إدانة رئيس دولة سابق أمام القضاء بعد انتهاء ولايته ليست جديدة. كم من رؤساء دول وحكومات أُدينوا قضائيا بعد محاكمات أُجريت لهم عقب تقاعدهم. لكن إدانة الرئيس الأميركي السابق والمرشح الحالي دونالد ترمب مختلفة. وفضلا عن أنها جديدة في الولايات المتحدة، بوصفه أول رئيس سابق يُدان قضائيا، فهي تثير جدالا ساخنا عن مدى توافر مقومات العدالة في محاكمته. ولا يقل أهمية عن ذلك، بل ربما يزيد، أن الإدانة تأتي في قلب إحدى أهم الحملات الانتخابية في تاريخ الولايات المتحدة، وفي ظل انقسام سياسي-اجتماعي غير مسبوق منذ الحرب الأهلية 1861-1865.
محاكمة ترمب بين العدالة والتسييس
زعم ترمب منذ بداية الإجراءات الأولى لمحاكمته في ولاية نيويورك أنها ليست عادلة. ودفع بأنها، وثلاث محاكمات أخرى تنتظره، مؤامرة من جانب خصومه في الحزب الديمقراطي وبعض مؤسسات الإدارة الحالية لتشويه سُمعته، ومحاولة لإضعاف فرصته التي تبدو كبيرة في العودة إلى البيت الأبيض عقب انتخابات 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ويوافق أنصاره كلهم، أو أقله معظمهم، على ما يطرحه في هذا المجال، بل يذهب بعضهم إلى مدى أبعد عنه في الهجوم على محاكمته.
محاكمة غير عادلة. هذا هو رد ترمب وأنصاره على إدانته من جانب هيئة المحلفين في قضية وُجهت فيها 34 تُهمة ضده. وهي تدور في مجملها حول دفع أموال بالمخالفة للقانون لشراء صمت ممثلة الأفلام الإباحية السابقة ستورمي دانييلز بشأن زعمها أنه أقام علاقة جنسية عابرة معها.
وليس سهلا التحقق من عدالة قضية بالغة التعقيد وتتداخل فيها معطيات متنوعة. ومع ذلك، فعندما نُمعن النظر في إجراءات التحقيقات الطويلة والمحاكمة القصيرة، لا نجد فيها ما يدعم الزعم بغياب مقومات العدالة القضائية. الإجراءات سليمة من حيث الشكل. والقضية متماسكة إلى حد كبير، وأركانها مكتملة، وأدلتها قوية. ولهذا جاء قرار هيئة المحلفين في محكمة نيويورك يوم 31 مايو/أيار الماضي بإجماع أعضائها الاثنى عشر، علما أن رفض عضو واحد فيها يمنع إصدار مثل هذا القرار، ويوجب إعادة المحاكمة.
ليس سهلا التحقق من عدالة قضية بالغة التعقيد وتتداخل فيها معطيات متنوعة. ومع ذلك، فعندما نُمعن النظر في إجراءات التحقيقات الطويلة والمحاكمة القصيرة، لا نجد فيها ما يدعم الزعم بغياب مقومات العدالة القضائية
غير أن هذا ليس كل شيء. فما كان للقضية أن تكتمل والأدلة أن تُجمع ما لم يبذل الادعاء العام جهدا خارقا للعادة طوال سبع سنوات من أجل لملمة أطرافها. وعندما يكون إصرار الادعاء العام على المضي قدما في قضية لفترة طويلة على هذا النحو، يُثار سؤال عما إذا كان لدى المدعي العام وفريقه دافع ما بخلاف إقرار العدل وإحقاق الحق. والحال أن المدعي العام ألفين براغ وفريقه تعاملوا مع هذه القضية كما لو أنها قضية القضايا، واستخدموا كل ما لديهم من صلاحيات سعيا للوصول إلى النتيجة التي انتهت إليها، بدءا من الاهتمام البالغ بحديث عابر للممثلة دانييلز والانطلاق منه لإجراء التحقيقات الأولى، وصولا إلى التأثير في موقف محامي ترمب الخاص مايكل كوهين وتحويله من صديق مخلص له إلى الشاهد الأساسي ضده، إذ اعترف أن الرئيس السابق وجهه إلى دفع مبلغ 130 ألف دولار لإسكات دانييلز خشية أن يؤثر حديثها على حملته الانتخابية السابقة عام 2016، ثم تزوير مستندات مالية للتعويض عن المبلغ المدفوع لها. وثمة ما يدل على أن شهادته أمام المحكمة يوم 13 مايو/أيار الماضي كانت حاسمة في إقناع هيئة المُحلفين بأن ترمب مذنب وليس بريئا.
ربما يكون الجهد الذي بذله الادعاء العام طوال نحو سبع سنوات تفانيا شديدا في العمل، ولكنه قد يكون في المقابل إصرارا على إدانة ترمب لأغراض سياسية. وهذه حالة غير تقليدية يتعذر فيها التيقن من عدالة المحاكمة في مجملها، وليست إجراءاتها الشكلية فقط. فهذه الإجراءات استوفت الشروط اللازم توافرها. ولكن ما وراء هذه الإجراءات هو ما يثير شكوكا يعتمد عليها ترمب وأنصاره في هجماتهم التي اشتدت ضد محاكمته بعد قرار هيئة المُحلفين بإدانته.
الصراع السياسي-الاجتماعي بعد إدانة ترمب
تفتح إدانة ترمب على هذا النحو أبوابا جديدة أمام سيناريوهات خطيرة بمقدار ما تُسهم في تحول التنافس الانتخابي الصعب إلى صراع مرتفع الحدة، وربما صدام يصعب توقع المدى الذي قد يبلغه.
أنصار ترمب، وهم نحو نصف الناخبين، غاضبون بدرجات متفاوتة. ولا يقتصر الغضب على ناخبين ينتشرون في مختلف الولايات الأميركية، سواء شباب يمكن أن تكون ردود أفعالهم عنيفة على النحو الذي حدث في اقتحام مبنى الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2020 في محاولة لمنع التصديق على نتيجة الانتخابات السابقة، أو غيرهم. سياسيون جمهوريون كبار ليسوا أقل غضبا. وصف رئيس مجلس النواب مايكل جونسون الجمهوري يوم إدانة ترمب بأنه مُخزٍ لأميركا. ورفع عدد من أعضاء الكونغرس صورةً لعلم أميركي مقلوب، وهو رمز يشير إلى أن الدولة في محنة.
أما في أوساط جمهور ترمب فقد وصل الغضب في بعض الحالات إلى حد التحريض على أعمال عنف، بل دعا بعضهم إلى إعدام القاضي خوان ميرشان. ولأنه لا يُحاكم في أية قضية، فالدعوة إلى إعدامه تعني الاغتيال. وبلغت حدة الغضب مستوى أعلى لدى بعض آخر فهدَّدوا بتمرد مسلح، ودعوا الميليشيات اليمينية إلى الاستعداد، وتحدث عدد منهم عن حرب أهلية.
وصف رئيس مجلس النواب مايكل جونسون الجمهوري يوم إدانة ترمب بأنه مُخزٍ لأميركا
هل هذا كله كلام يُقال في لحظة غضب؟ الإجابة الراجحة ليست بالإيجاب. ليس كل ما يعبرُ عن الغضب مجرد كلام. بعضه يُنتج أفعالا خطيرة. والحال أن الولايات المتحدة دخلت أخطر مرحلة في تاريخها. وقد يكون 5 نوفمبر المقبل (الاقتراع الرئاسي) هو اليوم الأخطر. فلن يقبل بعض هؤلاء الغاضبين وغيرهم خسارة ترمب مرة ثانية إن خسر, وقد باتوا أكثر اقتناعا بأن المحاكمة التي تنتهي مرحلتها الأولى عند النطق بالحكم في الشهر المقبل، بانتظار استئناف قرار الإدانة في محكمة التمييز, ليست إلا إحدى أدوات إعداد المسرح الانتخابي بطريقة تتيح إعادة انتخاب بايدن. ولهذا ربما تكون ردود أفعال بعضهم أكثر عنفا مما حدث عقب انتخابات 2020.
وعلى الجانب الآخر، ليس مستبعدا أن يرفض بعض أنصار بايدن نتيجة الانتخابات إذا كان هو الخاسر, وخاصة من يعتقدون أن الاتهام الموجه ضد ترمب في محاكمة ثانية بشأن أحداث اقتحام مبنى الكابيتول عام 2020 يحول دون توليه أي منصب فيدرالي. ويستندون إلى نص دستوري مُختَلَفٍ على تفسيره، وهو الوارد في الباب 3 من التعديل الرابع عشر لدستور الولايات المتحدة: (لا يشغل أي شخص منصبا فيدراليا أو في أية ولاية، إذا كان قد أدى قسما كعضو في الكونغرس أو في الهيئة التشريعية لأية ولاية أو كمسؤول تنفيذي أو قضائي بأن يدعم دستور الولايات المتحدة، ثم اشترك في حركة عصيان أو تمرد ضد الدولة أو ضد أية ولاية، أو يكون قد قدم العون لأعداء أي منهما...".
ولا يمنع اختلاف تفسير هذا النص احتمال استناد بعض أنصار بايدن إليه لرفض الاعتراف بفوز ترمب، مثلما لا يحول توافر إجراءات العدالة من الناحية الشكلية في محاكمته دون ادعاء أنصار الرئيس السابق أنها مؤامرة ضده.
وإذا أخذنا في الاعتبار حجم الأزمة الناتجة من تعمق الانقسام السياسي-الاجتماعي قبل قرار إدانة ترمب، ربما تكون تداعياتها العنيفة عقب انتخابات نوفمبر أخطر مما حدث بُعيد سابقتها، وقد تفوق آثارها المحتملة ما يمكن تصوره اليوم قبل أقل من خمسة أشهر على هذه الانتخابات.