الموصل... الإعمار الرمزي على حساب الإعمار الفعلي

قلق البقاء وتعثر السياسة

رويترز
رويترز
أطفال يلعبون كرة القدم بالقرب من المباني المدمرة مع استمرار أعمال إعادة الإعمار في الموصل

الموصل... الإعمار الرمزي على حساب الإعمار الفعلي

في الذكرى العاشرة لاحتلال تنظيم "داعش" الإرهابي لمدينة الموصل، تجولت "المجلة" في مختلف أحياء ومناطق المدينة، والتقت كثيرا من الناشطين وقادة الرأي من سكانها، محاولة كشف أوضاع المدينة راهنا، وما طرأ عليها من التحولات جراء ذلك، وما بقي من آثارها النفسية والديموغرافية والسياسية والاقتصادية في الحياة العامة.

في "حي الساعة"، مركز الساحل الأيمن من المدينة، والذي كان منطقة تاريخية لمسيحيي المدينة، من مختلف القوميات والطوائف، حاولت "المجلة" مقابلة بعضهم، لكنها فشلت في العثور على أي منهم، باستثناء بعض رجال الدين ورهبان الكنائس الخمس ضمن الحي. سكان المنطقة أشاروا إلى الشوارع والأسواق التجارية التي كانت مسكونة من مسيحيي المدينة قبل احتلال المدينة، لكنهم جميعا إما تعرضوا لمجازر وإما هُجروا من المدينة، ولم يستطيعوا لاحقا العودة إليها، فباعوا عقاراتهم، وقاطعوا المدينة تماما.

قابلت "المجلة" الناشط المدني لويس أيوب، العضو السابق في المجلس المحلي، ونائب رئيس منظمة "حمورابي لحقوق الإنسان" الناشطة في محافظة نينوى (الموصل).

يشرح أيوب الأحوال الراهنة لمسيحيي المدينة وسهلها الشمالي والشرقي، الذي كان مسيحيا بأغلبيته المطلقة قبل عام 2014، قائلا: "ليس من دلالة على أحوال المدينة وتحولاتها خلال هذا العقد مثل بقاء سبعين مسيحيا فقط في المدينة، بعدما كانوا أكثر من سبعين ألفا. فالفزع العام الذي نشره تنظيم (داعش) أثناء احتلاله للمدينة ومحيطها الريفي، والإجراءات القمعية والوحشية التي طبقها بحق المسيحيين والإيزيديين، من قتل على الهوية واستعباد للنساء واستيلاء على الممتلكات، أحدثت خضة وجرحا رهيبا في وجدان السكان المحليين. لم تستطع عمليات التحرير والهدوء الأمني النسبي الذي تعيشه المدينة راهنا أن تُعيد لهم الثقة، فهاجروا بأغلبيتهم المطلقة، إما لإقليم كردستان وإما للدول التي قدمت تسهيلات للتوطين. حتى البلدات والمناطق التي كانت ذات أغلبية مسيحية مطلقة، مثل قرقوش، حيث كانت بلدة مسيحية تماما، يسكنها 54 ألف نسمة حسب الإحصاءات الرسمية لعام 2014، لا يقطنها راهنا إلا 22 ألف نسمة من السكان".

تبدو مدينة الموصل هادئة أمنيا، أسواق تجارية صاخبة وطلاب المدارس والجامعات يتقدمون لاختبارات نهاية العام بكل أريحية، فيما تبدو المقاهي والمطاعم عامرة بالسهرات الليلية، فيما عمليات إعمار البنية التحتية ما تزال تجري، وإن كان السكان يشتكون من تباطؤها وقلة المخصصات الحكومية لصالحها. لكن الناشط لويس أيوب لا يعتبرها عوامل ومناخات كافية لإعادة ثقة المواطنين، خصوصا من الطبقة المدنية وأبناء الأقليات القومية والدينية، بالمدينة والفضاء الاجتماعي والسياسي الذي من الممكن أن يحتويهم.

يفصل الناشط أيوب في ذلك مضيفا: "صحيح، مستويات التطرف التي تراكمت منذ عام 2003، ووصلت لذروتها وتفجرت في عام 2014 قلت راهنا، لكنها موجودة ومؤثرة وذات دور في المناخ العام. فالحكومة العراقية ليس لديها رؤية واستراتيجية لتفكيك هذه الظاهرة، بل لا تعترف بوجودها. فأي تحليل للمناهج التعليمية التي يتلقاها طلاب المدارس في المدينة، ستكشف كيف أن معالجة مسألة الإرهاب بقيت طوال هذا العقد مجرد قضية أمنية، دون تفكير سياسي وحكومي في السؤال الأصعب: لماذا حدث ما حدث؟! في الإطار نفسه، يُمكننا الحديث عن فصائل الحشد الشعبي، المسيطرة فعليا على المدينة وكل محيطها، التي وإن كانت توفر أشكالا من الأمان والاستقرار، فإن عقائدها السياسية ونزعاتها الرمزية وشكل روابطها مع مؤسسات الدولة، يخلق قلقا شديدا من كل الراغبين بأمان مستدام في المدينة".

حتى البلدات والمناطق التي كانت ذات أغلبية مسيحية مطلقة، مثل قرقوش، التي كانت مسيحية تماما، يسكنها 54 ألف نسمة عام 2014، لا يقطنها راهنا إلا 22 ألف نسمة 

سياسة وإعمار متعثران

يشكو السكان مما سموه "الإعمار الرمزي على حِساب الإعمار الفعلي"، منتقدين انشغال الحكومات المحلية بأعمال مثل إعادة بناء بعض دور العبادة والجسور والشوارع الرئيسة، وتقديمها على أنها منجزات في عملية إعادة الإعمار. فالأرقام التي قدمتها الحكومات المحلية والاتحادية، حسب السكان، كانت تتقصد تضخيم أعمالهم، بطرق ملتوية. فمئات المدارس والمستشفيات التي قالت تلك الجهات إنها شيدتها، إنما شهدت عمليات صيانة فحسب، على مستوى أجزاء بسيطة من بنيتها التحتية. كما أن إعادة تشغيل وفتح الشوارع الرئيسة التي صورتها وكأنها إنجاز عمراني، إنما كانت عمليات لإزالة الركام فحسب.

الباحث الاقتصادي ياسر عاصي يشرح في حديث مع "المجلة" الصعوبات التي تواجه عملية "إعادة الإعمار"، التي يصنفها على مستويات متعددة، تمنع كل واحدة منها عمليات التعافي العمراني من تحقيق أهدافها، وعلى رأسها الصراعات السياسية. فالمدينة حسب عاصي لا تزال "منكوبة" عمرانيا، وفقيرة في جذب الاستثمارات، على العكس تماما من كل مدن العالم عقب الحروب المدمرة، وبيئة طاردة للطبقات الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل عضد التنمية، والأناس الأفضل تعليما وقدرة على المبادرة الاقتصادية.

رويترز
منظر من طائرة بدون طيار يظهر كنيسة الطاهرة مع استمرار أعمال إعادة البناء في الموصل

يفصل الباحث عاصي في رؤيته: "مصائر المحافظين الأربعة الذين تعاقبوا على المدينة/المحافظة طوال هذا العقد، تكشف مدى تأثير السياسة وتدخلها في شأن إعادة الإعمار، وتاليا كل المسألة الاقتصادية للمدينة والمحافظة. فالمحافظ أثيل النُجيفي، الذي كان على رأس الحكومة المحلية أثناء احتلال (داعش) للمدينة، أقيل من منصبه لسبب سياسي، وقالت الحكومة الاتحادية إنه تخابر مع تركيا، ثُم حُكم عليه غيابيا بالسجن لمدة ثلاث سنوات، كجزء من الصراع بين ساسة المدينة والحكومة الاتحادية والأحزاب المركزية (الشيعية) الداعمة لها. المحافظ الآخر (نوفل العاكوب)، الذي شغل المنصب خلال 2015-2019، اُعتقل بدوره، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، جراء اتهامات بالفساد، على الرغم من قبوله وتعاونه مع نفوذ الميليشيات المسيطرة على المدينة ومحيطها. أما المحافظ نجم الجبوري، القائد العسكري الذي قاد عمليات التحرير، فقد أقيل أيضا من منصبه لما سمته الحكومة الاتحادية (ماضيه البعثي)، والمحافظ الحالي جاء عبر مجلس محافظة هو الأكثر فشلا في تاريخه، به كُتل دون أوزان سياسية، ولا يوجد ما يوحد رؤيتها عن مستقبل المدينة".

تفتت مدينة/محافظة الموصل سياسيا بين خمسة قوى رئيسة، هي الحكومة الاتحادية وفصائل الحشد الشعبي وإقليم كردستان وساسة المدينة المحليين وما يناظرهم من قوى سياسية "سُنية" سيكون عامل عدم استقرار مديد داخلها

وحسب الباحث ياسر العاصي، فإن تفتت مدينة/محافظة الموصل سياسيا بين خمسة قوى رئيسية، هي الحكومة الاتحادية وفصائل الحشد الشعبي وإقليم كردستان وساسة المدينة المحليين وما يناظرهم من قوى سياسية "سُنية" تعتمد على زعماء العشائر المحيطة بالمدينة، سيكون عامل عدم استقرار مديد داخلها، وسيمنعها من العودة إلى اللحظة السياسية التي كانت عليها في عام 2014، منقسمة فعليا بين زعامة آل النُجيفي والحزب الديمقراطي الكردستاني، الفصيلين السياسيين المحوريين في المدينة. فـ"داعش" واحتلاله للمدينة وما استقدمته عمليات التحرير من نافذين جدد وإخلاء المدينة من نُخبها الرئيسة، أزال عنها فعليا الاستقرار السياسي.

ويضيف الباحث عاصي: "السياسة في العراق، وبالذات في مدينة ومحافظة مثل الموصل، هي العامل الجوهري في إمكانية نجاح عملية إعادة الإعمار. فالميزانيات المرصودة لصالح إعادة إعمار المحافظة مثلا غير شفافة، تتداخل فيها الميزانيات المركزية المخصصة للوزارات مع تلك الخاصة بمجالس المحافظة والبلدية بحصة المحافظة من الموارد المحلية ونسبة مخصصات المحافظة من القروض والمنح الدولية، هذه كلها أجزاء من ترتيبات سياسية، يضاف لها آلية توزيع المناقصات ودور أعضاء مجلس المحافظة والأحزاب السياسية فيها، وفوقها كلها ما يُسمى (المكاتب الاقتصادية لفصائل الحشد الشعبي). هذه دائرة كاملة لتبديد التخطيط والإنجاز العمراني، وغير أنها معيقة لأي عمل تنموي، فإنها تبعثر المسؤولية، فكل مسؤول تنفيذي يُمكن له أن يرمي أسباب التأخر وسوء التنفيذ على جهات أخرى، ولا يمكن للمواطنين محاسبة أي طرف. إذ ثمة أرقام بمئات الملايين من الدولارات، تُصرف كل عام، تجدها مبهرة كأرقام مجردة، لكن أكوام الأنقاض وسوء الخدمات العامة في المدينة، تقول أشياء أخرى".

كانت أوجه الحياة مشلولة تماما تحت حكم تنظيم "داعش" الإرهابي 

الدرس والأمل

ليست الصورة قاتمة تماما، كما تراها الباحثة والناشطة النسوية البارزة ميسم عبد الله، مؤسسة ورئيسة جمعية "نساء نينوى" المدنية. فما شهدته المدينة من تجربة قاسية خلال هذا العقد، حسبها، إنما أثبتت فداحة التطرف الديني والسياسي، حتى بالنسبة لأكثر الأشخاص والطبقات التي كان لها أن تنزلق إلى التطرف على مستوى الأفكار فحسب، وأثبتت في المقابل الضرورة الملحة للدولة المدنية الديمقراطية، بأجهزتها ومؤسساتها وما توفره من حياة آمنة لكل أفراد المجتمع، بمختلف آرائهم ومعتقداتهم الدينية والسياسية.

تروي الناشطة سيرة العذابات التي تعرضت لها مع عائلتها في ظل حكم التنظيم المتطرف. فمع احتلاله لمدينة الموصل، انقطعت عن دراستها الجامعية، حيث كانت طالبة جامعية في كلية إدارة الأعمال، عاشت مع عائلتها أسابيع من الصراع المسلح بين التنظيم وقوات الجيش والأجهزة الأمنية، إلى أن هيمن "داعش" على المدينة كاملة، وفرض إرادته وقوانينه على السكان المحليين، وخلق قطيعة تامة بينهم وبين العالم الخارجي.

رويترز
منظر عام لمسجد الموصل الكبير مع استمرار أعمال إعادة البناء في الموصل، العراق 7 يونيو 2024

تروي الناشطة ميسم عبد الله تفاصيل عن حياتها الشخصية والعائلية، وكيف صار مجتمع المدينة مشلولا تماما في ظل أحكامهم: "مثل غيري من شبان وبنات جيلي، لم أكن أصدق كيف للدولة أن تترك ثاني أكبر مدن البلاد في قبضة الإرهابيين، أن يعيثوا بكل أشكال الحياة فيها، وأن يعتقلوا مئات الأشخاص من أمثالي، الناشطين والإعلاميين وأعضاء المؤسسات الحكومية، وأن يطالبوا (ولي أمري) بالقدوم والتعرض لعقوبة الجلد، لأني كُنت أرتدي تنورة/خراطة ظهر جزء منها تحت الجلباب الذي كُنت ألبسه. كان الخوف شيئا جاثما على صدورنا طوال ثلاث سنوات، وصل إلى درجة أني حفرت بقعة في حائط منزلنا وأخفيت فيه كل الهويات والشهادات والبطاقات التعريفية بي، كطالبة وناشطة وصحافية في الأوقات التي سبقت احتلالهم للمدينة".

وتضيف الناشطة ميسم عبد الله سرد ما جرى معها خلال تلك السنوات: "لا يُمكن لأي شخص عادي إلا أن يُصاب بالكآبة وسوء التوازن بسبب العنف وقلة الاعتبار الممنوحة للبشر في ظلالهم. فالإرهابيون كانوا يحاسبون النساء على خروجهن من البيت (دون سبب وجيه)، وكأن الحياة سجن كبير، تدفع الأشخاص للتفكير في الانتحار كل يوم، للتضحية بكل شيء في سبيل الخلاص من حكم هذا التنظيم المتطرف".

تحكي الناشطة ميسم عبد الله عن اللحظة التي تبدلت فيها أقدار المدينة، وصارت جاهزة لأن تعود وتكون جزءا من الكل الوطني والعالمي: "أثناء عمليات التحرير، كُنت واحدة من ضحايا عنف التنظيم، فقد فجروا سيارة مفخخة قُبالة بيت جدي، حيث كُنت أقيم، فأصبت بعشرات الجروح والشظايا، في الوجه والرأس واليدين، لم نتمكن من الخروج من المنزل بسبب الحرائق التي كانت في الشارع، فخرجنا مستعينين بالجيران في الطرف الآخر من المنزل، وبقينا لساعات نبحث عن خدمات صحية، فيما كاد النزيف الحاد أن يودي بحياتي، إلى أن عثرنا على طبيب قام بقطب جروحي لأربع ساعات متواصلة، دون تخدير، كان كُل مرة يذكرني بجملة واحدة لشد أزري (لن يبقى الأمر على ما هو عليه، سنتحرر)، وكانت تلك بداية شكل آخر للحياة".

تعترف الناشطة عبد الله بتأثيرات "داعش" الرهيبة على الحياة العامة في المدينة، لكنها ترى استحالة في العودة إلى المربع الأول، حيث التطرف والإرهاب، مذكرة بسبع سنوات متواصلة من العمل الدؤوب الذي تقوم به منظمتها، من تعزيز للثقة بين المكونات ومبادرات بناء السلام ومواجهة التطرف وزيادة التواصل بين المجتمع والجهات الأمنية والمؤسسات الحكومية، ومثلها المئات من المنظمات والمبادرات الأخرى ضمن النسيج الاجتماعي للمدينة. وتؤكد أن مزيدا من التوافقات السياسية بين القوى الأساسية ستحدث تحولا رئيسا في نسيج المدينة وكامل المحافظة.

font change

مقالات ذات صلة