السلام السلام

السلام السلام

يحتفل المجتمع الفلسفي في كل العالم هذه السنة بميلاد فيلسوف التنوير الأكبر إيمانويل كنط، الذي ولد في 1724. أي أننا في المئوية الثالثة لهذا المفكر العظيم، ولا بأس باستغلال الفرصة لاستعادة شيء من أفكاره الاستثنائية والجدال حولها، فجدال الفكر هو أحد عوامل السمو.

كتبت ندى حطيط في صحيفة "الشرق الأوسط" قراءة لكتاب أستاذ التاريخ الحديث في جامعة "سانت أندروز"، ريتشارد واتمور "نهاية التنوير: الإمبراطورية – التجارة – الأزمة"، وقد خلص فيه إلى فشل مشروع التنوير الأوروبي، وأن حال العالم لم يزدد إلا سوءا بعد رفع راية العقل. وأن التنوير "قد أضاع فرصة لتأسيس نظام عالمي متسامح جديد بعد فظائع الحرب العالمية الثانية، فسقط سريعا في حرب باردة بين قوى نووية، واستعاد شهيته إلى التوسع الإمبريالي".

واتمور محق في كثير مما ذهب إليه، إلا أن التنوير، وإن كان قد فشل، لم ينته كما ورد في المقال. التنوير ليس قالبا جاهزا للتركيب، بل هو فكرة غير مكتملة أبدا، ولا بد أن تستمر المطارق في العمل عليها إلى الأبد بغرض التحسين والتطوير.

التنوير ليس قالبا جاهزا للتركيب، بل هو فكرة غير مكتملة أبدا

لقد تقدم فيلسوف التنوير العبقري إيمانويل كنط بمشروع متعدد الجوانب، وفلسفته جديرة بأن تكون مرجعا للعالم، وإن كانت المساحة تضيق عن وصف إنجازه بصفة كاملة. في ما يتعلق بالسلام، دعا الحكيم إلى سلام شامل دائم بين كل البشر، وأوضح كيف يمكن أن يكون هذا واقعا فعليا لا مجرد شعارات فارغة. وذلك أن هذا المشروع يدخل في عالم العقل العملي وأعلاقه الأخلاقية، لا العقل النظري الخالص، أي أنه يسري في العالم المحسوس المعيش.

كان يحمل حلما كبيرا، مع أنه يعترف بأن السلام ليس الأصل، بل الحرب، فهي النتيجة الواقعية لأطماع البشر وجشعهم وإيثارهم لأنفسهم. لكن من الناحية البراغماتية الخالصة، سيكون من خير الإنسان أن يعيد تعيين زاوية النظر. سبقه إلى هذا توماس هوبز عندما قال: "الإنسان ذئب أخيه الإنسان". حديث هوبز هنا عن الحالة الطبيعية قبل قيام الدولة.

بالنسبة إلى كنط، يجب أن تنتهي الحالة الطبيعية، لأن بقاء بعض البشر عليها مهما قل عددهم يعتبر تهديدا بعودة حالة الحرب. ولذلك دعا إلى تعاقد اجتماعي ليس خاصا بدولة، بل لكل دول العالم التي أرشدها إلى أن تتحد في "عصبة واحدة". عصبة تقوم على احترام الحرية، حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، لكي يمكن تحقيق العيش المشترك القائم على صيانة الكرامة الإنسانية. وكل هذا ليس من قبيل الكلام الطائر في الهواء، وإنما يجب تدوينه في قوانين تسري على الجميع.

ولا يمكن أن ينجح مشروع السلام إلا بشرط أساس هو وجود النية الصادقة لتحقيقه لذاته وليس بسبب مصالح جانبية. البراغماتية الحقة هي أن ندرك أن من مصلحة الجميع أن يسعوا لإنجاح مشروع السلام، وأنه من الضار لهم جميعا البقاء على الحالة الطبيعية التي ترحب بالحروب ومشاهدة الأطفال وهم يُقتلون عبر أجهزة التلفزة.

إيقاف الحروب شيء عظيم، لكن طموح كنط لم يقف عند هذا الحد، بل وضع تصوراته للطريقة التي يمكن بها منع قيام أي حرب مقبلة في المستقبل، وذلك بالبحث والتحليل في أسباب الحروب وكيف يمكن تحاشيها.

لتحقيق ذلك، لا يقبل كنط بأي معاهدة سلام سرية إذا انطوت على أمر يمكن أن يؤدي إلى حرب مستقبلية.ولا يجوز عنده إخضاع أي دولة مستقلة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، لسيطرة دولة أخرى، لأي سبب كان. ويقفز طموحه بعيدا فيطالب بإلغاء الجيوش الدائمة إلغاء كاملا، بشكل تدريجي. ولا يبيح لأي دولة أن تتدخل بالقوة في دستور أو حكومة دولة أخرى.  ولا يجوز لأي دولة خلال الحرب، إن وقعت، أن تسمح بالأعمال العدائية التي من شأنها أن تجعل الثقة المتبادلة في السلام اللاحق أمرا مستحيلا، مثل استخدام القتلة والسموم، وخرق شروط الاستسلام، والتحريض على الخيانة في الدولة المحاربة.

لا يقبل كنط بأي معاهدة سلام سرية إذا انطوت على أمر يمكن أن يؤدي إلى حرب مستقبلية

في القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الأولى، تأسست عصبة الأمم المتحدة في 1920 وأصبح اسمها في ما بعد "الأمم المتحدة" بناء على مشروع كنط، وكان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون أكثر الزعماء تحمسا لفكرة إنشاء عصبة تحول دون تكرار سفك الدماء الذي حصل، وكان إنشاؤها محور مبادئ ويلسون الأربعة عشر للسلام.

قد يقال إن مشروع كنط للسلام الدائم يبدو فكرة حالم، لكن كل عاقل يعرف أن كل الأشياء العظيمة جاءت في البداية على هيئة حلم. وفي المئوية الثالثة لهذا المفكر العظيم نستذكر حلمه هذا وأين حصل الانعطاف الخاطئ الذي جعل البشر يضلون الطريق. السلام أو دمار العالم، لا يوجد خيار ثالث.

font change