للمدن هويات متعددة الطبقات، لا يمكن للمرء، حتى لو ولد ونشأ فيها وشكلت وعيه وذاكرته وازداد اهتماما بها أو شغفا، أن يلج كل طبقاتها، فكيف إذا جاءها زائرا، أو مقيما بعدما رصف تاريخه الشخصي وذاكرته ومعارفه في مدينة/ مدن أخرى؟ حتى لو جاءها باحثا فلن يستطيع الإمساك بها كاملة في قبضة فضوله وبحثه. المدن مراوغة، كلما أقبل الفرد على اكتشافها ابتلعته سراديبها ودهاليزها، من دون أن تسلبه متعة المغامرة والاكتشاف، وأحيانا يمكن أن تلقي له طعما من حيث لا يدري، فيعلق في صنارة صيدها.
تهت عن طريقي في لحظة ما في مدينة برلين. برلين مدينة كبيرة تقترب مساحتها من تسعمائة كيلومتر مربع، وهي مدينة لها تاريخ حافل، آخرها تقاسمها بين القوات المتحاربة في الحرب العالمية الثانية، الاتحاد السوفياتي وأميركا وبريطانيا وفرنسا، فانشطرت المدينة بين غربية وشرقية، وبني الجدار الشهير الذي انهار، فالتحمت الألمانيتان من جديد، وتلاقى شرق برلين بغربها.
وحشة
تهت ذات يوم في برلين، فوجدت نفسي أمام محطة كبيرة، تبدو عليها علامات القدم على الرغم من تحديثها الظاهر، لفتني مشهد على الرصيف المحاذي وأنا أدخل إحدى بوابات المحطة، كان هناك عدد كبير من المشردين الذين يعدّ وجودهم أمرا مألوفا في المدينة، فهم موجودون في أماكن عدة، خاصة تحت جسور السكك الحديد، وفي مداخل المحطات، وأمام بعض الأبنية الكبيرة. مشردون يفترشون الأرض فوق بعض الأسمال أو بعض الفرش والأغطية البالية، منهم من ينامون في أكياس خاصة، ومعظمهم لديهم مجموعة من الأغراض الشخصية يحملونها حيثما راحوا، وقد نرى أحيانا كلابهم معهم. منظر مألوف، فلماذا كان المشهد أمام هذه المحطة مثيرا بالنسبة إليّ أكثر؟