تتعدّد الأصوات في رواية احمد زين الجديدة "رماية ليلية" الصادرة حديثا عن "منشورات المتوسط" في ميلانو، لكنها تبدو وكأنّها تَسرد وتُسرد بنبرة واحدة متحكمة ترثي ما كان وما تبقى، في ظل زمن جامد بلا حركة، أو أنه يدور داخل الدائرة نفسها، من منفى عربي إلى منفى أوروبي، ولا انتظار لأي شيء قد يجيء. لهذا نجد أن الصوت ونقيضه يتماهيان فيصبحان صوتا واحدا، كما حال الجنديين اللذين يلتحمان في معركة لا يدريان لماذا هما فيها.
رواية غير مريحة للخطاب السياسي في اليمن في شقيه الانقلابي والمقاوم، كما يصوّرهما الإعلام الدعائي. فهي إذ تشير إلى مخلفات انقلاب صنعاء من قبل أصحاب الألوان الخضراء فإنها تحصر سرديتها بأولئك الذين اختاروا مقاومة هذا الانقلاب ولو بالتمني والأحلام. هؤلاء يظهرون في الرواية لاهثين وراء ملذات الحياة وشره السلطة التي لم يعد لها من مناصبها سوى الصفات والمخصصات المالية. إلى جانب قلّة يشعرون بالخذلان والانكسار ويعيشون على الذكرى. اضافة إلى أصوات جنود بسطاء وجدوا أنفسهم وجها لوجه في معارك تحرّكها الدعاية. ومعهم جميعا هناك رثاء لطبقة سادت واندثرت أو أن عودتها الى ما كانت عليه صارت مستحيلة، فالشيخ ابن الشيخ ينزوي مع هواجسه في زاوية فندق يلهث فيه الجميع وراء الأوهام، التي ليس من بينها أمل العودة إلى البلد، فترديد مقولة "عزّ القبيلي بلاده" تحضر كعزاء مؤقت، أو دواء مهدئ لنوبات حسرة عابرة تظهر مع تناول أعشاب "القات" التي تصلهم باستمرار إلى منفاهم.
متن السرد في "رماية ليلية" محوره مآلات حرب اليمن وفسادها
شخوص كثر سنراهم مصوّرين بعيني فائزة عاملة الفندق التي تنصت الى حكاياتهم وتلامس رغباتهم فتعيد تشكيل صورهم مع ليلى المذيعة، في شقتهما في الرياض.
يهتم أحمد زين في روايته هذه، وفي معظم أعماله السابقة، بتفاصيل الأشياء البسيطة والمعتادة حتى تكاد، في كثير من بنايتها، أن تهيمن على كلّ مفاصل السرد، فهناك وصف لدهاليز الفندق وللأطعمة والأشربة ونوع الملابس وحركات الشخوص وانفعالاتهم وضجرهم، لنظراتهم "المهانة والمستجدية" والأخرى "الشرهة بالغة الوقاحة"، بعضها أوصاف مشهدية لممارسات يومية تحدث أو تأتي من الذاكرة كحال الأب الذي يعلّق صورة لجمال عبد الناصر أثناء زيارته لليمن.
هناك أيضا قصص من متن السرد الذي بدا أن محوره مآلات حرب اليمن وفسادها، مع قصص أخرى على الهامش وإن كانت لا تبتعد عن اطار حياة الشخوص الرئيسة.
وإذا مضى السرد في توصيفه للشخوص وأيامهم، مع أقوالهم، بدت في ثناياه أصوات الأنا التي تتذكر أو تناجي الآخر، فليلى تبدو أحيانا هي فائزة وفائزة هي ليلى ولا فرق بين أصوات الجنود حتى وهم في حال مواجهة، إذ سيبدو أنهم أدوات لعبة: "سيلمحان، في أثناء كلامهما المتقطّع والشحيح، إلى تلك الأمور الغريبة التي حدثت ولم يفهمها أحد، مثل انسحاباتهم الغامضة، وقد بلغوا من المواقع ما يجعلهم أكثر قدرة على دحر العدوّ في ساعات قليلة، مثل قادة برهنوا على عجز كامل عن التقدّم حتى لخمسمئة متر في أرض المعركة، إلا أنهم استطاعوا الطيران آلاف الأميال، ليستقرّوا في أكثر من عاصمة، وعرْض أنفسهم رجالا للمرحلة المقبلة، أو مثل تلك التدريبات الليلية على الرماية التي سقط فيها العشرات، من دون أن يعلم أحد كيف حدث ذلك".
هكذا يجيء عنوان الرواية، "رماية ليلية"، من وقائع لتدريبات غامضة "لم يُعرف يومها مَن الذي أوحى بتلك الفكرة، التي قيل إن القصد من ورائها إبقاء المحاربين في ذروة استعدادهم". فهي تطرح أكثر من سؤال عن هدفها و"ما إذا كان قد وقع استدراجهم إلى فخٍّ".
تذكرنا رواية أحمد زين بمنافي جنرالات وزعماء وسرديات عن حروب لا تحصى
وعلى كلّ حال فقد غيّرت الواقعة تصوّر صديقين عن الحرب وكانا في جبهة واحدة. كما أن المنفى وتذكّر الأحداث غيّرا الكثير من التصورات حول الذات: "لم يكن خياري أن أكون هناك، ولا عادت لي الأحلام التي كانت قبل أن أخوض هذه الحرب. كم مرّة خطر لي أني أستطيع تغيير قدري! أراني، بعد أعوام، مجرّد جسد، أقلّب بصري في الأنحاء فلا أرى أحدا. أراني وقد خسرتُ كلّ ما كان يخصّني وحدي، مُطارِدا ما لا يمكن مطاردته، ولا في المستطاع الحصول عليه".
قد تذكرنا رواية أحمد زين بمنافي جنرالات وزعماء وسرديات عن حروب لا تحصى، لكنها في المقابل رواية بنائية شكلت بصيغ فنية يتقنها أحمد زين الذي خبر كيفية تركيب العبارة والفقرة في نص يشهد عن حال اليمن الآن الذي لا نعرف إلى أين سيمضي.