بيتر برينغل يستعين بجلجامش ليتخطى حدود الزمان والمكان

الخروج من ثنائية الشرق والغرب

برينغل خلال إحدى المقطوعات

بيتر برينغل يستعين بجلجامش ليتخطى حدود الزمان والمكان

لا يمكن أن نصف بدقة المشاعر التي يثيرها سماع مقطوعة موسيقية، غير أن هناك سحرا يتولد عن ذلك يغيرنا من الداخل. فحين تعلو الألحان ونستسلم للإيقاع والإيحاء، كما يقول الناقد الموسيقي ماكس غراف في كتابه الرائد "من بيتهوفن إلى شوستاكوفيتش" الصادر في 1916، لا نتساءل كيف نشأت هذه الموسيقى ومن أية ينابيع انبجست بل نستسلم لتأثيرات تفصلنا عن الواقع وتقودنا إلى عالم يختلف عن عالمنا، ونشعر أن وجودنا كله يسمو وقوانا الحسية تدعم وشخصيتنا تتحول.

قد يحدث هذا حين نسمع سمفونية لبيتهوفن أو موتزارت أو شوبان، غير أن الأمر يتجاوز ذلك ونحن نصغي إلى الموسيقار الكندي بيتر برينغل (Peter Pringle)وهو يؤدي مقاطع من ملحمة جلجامش بلغتها الأصلية، ثم باللغة الأكادية، على إيقاع آلة موسيقية سومرية أو آلة أخرى من سلالتها أو قريبة منها، ذلك أن هـذا الأداء الإبداعي، علاوة على تأثيراته الجمالية، يأخذنا في رحلة ثقافية عظيمة لا مثيل لها في ماضي منطقتنا الإبداعي تؤكد لنا من جديد أنه لا يمضي، بل يبقى معنا في نبض اللحظة الحية.

سحر الأسئلة المؤرقة

تخطى المغني والموسيقي الكندي حدود ثقافته الغربية كي يسترجع أجواء ملحمة جلجامش من طريق الموسيقى والغناء، مثيرا بذلك سحر الأسئلة المؤرقة التي لا جواب عنها، والتي نتحايل عليها بطقوس تنتمي إلى اللحظة، كأننا نحن، وليس جلجامش، من استمع إلى كلام صاحبة الحانة سيدوري، بأن الخلود هو أن نأكل جيدا ونشرب جيدا ونلبس جيدا ونعشق جيدا، أي أن نستهلك جيدا بلغة العصر الحديث إلى أن تحين ساعتنا.

عاد برينغل إلى المصادر القديمة وإلى علماء الآثار كي يتفرد في إبداع مقطوعات موسيقية وغنائية تخطت حدود المكان والزمان

أسمعنا برينغل في المقطوعات التي حملها على "يوتيوب" شعر الملحمة باللغة الأصلية بصوته الجميل الذي بدا آتيا من خرائب أور وبابل ونينوى واقفا على أطلالها مغنيا مجدا لا يزول، مؤكدا أن الخيال يتجاوز الزمن، وهو محق في هذا. فسماع الأداء الساحر باللغة السومرية أو الأكادية على إيقاع العود السومري أو القيثارة أو آلة النفخ التي تدعى "الزرنة"، سفر عبر الأزمنة والأمكنة يثير أسئلة حول الحياة وما وراءها، وهذا ما منح ملحمة جلجامش حضورا فريدا في لغات العالم كلها كأعظم نص أدبي في تاريخ الأدب.

تألم جلجامش وناح على موت صديقه وانتبه إلى تفاصيل الفناء كأن موته نبهه إلى وجود الموت لأول مرة، على الرغم من أنه قتل كثيرين، وحين لمس قلب إنكيدو الذي لم يعد ينبض، لم يصدق من هول الصدمة. قرّر لاحقا هجر كل شيء، خاصة منصبه كملك والانطلاق في رحلة بحث عن عشبة الخلود، ذلك أن هناك من استثنتهم الآلهة من الزوال، مما يعني أن لديه فرصة للنجاة.

اكتسب حداد جلجامش بعدا غير مسبوق في التجربة البشرية، إذ سرعان ما ارتقى حضاريا وثقافيا بعدما هدم مفهوم الحداد في سياقه الأسطوري وحوّله إلى فعل معرفي هاجسه البحث عن الخلود. وهذا أعمق أنواع الحداد وأرقاها، ذلك أن الحداد في أشكاله السائدة لدى الأديان والثقافات المختلفة انتقامي وهمجي في بعض الأحيان، إذ قد يتجاوز الانتقام الناجم عنه أية وحشية يمكن تصورها وخاصة إذا حدث قتل.

ريلكه وجلجامش

كان أول من احتفى بملحمة جلجامش بين شعراء العالم الكبار هو الألماني راينر ماريا ريلكه الذي كتب في 1916 قائلا إنه تعمّق في قراءتها واكتشف أنها من أعظم الأعمال الأدبية التي يمكن أن يبدعها فن الكلمة. لفتت هذه الملحمة انتباه موسيقيين عرب أيضا، فقد قام على سبيل المثل الموسيقار السوري عابد عازرية بتلحين وغناء الملحمة في 1977 وكان أول فنان عربي تخصص في التلحين والأداء الميثولوجي، ولاحقا قدم عازف الكلارينيت السوري كنان العظمة هو والفنان التشكيلي كيفورك مراد عرضا موسيقيا تشكيليا للملحمة في دمشق في 2010، وبعد ذلك في دبي. كان عرضا موسيقيا تشكيليا قدم مادته البصرية بالرسم الحي الفنان التشكيلي كيفورك مراد على أنغام كلارينيت العظمة، إلا أن بيتر برينغل أدّى أقساما من الملحمة باللغة الأصلية المشحونة بطاقة عاطفية وشعرية أعادتنا إلى زمن اللغة نفسها (رغم الغموض التاريخي الـذي أحاط بها وبلفظها) على إيقاع العود السومري ذي العنق الطويل.

GettyImages
راينر ماريا ريلكه

أدى برينغل ثلاث مقطوعات، الأولى من بداية الملحمة والثانية عن العلاقة بين إنكيدو والمرأة شمخة، والثالثة هي نواح جلجامش على صديقه بعد موته. في المقطوعة التي تحمل اسم "ملحمة جلجامش باللغة السومرية" يغني برينغل بعض السطور الافتتاحية من الملحمة باللغة السومرية مصحوبة بأنغام عود سومري ذي عنق طويل ثلاثي الوتر يدعى "الجيشغودي"، الذي يشبه السيتار والتار والساز. جاءت المقطوعة الثانية بعنوان "إنكيدو والمرأة شمخة"، واستخدم برينغل فيها آلتين موسيقيتين من الأناضول هما الآلة التركية ذات العنق الطويل التي تدعى الساز وآلة النفخ ذات القصبتين المزدوجتين التي تدعى "الزرنة". المقطوعة الثالثة التي عزفها وغناها هي الموسومة "نواح جلجامش على إنكيدو"، وهي اللوح الثامن من الملحمة، وساعده مترجم الملحمة إلى الإنكليزية أندرو جورج في النطق البابلي القديم. استخدم في هذه المقطوعة آلتين موسيقيتين هما السيتار الفارسي والزرنة، لأن السيتار هو الأقرب إلى الآلات الموسيقية البابلية، ذلك أنه، بحسب برينغل، قادر على تشغيل مجموعة واسعة من النغمات الربعية، إلا أن البابليين لم يستخدموا ذلك كما يقول وهو غير متأكد من هذه المسألة. استخدم أيضا آلة النفخ، الزرنة، وهي نسخة عن الآلة ذات الأنبوبين الفضيين التي اكتشفها عالم الآثار السير ليونارد وولي أثناء تنقيبه في أور. ويشبه صوت هذه الآلة صوت آلة "الدودوك"، أو ما يسمى بالمزمار الأرمني، كذلك "الشهناي"، آلة النفخ الهندية، و"الديدجيريدو"، آلة النفخ الأوسترالية التي يعزف عليها بالتقنية المعروفة باسم "التنفس الدائري"، لإنتاج نغمة متواصلة لا انقطاع فيها.

مصادر قديمة

يتمتع العود السومري الذي استخدمه برينغل بخصائص التار والسيتار والساز، ولقد كانت هذه الآلات الموسيقية القديمة، وبينها النفير الفرعوني، تتميز باستخدام أوتار مصنوعة من أمعاء الحيوان وقدمت نغما أكثر جودة من أنغام الآلات المنحدرة منها ذات الأوتار الفولاذية أو البلاستيكية. ويقول برينغل إن العود ذا العنق القصير يقدم الصوت المعاصر الأقرب إلى العود السومري إلا أنه يختلف في تصميمه وطول وتره.

 عاد برينغل إلى المصادر القديمة وإلى علماء الآثار كي يتفرد في إبداع مقطوعات موسيقية وغنائية تخطت حدود المكان والزمان، ذلك أن عزفه وغناءه مقاطع من الملحمة يجسدان خروجا من الدائرة الموسيقية الغربية والشرقية نحو كونية الموسيقى وخروجا على حدود المرحلة الزمنية بالسفر إلى الزمن السومري، ولقد نجح في نقلنا إلى أجواء سحرية عشنا من خلالها عظمة ذلك الزمن إبداعيا. وتبدو في خلفية المقطوعة الأولى ساحة قصر نبوخذ نصر في بابل مما منح الموسيقى والكلمات سياقا يذكّر بالأيام العظيمة للملحمة التي تعد أول نص أدبي في العالم سبق الملاحم اليونانية.

GettyImages
تمثال من المرمر الطباشيري لجلجامش ملك أوروك

فيما أنت تسمع الأداء الجميل للمغني الكندي، يتحرك في ذهنك شريط سينمائي لجلجامش وصديقه إنكيدو ورحلتهما إلى غابة الأرز وصراعهما مع خمبابا حارسها وقتل الثور السماوي ومن ثم مرض إنكيدو وحلمه الثاني عن الموت حيث لبس ثيابا مريشة وجلس وحيدا في الظلام (كما يحدث للموتى عند السومريين) وآلامه المبرحة لاثني عشر يوما وموته وحداد جلجامش وبداية الأسئلة حول الحياة والموت والرحلة المحفوفة بالأخطار بحثا عن عشبة الخلود، وكل هذا في دقائق إبداعية فريدة تتوحد فيها اللغة السومرية والأكادية مع ألحان العود السومري والقيثارة وآلات موسيقية أخرى مشابهة للتي كان يعزف عليها الموسيقيون السومريون مما خلق جوا موسيقيا- شعريا يؤكد ما قاله برينغل بأن الفن يتجاوز الزمن ولا يتحقب به.

يتفرّد بيتر برينغل بأداء باللغة الأصلية ترافقه ألحان آلات صممت لتحاكي الآلات القديمة أو آلات أخرى مشابهة لها أو قريبة منها في خلفية تضع الموسيقي في جو قريب من سياقها

لم يقصر بيتر برينغل أداءه على ملحمة جلجامش فقد أدى عددا من الأغاني العظيمة التي جعلها على "يوتيوب"، حملت إحداها اسم "أقدم أغنية في العالم"، وهي ترنيمة لإلهة القمر الحورية نيكال، التي تعد من أقدم المقطوعات الموسيقية التي بقيت كلمات الأغنية المرافقة لها مكتوبة على ألواح فخارية منذ 3500 سنة واكتشفها علماء الآثار في خرائب مدينة أوغاريت على الساحل السوري. أدى برينغل الأغنية، التي كتبت بالمسمارية منذ خمسة آلاف سنة، على أنغام قيثارة وناي قصبي مزدوج، كما أدى أغنية "تمجيد إنانا"، وخاصة السطور الأولى الاثني عشر ورتلها باللغة السومرية على أنغام نسخة طبق الأصل من القيثارة الذهبية المذهلة لمدينة أور التي اكتشفها في عشرينات القرن الماضي عالم الآثار البريطاني السير ليونارد وولي هو وزوجته كاثرين وولي، كما أدى مقطوعة "عاصفة إنكي" بالسومرية، مستخدما العود السومري و"الزرنة" بخلفية من جدران ساحة داخلية في بابل. إنكي هو إله المياه، وغالبا ما صوّر بنهرين يتدفقان من كتفيه هما على الأرجح دجلة والفرات ولقد علق بيتر برينغل على أدائه المقطوعة قائلا إن موسيقى السومريين كانت مجهولة بالنسبة للجميع لكننا نعرف شيئا عن الآلات التي استخدموها، و"ما فعلته في هذا الفيديو هو أنني استخدمت الآلات الموسيقية التي كان يستخدمها العازفون السومريون ثم قام خيالي بما تبقى". أدى برينغل باللغة السومرية أيضا أغنية "إغواء الإلهة إنانا"، التي بقيت كلماتها مكتوبة بالمسمارية على الألواح الطينية منذ خمسة آلاف سنة واستخدم فيها العود السومري والزرنة مع خلفية لصور الزقورات من مدينة سامراء العراقية.

YouTube
بيتر برينغل خلال إحدى المقطوعات

اللغة الأصلية

يتفرّد بيتر برينغل بأداء في اللغة الأصلية ترافقه ألحان آلات صممت لتحاكي الآلات القديمة أو آلات أخرى مشابهة لها أو قريبة منها في خلفية تضع الموسيقي في جو قريب من سياقها. يبدو برينغل وهو يعزف هذه المقطوعات كأنه يتنقل بين الأزمنة، متخطيا الحدود بين الثقافات واللغات مؤكدا أن الإبداع كوني في جوهره وهو مكسب للإنسانية جمعاء وأنه يملك القدرة على إحياء ما هو ميت ومنسي وشحنه بالحياة كأن هذه الحركة الفنية هي ثورة متواصلة ضد العدم الذي لم يتمكن من محو إبداعات أور وأوغاريت وبابل وغيرها من المدن القديمة، ذلك أن الذاكرة البشرية حية وهناك دوما من يوقد جمارها ليحرس اللهب المقدس وهذا ما فعله بيتر برينغل بأصالة موسيقية وغنائية قل نظيرها في هذا الزمن، فالغناء الذي يؤديه عودة إلى تلك الوحدة التي لا تنفصم عراها بين الغناء والشعر والموسيقى، وهذه كلها لم تنفصل عن فن النحت العظيم الذي تميزت به حضاراتنا القديمة.

font change

مقالات ذات صلة