجنة التحكيم للجائزة العالمية للرواية العربية دورة 2024، فما طبيعة التحديات التي واجهتكم؟
كان التحدي الأكبر هو قراءة وتحليل 134 رواية خلال ستة أشهر لنصل إلى القائمة الطويلة. وتواصل التحدي بإعادة قراءة هذه القائمة. ما عدا ذلك لم يكن ثمة غير الحوار والتفاعل القائمين على درجة عالية من الخبرة النقدية، وعلى أعلى درجة من النزاهة والاستقلالية، وهذا ما وسم أعمال اللجنة بالسلاسة والإجماع، وكل ما يتردّد سوى ذلك هباء منثور.