"البداية" المقصودة في كتاب ”مدينة البدايات... الحداثة الشعرية في بيروت“ الصادر عن جامعة برنستون، التي يتحدث عنها الناقد الأميركي روبِن كريسويل الأستاذ في جامعة ييل الأميركية، هي انطلاق حركة الحداثة الشعرية في بيروت مع مجلة “شعر” بخاصة، وبعدها مع مجلة “مواقف”. والكتاب صدر مؤخرا باللغة العربية عن ”دار التكوين“ بدمشق، بترجمة عالية قام بها عابد إسماعيل، الشاعر والناقد وأستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق.
لكن اهتمام الكتاب يتمحور، في مُعظمه، حول مجلة “شعر”. طبعا نلتقي في الكتاب ببعض الأحكام المبنية على مواقف لم تكن متعاطفة، في ذلك الوقت المبكر، مع حركة الحداثة الشعرية كما انطلقت مع مجلة “شعر” وأقطابها وتواصلت مع مجلة “مواقف”. غير أن هذا يمنح الكتاب حيوية ويسهم في تصوير أجواء السجال وما واجه تلك الحركة من اعتراض.
ومع أن كريسويل يتوسع في تقديم النقد الذي واجه هذا الشعر، فإنه لم يغفل عن تقديم مواقف الدارسين الإيجابيين، ولا سيما الشعراء المجددين الذين خاضوا السجال أو وضعوا كتبا للدفاع عن حركة الحداثة، بينهم أدونيس، وأنسي الحاج.
بينت مواقف الحداثيين وأعمالُهم الطليعية أن غاية التجديد في الشعر هي إطلاق النزعات الإبداعية، ودعم الغنى الثقافي، بل إبراز حيوية اللغة العربية
غير أن القارئ يخرج بانطباعات متفاوتة سلبية وإيجابية، مبنية على أحكام وتقويمات ليست دائما دقيقة. لكن أهمية الكتاب في إدخال القارئ إلى ذلك المناخ الحيوي بل المتأجج الذي شمل الأوساط الثقافية، وإلى أجواء السجال الذي أحاط بحركة الشعر الجديد، وعدد من المنطَلَقات والقضايا التي أُثيرَت في مواكبة ذلك الحدث الثقافي التاريخي المهم. وذلك لاعتبار الشعر، في شكله الموروث، من عمد الهوية الثقافية العربية.
الواقع أن ذلك السجال كان جزءا من حركة تاريخية واسعة متنوعة تتمحور حول تيارات التجديد والتطور الثقافي إجمالا في مختلف الحقول، ولا سيما ما اتصل بـ"الثوابت" وفي مقدمتها الشعر واللغة وصولا إلى الفن التشكيلي الذي أثار بدوره موجة من السجال.
وكانت الفنانة المُجَددة سلوى روضة شقير (والتي استعملت إحدى تصاميمها غلافا لكتاب كريسويل) من طلائع المجددين، بل واحدة من عمد السجال حول حداثة الفن التشكيلي.
لقد أفاد السجال المذكور حول الشعر في تحريك المواقف المعارضة لكل تجديد. كما أفادت الردود، في الوقت نفسه، في إضاءة معنى التجديد والغاية منه، وإطلاق النزعات الإبداعية ودعم الغنى الثقافي، بل إبراز حيوية اللغة العربية وغنى الموروث العربي. فكان ذلك، مع الوقت، تبرئة تدريجية من تهمة تقليد الغرب وتخريب التراث العربي. وكانت ثمارُه أعمالا شعرية ترقى إلى مستوى الشعر العظيم في التاريخ وفي العالم.
وبينت مواقف الحداثيين وأعمالُهم الطليعية أن غاية التجديد في الشعر هي إطلاق النزعات الإبداعية، ودعم الغنى الثقافي، بل إبراز حيوية اللغة العربية.
كتاب "مدينة البدايات" يضيء تلك المرحلة المدهشة في مسار التطور الفكري والجمالي في محور بالغ الأهمية من محاور الثقافة العربية، أعني الشعر
وهذا ما فتح الأفق لمختلف التجارب وأثمر ذلك المناخ البيروتي في الستينات، في ميادين متنوعة لم تقتصر على الشعر. وبيّن أن كل خروج على الشكل الموروث وكل مساءلة للقيَم الراسخة هو بحث مشروع وغنى، وأن قيمته في مستواه الإبداعي الفني وفي جديته ومضمونه، وليس في درجة اتباعه للقديم أو اختلافه عنه.
ولعل الأسلوب أو المَسار الذي اتبِع في تقديم المشروع الجديد والحركة التي يحتضنها، هو ما يتوجب الوقوف إزاءه: فقد كانت اجتماعات المجلة مفتوحة لمن يرغب في الحضور من المثقفين المعنيين. وكانت الاعتراضات في الأوساط الثقافية العربية على الشعر الجديد تنتقل إلى بيروت، والجدي منها يُناقَش في إجتماعات الخميس وهذا ما أثمر حيوية بل حركة فكرية يتواجه فيها أنصار القديم مع المجددين ودعاة التجديد.
هذا الكتاب "مدينة البدايات" يضيء تلك المرحلة المدهشة في مسار التطور الفكري والجمالي في محور بالغ الأهمية من محاور الثقافة العربية، أعني الشعر.