"معارك خفية" بين الحقيقة والتضليل على "التواصل الإجتماعي"

المعلومات الكاذبة تهدد الديمقراطية وصحة المجتمعات من كوفيد الى الانتخابات الأميركية

Shutterstock
Shutterstock
وسائل التواصل الاجتماعي منبع المعلومات المضللة

"معارك خفية" بين الحقيقة والتضليل على "التواصل الإجتماعي"

كان العالم متخبطا في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الكوكب. فالدول يضربها وباء لا يرحم، والملايين يُصابون بالفيروس الذي ينتشر كالنار في الهشيم. وسط ذلك الاضطراب، وقف الرئيس الأميركي وقتذاك، دونالد ترمب، أمام جمع من الصحافيين، مطالبا فرقة العمل المعنية بفيروس "كوفيد-19" المستجد في البيت الأبيض، التحقق في ما إذا كان من الممكن حقن المصابين بـ"مطهرات"... بالغ بعض المغردين على موقع "تويتر" آنذاك ("أكس" حاليا) وقالوا إن شرب المبيض -وهو مادة كيميائية تُستخدم في عمليات التطهير- يمكن أن يساعد في القضاء على الفيروس.

مثل الفيروس، انتشرت تغريدات هي الأخرى كالنار في الهشيم، مما دعا السلطات الصحية إلى إصدار مجموعات متتالية من البيانات تحذر فيها من مغبة تلك الأفعال. بعد أسابيع قليلة، وضعت مواقع التواصل الاجتماعي قواعد لمنع انتشار تلك المعلومات المضللة.

لكن، ماذا عن المعلومات الحقيقية التي تُجتزأ من سياقها، وتضلل الجمهور؟

"المشاركون الفائقو التأثير"، وهم مجموعة صغيرة ولكنها قوية من الأفراد، يغرقون المنصات بمعلومات مضللة وكاذبة، مما يؤدي إلى تشويه المناقشات السياسية وتشكيل الرأي العام

في بحثين منفصلين نُشرا في دورية "ساينس" المرموقة، حاول الباحثون تقييم مدى تأثير تلك المعلومات الصحيحة، ولكن المضللة في الآن ذاته، على سلوك الجماهير في مناسبتين كبيرتين، وباء "كوفيد-19"، وانتخابات الرئاسة الأميركية.

"كوفيد-19": بين الحقيقة والتضليل

تقول الدراسة الأولى إنه، وفي الأشهر الأولى من عام 2021، عندما أصبحت لقاحات "كوفيد-19" متاحة على نطاق واسع، كانت هنا معركة صامتة تدور رحاها على الإنترنت ــ معركة بين الحقيقة والمعلومات المضللة. أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا الـ"فايسبوك"، ساحات قتال يتم فيها تشكيل الرأي العام، بطرق خفية وغير متوقعة في كثير من الأحيان.

غيتي
صورة نشرها مركز العلوم وهندسة النظم (CSSE) في موقع جامعة "جونز هوبكنز" لأعداد إصابات "كوفيد" في أميركا على شاشة هاتف وفي الخلفية خريطة لنسب الإصابات في كل ولاية، 15 يناير 2021.

في تلك الدراسة، حاول المؤلفون المشاركون الإجابة عن تساؤل مهم: ما الذي يهدد الصحة العامة أكثر، منشور كاذب متعمد على "فايسبوك" حول تتبع الرقائق الدقيقة في لقاح "كوفيد-19" تم تصنيفه على أنه معلومات مضللة، أو مقال واقعي عن الحالة النادرة لشخص شاب يتمتع بصحة جيدة توفي بعد تلقي اللقاح؟

شرع الباحثون في مهمة لفهم كيفية تأثير المعلومات الخاطئة على التردد في تناول اللقاح. ومن خلال سلسلة من تجارب المسح، اكتشفوا حقيقة مدهشة: لم تكن الأكاذيب الصارخة فقط هي التي جعلت الناس يترددون في شأن اللقاحات. بل بالعكس، كان العامل الأكثر أهمية هو مدى ما تنطوي عليه القصة من حقائق تشرح بشكل مغلوط أخطارا صحية مرتبطة بالتلقيح.

إقرأ أيضا: غوردون براون يكتب لـ "المجلة": آن الأوان لإبرام اتفاق عالمي لمواجهة الوباء

في تجربتهم الأولى، وجد الباحثون أن المعلومات الخاطئة التي تحتوي على ادعاءات كاذبة عن لقاح "كوفيد-19" أدت إلى انخفاض كبير في نيات التلقيح. وسواء أكانت القصة صحيحة أم كاذبة، في إشارتها إلى خطورة اللقاح، كان الناس أقل ميلاً إلى الحصول على اللقاح.

المعركة ضد المعلومات المضللة، لا تتعلق فقط بمحاربة الأكاذيب، بل أيضا بتعزيز صدقية الصحافة الدقيقة والمسؤولة

دنكان جيه واتس، أستاذ علوم الكومبيوتر والمعلومات في جامعة "ستيفنز"

وقد عززت التجربة الثانية هذه النتيجة. كان لكل من الادعاءات الصحيحة والكاذبة التي تشير إلى أن اللقاح ضار، تأثير مماثل على خفض نيان التلقيح. يشير هذا إلى أن إدراك الأخطار كان دافعا قويا للتردد في اللقاح.

في تلك الدراسة، جمع الباحثون بين التجارب الخاضعة للتحكم، والتعلم الآلي وتحليل بيانات وسائل التواصل الاجتماعي لنحو 2,7 مليار مشاهدة لعناوين أخبار ذات صلة باللقاحات على موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" أثناء طرح أول لقاح لـ"كوفيد-19" في بداية عام 2021.

إقرأ أيضا: "المحتوى الاصطناعي" والنظام المالي

على عكس الادعاءات أن المعلومات الخاطئة لا تؤثر على الخيارات، تؤكد الدراسة أن التعرض لجزء واحد من المعلومات الخاطئة عن اللقاح قلل نيات التلقيح بنسبة 1,5 نقطة مئوية تقريبا. الجدير بالملاحظة بشكل خاص، أنه عند التنبؤ بمدى تأثير المعلومات الخاطئة على نيات التلقيح، فإن الأمر الأكثر أهمية لم يكن صحة المقالة، بل مدى ادعاء المقالة أن اللقاحات ضارة بصحة الناس.

أحد الأمثلة الرئيسة على هذا المحتوى الحقيقي ولكن المضلل، كان العنوان التالي في صحيفة "شيكاغو تريبيون": "توفي طبيب 'بصحة جيدة' بعد أسبوعين من حصوله على لقاح  'كوفيد-19'، يقوم مركز السيطرة على الأمراض بالتحقيق في السبب".

هذا العنوان -الذي تصفه الدراسة بالمضلل- كونه يشير بشكل خاطئ إلى العلاقة السببية. أي لم يكن هناك دليل على أن اللقاح كان له أي علاقة بوفاة الطبيب. ومع ذلك، فقد شاهد هذا العنوان ما يقرب من 55 مليون شخص على "فايسبوك"، وهو ما يزيد على ستة أضعاف حجم التعرض لكل المعلومات الخاطئة التي تم التحقق منها.

أثبت البحث العلمي الحاجة إلى اتباع نهج أكثر شمولية لمكافحة المعلومات الخاطئة. وكذلك معالجة محتوى "المنطقة الرمادية" التي تعني قصص حقيقية ولكنها مضللة

لفهم التأثير الأوسع، استخدم الباحثون الذكاء الاصطناعي لتحليل 13206 عناوين لموضوعات ذات صلة باللقاحات على "فايسبوك". ووجدوا أن المعلومات الخاطئة التي أبلغ عنها أدت بالفعل إلى تقليل نيات التلقيح بشكل أكبر عند رؤيتها، كما تنبأت نماذجهم. لكن الحجم الهائل للمحتوى غير الموسوم، أي الذي لا تضع عليه وسائل التواصل الاجتماعي إشارة على أنه مضلل- كان له تأثير أكبر بكثير.

هيمنة التضليل على الرأي العام

وقدر الباحثون أن المحتوى الذي لم يتم الإبلاغ عنه والذي يشكك في اللقاحات أدى إلى خفض معدلات التلقيح بنسبة 2,28 نقطة مئوية لكل مستخدم "فايسبوك" في الولايات المتحدة، مقارنة بـ 0,05 نقطة مئوية فقط للمعلومات الخاطئة التي تم الإبلاغ عنها. كان هذا الفارق البالغ 46 ضعفا، مذهلا. وبالتالي، فإن التعرض الأكبر للمحتوى الذي لم يتم الإبلاغ عنه، جعله القوة المهيمنة في تشكيل الرأي العام.

يقول دنكان جيه واتس، أستاذ علوم الكومبيوتر والمعلومات في جامعة ستيفنز في كلية الهندسة والعلوم التطبيقية، ومدير مختبر العلوم الاجتماعية الحاسوبية، في تصريحات خاصة لـ"المجلة" إنه في حين أن المعلومات المضللة التي تم الإبلاغ عنها أدت إلى انخفاض نيات التلقيح، فإن معدلات التعرض المنخفضة تعني أنها لعبت دورا ثانويا في تحفيز التردد العام بشأن اللقاح. في المقابل، كان للمحتوى الحقيقي ولكن المضلل، والذي لم يتم الإبلاغ عنه من قبل مدققي الحقائق، تأثير أكبر بكثير بسبب انتشاره الواسع".

إقرأ أيضا: حظر "تيك توك" في أميركا لن يجعلها أكثر أمانا... بل العكس

ويسلط هذا البحث الضوء على الحاجة إلى اتباع نهج أكثر شمولية لمكافحة المعلومات الخاطئة. ففي حين كان من الأهمية بمكان الحد من انتشار الأكاذيب الصريحة، فمن المهم بالقدر نفسه معالجة محتوى "المنطقة الرمادية" التي تعني القصص الدقيقة من الناحية الواقعية ولكنها مضللة والتي يمكن أن تؤدي إلى تآكل ثقة الجمهور والتلاعب بهم في ما يتعلق باللقاحات.

حدد الباحثون 2107 ناخبين أميركيين مسجلين كانوا مسؤولين عن 80% من الأخبار الزائفة التي تمت مشاركتها على "أكس" من قبل لجنة مكونة من 664391 ناخبا

ويرى واتس أنه وفي النهاية، لم تكن المعركة ضد المعلومات المضللة تتعلق فقط بمحاربة الأكاذيب، بل أيضا بتعزيز الصحافة الدقيقة والمسؤولة، "فمع استمرار العالم في مواجهة تحديات الوباء، أصبح فهم الطرق الدقيقة التي تؤثر بها المعلومات على الرأي العام أكثر أهمية من أي وقت مضى".

الانتخابات الأميركية وأخبار "أكس" الزائفة

ركز البحث الثاني على الانتخابات في عالم وسائل التواصل الاجتماعي الشاسع والفوضوي، خصوصا على منصة "أكس"، الذي يمارس فيه جزء صغير من المستخدمين تأثيرا هائلا على انتشار المعلومات.

وتبين أنه خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، اتخذ هذا التأثير شكلا مثيرا للقلق لجهة نشر الأخبار الزائفة على نطاق واسع.

Shutterstock
خلال الانتخابات الأميركية 2020 ينتظر الناس الفائز بين دونالد ترمب أو جو بايدن.

وسط هذه الظاهرة، كان "المشاركون الفائقو التأثير"، وهم مجموعة صغيرة ولكنها قوية من الأفراد ممن ينتجون الكثير من المحتوى، أو يديرون المناقشات، أو يفرضونها، يغرقون المنصة بمعلومات مضللة وكاذبة، مما أدى إلى تشويه النقاش السياسي وتشكيل الرأي العام.

إقرأ أيضا: "أكس" منصة لأفكار اليمين المتطرف

حدد الباحثون 2107 ناخبين أميركيين مسجلين كانوا مسؤولين عن 80 في المئة من الأخبار الزائفة التي تمت مشاركتها على "أكس" من قبل لجنة مكونة من 664391 ناخبا.

هناك حاجة ماسة لمعالجة ليس فقط الأكاذيب الفادحة، بل أيضا المحتوى الحقيقي لكن المضلل الأكثر انتشارا لحماية الصحة العامة والديمقراطية

وكان لهذه النسبة الضئيلة البالغة 0,3 في المئة من الناخبين المستخدمين للمنصة، تأثير لا يتوافق مع عددهم، مما كشف عن ضعف كبير في العملية الديمقراطية حيث يمكن لعدد قليل من الأشخاص تشكيل الواقع السياسي للكثيرين.

Shutterstock

ورسمت الدراسة صورة ديموغرافية واضحة لهؤلاء المستخدمين الفائقي التأثير. كانت المشارِكات المتميزات في الغالب من النساء البيض في منتصف العمر، وجمهوريات إلى حد كبير، ويقمن في ثلاث ولايات محافظة: أريزونا، وفلوريدا، وتكساس. تعتبر هذه الولايات بمثابة نقاط محورية للقضايا السياسية المثيرة للجدال مثل الإجهاض والهجرة، مما يجعل وجود أصحاب المشاركات المؤثرة هناك جديرا بالملاحظة.

تهديد للديمقراطية

تنحدر تلك النساء من أحياء كانت ذات دخل مرتفع نسبيا ولكنها منخفضة في مستوى التحصيل العلمي. وعلى الرغم من طبيعة أنشطتهن التقنية والمستهلكة للوقت، فإن حجم الأخبار الزائفة التي أنتجنها لم يكن نتيجة للروبوتات الآلية. وبدلاً من ذلك، تم إنشاؤها من خلال إعادة التغريد اليدوية والمستمرة، مما يسلط الضوء على تفانيهن ومثابرتهن.

ولم يكن المشاركون الفائقو التأثير غزيري الإنتاج فحسب، بل كانوا مؤثرين أيضا. إذ وصل عددهم إلى 5,2 في المئة من الناخبين المسجلين على "أكس"، واندمجوا بعمق في شبكة الخطاب السياسي. 

يؤكد وجود وتأثير هذا النوع من المستخدمين في شبكات التواصل الاجتماعي على التحدي الكبير الذي يواجه منصات وسائل التواصل الاجتماعي وصانعي السياسات. فقدرة مجموعة صغيرة على تشويه المناقشات السياسية تشكل تهديداً للعملية الديمقراطية.

كما تسلط نتائج الدراسة الضوء على الحاجة إلى استراتيجيات فاعلة لتخفيف انتشار المعلومات الخاطئة. ولا يشمل ذلك معالجة المحتوى الزائف نفسه فحسب، بل يشمل أيضا فهم سلوكيات ودوافع أولئك الذين ينشرونه والتدخل فيه.

إن المعلومات المضللة تهدد العلوم والصحة العامة والديمقراطيات في كل أنحاء العالم، وغالبا ما يتم مزج بعض الحقائق بمعلومات تم التلاعب بها

ساندر ليدن، أستاذ قسم علم النفس في جامعة كامبريدج البريطانية

ومع استمرار تطور المشهد الرقمي، يقول الباحثون إن هناك حاجة ماسة لتطور التقنيات وفحص المعلومات على شبكات التواصل الاجتماعي لضمان سلامة المعلومات المشتركة على هذه المنصات. كما يؤكدون أنه يجب على صناع السياسات وشركات وسائل التواصل الاجتماعي العمل معا لتطوير حلول تعالج المحتوى والجهات الفاعلة التي تقف وراء انتشار الأخبار الزائفة.

في تعقيب على الدراستين، نشرته دورية "ساينس"، يقول ساندر ليدن الاستاذ في قسم علم النفس في جامعة كامبريدج البريطانية، إن المعلومات المضللة تهدد العلوم والصحة العامة والديمقراطيات في كل أنحاء العالم. لكن، وعلى الرغم من أن الخبراء يُعّرفون المعلومات الخاطئة بأنها محتوى كاذب أو مضلل، "إلا أنه غالبا ما يتم مزج بعض الحقائق بمعلومات تم التلاعب بها. وهذا التمييز أمر بالغ الأهمية ولكن كان من الصعب تقييمه".

ويرى ليدن أن المعلومات المضللة يُمكن أن تؤدي إلى مشاكل اجتماعية خطيرة، مثل رفض الانتخابات والتردد في اللقاحات. "يجادل بعض النقاد بأنه غالبا ما يكون هناك نقص في الأدلة السببية المباشرة التي توضح تأثير المعلومات الخاطئة في بيئات العالم الحقيقي. وعلى الرغم من ذلك، ليس من الأخلاقي ولا العملي تعريض نصف السكان لمعلومات مضللة لمعرفة ما إذا كانت ستغير سلوكياتهم".

ويضرب ليدن بعض الأمثلة التاريخية، مثل تلاعب صناعة التبغ بالرأي العام، والتي تسلط الضوء على الحاجة إلى التحرك حتى من دون وجود أدلة كاملة. وبالنظر إلى عدد مستخدمي "فايسبوك" البالغ مليارات حول العالم، فإن تقليل التعرض للمحتوى المضلل كان من الممكن أن يؤدي إلى تلقيح الملايين. وهذا يسلط الضوء على الحاجة الماسة لمعالجة ليس فقط الأكاذيب الفادحة ولكن أيضا المحتوى الحقيقي لكن المضلل الأكثر انتشارا، لحماية الصحة العامة والديمقراطية.

font change

مقالات ذات صلة