- في كتابك "تأملات في تحولات العالم" بجزأيه، شغلك السؤال الثقافي والتفكير في ما تتطلبه الثقافة من اشتراطات بنيوية وما يمور به المشهد العالمي من تغيرات وصراعات وتوجهات، هل نعود هنا إلى مقولة أحد الشعراء العرب أن داخل كل شاعر مفكرا؟
أسئلة الثقافة ظلت على الدوام أسئلة مؤسّسة في ثقافتنا العربية منذ فلسفات العصر العباسي والعهد الأندلسي، واستمرت حتى عصر النهضة الحديثة منذ بواكيره فصاعدا على الأقل، سواء لجهة اشتراطاتها البنيوية، أم حدود الوعي والفعل الثقافي العربي نفسه، ومحله من الإعراب في الثقافة والفكر العالميين. ولا شك أن التمازج والتواشج البنيوي بين الفكر، بحصر معنى الكلمة، والثقافة بعمومها، في حالتنا العربية المعاصرة، يجعلان أي اهتمام أو التزام بمقاربة الهمّ الثقافي، انخراطا بالتبعية في مقاربة قضايا الفكر قراءة وتنظيرا وفتحا لأفق التأمل واسعا في إشكالاته ومآلاته. وفي هذا المقام يغدو قابلا للفهم والتفهّم القول إن داخل كل شاعر مفكرا. ولكنْ مفكر بأي معنى؟ هنا ينفتح المجال لأكثر من رأي ورؤية ومقال.
فالشاعر صاحب المشروع الشعري هو بالضرورة مفكر، لجهة الالتزام الإبداعي والوجودي والانخراط العملي في مقاربة الواقع المعيش وتغيرات العالم وتحولاته التي يقاربها المفكرون. وأنا على قناعة تامة بأن الشعر فلسفة وجود وحياة، وبأن الشعراء فلاسفة خارج التصنيفات المدرسية الضيقة. ولذلك يتم الاعتماد على كثير من الفلاسفة الكبار في الإنتاج الإبداعي للشعراء، وقد يبدو هذا الملمح واضحا بشكل خاص لدى فلاسفة ما بعد الحداثة في فرنسا الذين فلسفوا الشعر وجعلوه أفقا مفتوحا للفلسفة الإنسانية ذاتها.
- استكمالا للعلاقة بين الشعر والفلاسفة، كيف تفكك لنا هذه العلاقة أو هذا التداخل، وكيف تسطر الحدود بينهما، بمعنى أين تطلَق الخيالات التي تنبع من الحواس وأين تُلجَم لينطلق العقل بالتفكير؟
في هذا المقام أعتقد أن علينا أن نتذكر أن بدايات الفلسفة والشعر في تاريخ الثقافة الإنسانية بدايات مشتبكة، وكتاب "فن الشعر" لأرسطو يضيء جوانب مهمة من علاقة الشعر بالفلسفة. وكذلك بحسب نظرية فيلسوف التاريخ جان باتيستا فيكو، فإن الشعر أسبق في الوجود من النثر، وأن الإنسان الأول حين موْسق اللغة خلق الأسطورة، ثم جاء النثر تاليا، أي العقل والحكمة، وهذا هو الطور الثاني لنشأة الفكر الإنساني. إذن هما متكاملان منذ البدء. وقد جمع كثيرون بين الفلسفة والشعر، فكتبوا الفلسفة بلغة الشعر وروحه وكتبوا الشعر بعمق الفلسفة. وفي ثقافتنا العربية هنالك شعراء فلاسفة كثر مثل أبي العلاء المعري وابن عربي وبعض المتصوفة وغيرهم، وفي الثقافة الغربية هنالك أيضا، على سبيل المثل لا الحصر، نيتشه وهايدغر، فالأول شعْرن الفلسفة والثاني فلسفَ الشعر.
فالفلسفة منطق برهاني معرفي بينما القصيدة لاعقلانية ولها منطقها الخاص بها، الذي يتشكل عبر تجربة ومعاني الوجود. فالشاعر عندما يكتب قصيدته لا يكتب نظرية برهانية. الشعر معني بعجين الحياة، أي بأنثروبولوجيا الوجود، وعندما يتحول هذا العجين إلى شعر يدخل مرحلة خيمياء اللغة والقصيد. إذن هنالك شعرية حياة، وهنا يكمن الفرق ما بين منطق الفلسفة وبرهانها وما بين خيال الشعر وأنطولوجيته اللغوية.
الشعر والعالم
- هل يمكن في نظرك تقسيم الشعر العربي اليوم على البلدان والأعلام الوطنية، أم أن لغته وبنيته وجمالياته تشب عن هذا الطوق وتتجاوز الخصوصيات السياسية والاجتماعية للبلدان العربية المختلفة، لتكون اللغة المشتركة هي وطن الشعر؟
قبل أيام ترجمت لي قصيدة ضمن مشروع إيثاكا الشعري العالمي إلى 39 لغة وبلغات بلدان لا تخطر على بال. وهذا يعني أن الشعر وطن إبداعي، وهو بهذا المعنى متجاوز للهويات، والثقافات والانتماءات. الشعر إنساني والإنساني كوني، يفهمه الكل، الشعر عابر للثقافات والهويات. الشعر هو صوت العالم وصداه، ولذلك فإن حدوده هي حدود العالم. وأعتقد أن في هذا إجابة على مقولة تقسيم الشعر على البلدان والأعلام الوطنية. فالشعر هو وطن الشعراء، وقد أكد لي هذا التكريم أن الشعر تجاوز الانتماءات والبلدان والحدود.
وكل هذا يدل على أهمية الشعر اليوم، وأنه لا يخضع لقوالب جاهزة ولا يدخل في تصنيفات أو صراعات عتيقة بين القديم والحديث لا طائل من ورائها، ولا تضيف شيئا. الشعر الإنساني يصل إلى كل الأوطان وكل الأكوان، وبكلمة واحدة فالشعر هو المتجاوز لكل شيء في الوجود، وخارج كل التعريفات والتصنيفات المتعارف عليها. الشعر يعرف ويصف نفسه بنفسه ويبقى السؤال الشعري واللحظة الشعرية دائما هما الأهم في النهاية.
- إلى أي مدى ترى أن المشهد الشعري اليوم بات متشابها حتى لدى التجارب الراسخة، إلى درجة أنه بات على الشعراء أن يجترحوا معجزات شعرية جديدة لينقذوا فرادة الشعر؟
نعم إلى حد ما، لكن ليس في كل التجارب الشعرية الكبرى في العالم العربي. إذ في جانب نعيش أصوليات شعرية متْحفية، مدعومة أحيانا ماليا وإعلاميا بشكل مخيف، وذات تأثير سلبي على الشباب من أصحاب تجارب الشعر الحديث، تجرنا إلى الوراء دائما ولا تريد أن تعترف بما حققه منجز تجارب الشعر العربي الحديث من قفزات وإنجازات وتطوير في اللغة والفكر الشعري عموما. والسبب في هذا التشابه هو الخلط ما بين النثر الشعري واشتراطات قصيدة النثر. فليس كل نثر شعري هو قصيدة نثر، والعكس صحيح.
ومع هذا لا أرى المشهد الشعري العربي اليوم قاتما ولا متشابها إلى هذا الحد، حتى لو أوحى أحيانا بذلك. فهناك أصوات ومستويات شعرية متباينة، وفي قصيدة النثر خاصة هنالك دائما آفاق إبداع لا حدود لها، لأنها تكتب على غير مثال سابق، ولأن المفردات المفاجئة والصور التوليدية هي روحها ومادتها، والمفاجأة هنا ليست بمعنى استدعاء معان ومفردات نادرة يبحث عنها في المعاجم، فالشاعر الحق أكبر من القواميس، لأنه هضم اللغة بكامل امتدادها التاريخي وتعدد مستوياتها وأداءاتها؛ بل هي مفاجئة بانخراطها في تجاوزات وعقد غير متوقعة، قادرة على تقريب المتنافر وتوليف المختلف بمهارة وتلقائية عاليتين. وكلما كبرت المسافة بين طرفَي الاستعارة أو الصورة كثرَ مبلغ التعجيب أو الإثارة الشعرية.
وقد نبّه الشاعر والناقد كاظم جهاد في مقدمته لديواني إلى بعض الفضاءات والمَدَيَات التي تتكشف عنها لغة قصيدة النثر، لجهة الخصائص الشكلية والمضمونية، مبرزا أن البداهة ليست نقيض التعمق، والسلاسة لا تشكل نفيا لمتانة العبارة ومهابتها، وأن الترميز البارع يمكن أن ينال بكلمات قريبة تفهم بلا لبس ولا معاضلة. فما معنى نص لا يفلح في إيصال مكنوناته إلى القارئ الحصيف؟
قصيدة النثر سهلة بسيطة شكلا، وعصية أبية على أشباه الشعراء مضمونا، وفي هذه البساطة المكتَنزة تحد صعب لغير الشعراء، فالشعرية الحقة هي قضية علاقة يقيمها الشاعر بين معان آتية من مختلف مستويات التجربة والتعبير، إنها مسألة كيمياء شعرية وتطويع للكلام، يمكن أن يتخذ أي شكل أو لون من فنون القول، وبعبارة أخرى، فالشاعر شخص يتصرف في اللغة بمختلف مستوياتها، فالشاعر هو اللغة، وبهذا المعنى يصير مثل عالم الآثار في بحثه عن القصيدة المتخفية أو الواضحة في الوجود.