قصة محطة في برلين مليئة بالقصص والمآسي

المكان بين مصيدة الأدب وبصمة التاريخ

shutterstock
shutterstock

قصة محطة في برلين مليئة بالقصص والمآسي

للمدن هويات متعددة الطبقات، لا يمكن للمرء، حتى لو ولد ونشأ فيها وشكلت وعيه وذاكرته وازداد اهتماما بها أو شغفا، أن يلج كل طبقاتها، فكيف إذا جاءها زائرا، أو مقيما بعدما رصف تاريخه الشخصي وذاكرته ومعارفه في مدينة/ مدن أخرى؟ حتى لو جاءها باحثا فلن يستطيع الإمساك بها كاملة في قبضة فضوله وبحثه. المدن مراوغة، كلما أقبل الفرد على اكتشافها ابتلعته سراديبها ودهاليزها، من دون أن تسلبه متعة المغامرة والاكتشاف، وأحيانا يمكن أن تلقي له طعما من حيث لا يدري، فيعلق في صنارة صيدها.

تهت عن طريقي في لحظة ما في مدينة برلين. برلين مدينة كبيرة تقترب مساحتها من تسعمائة كيلومتر مربع، وهي مدينة لها تاريخ حافل، آخرها تقاسمها بين القوات المتحاربة في الحرب العالمية الثانية، الاتحاد السوفياتي وأميركا وبريطانيا وفرنسا، فانشطرت المدينة بين غربية وشرقية، وبني الجدار الشهير الذي انهار، فالتحمت الألمانيتان من جديد، وتلاقى شرق برلين بغربها.

وحشة

تهت ذات يوم في برلين، فوجدت نفسي أمام محطة كبيرة، تبدو عليها علامات القدم على الرغم من تحديثها الظاهر، لفتني مشهد على الرصيف المحاذي وأنا أدخل إحدى بوابات المحطة، كان هناك عدد كبير من المشردين الذين يعدّ وجودهم أمرا مألوفا في المدينة، فهم موجودون في أماكن عدة، خاصة تحت جسور السكك الحديد، وفي مداخل المحطات، وأمام بعض الأبنية الكبيرة. مشردون يفترشون الأرض فوق بعض الأسمال أو بعض الفرش والأغطية البالية، منهم من ينامون في أكياس خاصة، ومعظمهم لديهم مجموعة من الأغراض الشخصية يحملونها حيثما راحوا، وقد نرى أحيانا كلابهم معهم. منظر مألوف، فلماذا كان المشهد أمام هذه المحطة مثيرا بالنسبة إليّ أكثر؟

راودني حينها شعور بأن للأمكنة روائح ندركها بحاسة أخرى، مبهمة، غامضة، لا علاقة لها بالأنف

في الواقع لم أكن متأكدة، لكن شعورا بالوحشة باغتني. كانوا من أعمار مختلفة، إنما غالبيتهم من الشباب حتى متوسطي العمر، يتوزعون في مجموعات أو أزواج، نظراتهم تائهة، غير مكترثة، أمامهم أو بجانبهم أشياء لم أميزها. أعترف أن رهبة سرت في داخلي جعلتني لا أطيل النظر، فصعدت السلم الكهربائي الطويل إلى رصيف المحطة، فوجدته لقطارات المسافات الطويلة، أو لقطارات المناطق، استدرت ونزلت السلم الحجري، ولم أغامر في البحث عن سلم يوصل إلى رصيف آخر، بل استعجلت الخروج من المحطة، بدت لي حينها محطة أشباح مليئة بالمغامرات والأشياء المثيرة. راودني حينها شعور بأن للأمكنة روائح ندركها بحاسة أخرى، مبهمة، غامضة، لا علاقة لها بالأنف، رائحة عالقة بالحجارة تصيب من يقترب منها من حيث لا يدري ولا يدرك، هو يصمها بكيانه مجتمعا من دون أن يفهمها.

عدت أدراجي في اتجاه النقطة التي نزلت فيها من الحافلة ورحت أبحث عن محطة أخرى إلى أن وجدتها، واكتشفت أنها المحطة التي هربت منها، إنما كنت قد دخلتها من مدخل خلفي. قررت أن أبحث في محرك "غوغل" عنها لأعرف سرّها. إنها محطة حديقة الحيوان.

تاريخ حافل

لهذه المحطة تاريخ حافل بالأحداث، وعلى عكس بقية المحطات في برلين، هي تتمتع بشيء خاص. هي لا تقع في منطقة منعزلة أو بلا روح، وإنما كانت دائما متشابكة مع المدينة بعدة طرق، وهي، مثل برلين، تتمتع بعديد من الهويات والوجوه، فبداياتها تمتد من زمن الإمبراطورية الألمانية إلى الآن، وهي، مثلما تشتهر بأنها مكان اجتماع المخدرات، أيضا تشكل صورة جميلة عن غرب المدينة. هذا التعريف الأولي بها، الذي وجدته على محرك البحث. استوقفتني عبارة "مكان اجتماع المخدرات"، واستدرجت صور الأشخاص الذين رأيتهم قريبا من البوابة الواسعة التي دخلت المحطة من خلالها.

shutterstock
محطة برلين الرئيسية

هي إذن تتمتع بشيء خاص، ولها تاريخ حافل! هل هذا يكفي لتكتسب هذه الشهرة التي التقطتها من خلال عناوين كثيرة عنها؟ ما وجدته أن الأمرين يسيران معا.

أكثر العناوين التي تكرّرت هو كتاب "نحن أطفال محطة حديقة الحيوان" وربما صار عنوانا لها في شهرتها، الكتاب الذي ترجم إلى نحو ثماني عشرة لغة، ومُثّل في أفلام سينمائية ومسلسلات واستلهمت منه مقطوعات موسيقية وأغانٍ، وسيكون له مساحة تخصه في الجزء الثاني من المقال.

يعود بناء المحطة إلى العام 1882، وكانت تسهل لزوار حديقة الحيوان الوصول إليها، وبالتالي دمجت كمحطة في مسار السكك الحديد لمدينة برلين.

كان الطريق التاريخي يمتد على طول أقواس الجسور المبنية من الطوب، التي تسير عليها السكك الحديد المرتفعة، وعندما بني كان مبنى المحطة لا يزال يتمتع بواجهة كلاسيكية من الطوب مع أبراج صغيرة. بعد اكتمال المحطة ازدهر الحي المجاور لها، كما تفعل الطرق على مرّ التاريخ، ولقد ساهمت كنيسة فيلهلم التاريخية (التذكارية) التي بنيت في العام 1895 تخليدا لذكرى فريدريش فيلهلم الأول (مع أطول برج كنيسة في المدينة حينها)، في تطوير المنطقة، ولقد تغير شارع كورفورشتيندام أيضا خلال الفترة الانتقالية من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، من منطقة سكنية راقية إلى شارع ترفيهي ثقافي ومنطقة تسوق، ففي العام 1907 افتتح "كاوفهاوس دي فيستنس".

منذ خمسينات القرن الماضي وحتى سقوط الجدار، كانت محطة حديقة الحيوان واحدة من أهم محطات نقل الركاب المحلية في القطاع الغربي من برلين، ولفترة من الوقت كانت محطة المسافات الطويلة الوحيدة التي تمر فيها القطارات بين المناطق، وكان الازدحام والصخب والضجيج شديدا على مسارات القطار فيها.

منذ خمسينات القرن الماضي حتى سقوط الجدار، كانت محطة حديقة الحيوان واحدة من أهم محطات برلين

بقيت الصورة السيئة للمحطة على الرغم من إعادة توحيدها والتجديدات التي طالتها، وكانت المنطقة المحيطة بها لا تزال تبدو قاسية حتى في تسعينات القرن الماضي، لكن مشاريع التطوير استمرت للنهوض بها وتحريرها من صورتها المتداولة.

كان لا بد للمدينة الغربية أن تكون نظيفة وأنيقة، هذه النزعة دفعت إلى هدم بعض المباني والأماكن التي اعتبرت "خطايا" عمرانية، الأماكن التي تقبع شاهدة على عصر "كريستيانا إف" ورفاقها من مدمني المخدرات والمشتغلين بالدعارة، كمبنى "أشينغر هاوس" الذي كان عبارة عن قاعة بيرة في المحطة، ولقد دمّر في غارة جوية 1943 وأعيد بناؤه في العام 1950، ولهذا المبنى قصة أخرى. ومتجر "بيتي أوهسي"، والنزل والممرات المظلمة أسفل كتلة البناء، لا بد من هدمها لتفسح المجال لهوية تليق بالمدينة الأنيقة.  

كانت محطة القطار مكان اجتماع سيئ السمعة بسبب المخدرات في برلين الغربية، في حقبة السبعينات والثمانينات، ولقد اشتهر كتاب "نحن أطفال محطة حديقة الحيوان" 1978، الذي لفت إلى مركزية المحطة في هذا المشهد، وصارت "كريستيانا إف" أسطورة حضرية، تعكس الصورة المظلمة المهلهلة لمحطة القطار. ولقد جعل الكتاب من كريستيانا نجمة على مستوى العالم، بسبب الصخب والضجيج الذي أحدثه الكتاب.

الأدب وهوية المكان

في رواية "السماء المنقسمة" In der Geteilte Himmel، في العام 1964 للكاتبة كريستا فولف، محطة حديقة الحيوان مذكورة بشكل صريح وتمثل في الرواية الممر بين نظامين، كنقطة تحول في العلاقة بين بطلي الرواية، ريتا القادمة من برلين الشرقية لتلحق بصديقها مانفريد، تصف الرواية المحطة بشكل دقيق خاصة شارع كوفوشتيندام، لكنها تجد في عالم الغرب واستهلاكه "شفرات سرية" لا يمكن فكها، وينطفئ الحب بسبب تصادم عالمين يجعل البطلين غريبين واحدهما عن الآخر، فتقرر ريتا البقاء في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. لم تساهم هذه الرواية في تكريس صورة خاصة للمحطة مثلما فعل كتاب كريستيانا إف. بل إن شهرة هذه المحطة، وارتباطها بهذا الكتاب الذي لا يزال يثير السجال إلى اليوم، ويثير الفضول حول "بطلته" التي كانت حين صدوره بعمر خمسة عشر عاما، جعل مواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية يتوافدون إلى المحطة بعد يومين من هدم الجدار.

في عام 1978، في سياق بحثه في مشهد المخدرات والمشتريات، تابع هورست ريك محاكمة رجل أعمال دفع لعاهرات قاصرات مقابل خدمات جنسية بالهيروين. سأل ريك إحدى الشهود، كريستيانا فيلشيرينو، التي كانت تبلغ من العمر 15 عاما في ذلك الوقت، عن قبولها بإجراء مقابلة. تحولت المقابلة التي كان من المفترض أن تستمر ساعتين، إلى تسجيلات على مدى شهرين، روت خلالهما فيلشيرينو قصة حياتها يوما بيوم. استشار ريك زميله كاي هيرمان حول تحقيق كتاب عن القصة، وبناء على نصوص الشريط، كتب ريك سردا تمت صياغته من منظور فهمه للحالة تاركا مسافة بين السرد والعاطفة التي حكت فيها بطلة الحكاية. رفض المخطوطة في البداية عديد من الناشرين، فقد عدّوا مضمونها موضوعا غير قابل للبيع في ألمانيا. نشرت مقتطفات من النص لأول مرة كسلسلة من اثني عشر جزءا في مجلة "شتيرن"، وفي خريف عام 1978 ككتاب بعنوان Wir Kinder vom Bahnhof Zoo (نحن أطفال من حديقة الحيوان بانهوف) نشرته شتيرن فيرلاغ.

يصنّف المؤلَّف كتابَ سيرة ذاتية، يصف حالة الأطفال والمراهقين من مدمني المخدرات باستخدام حياة كريستيان فيلشيرينو (من مواليد 1962) من غروبيوشتات في منطقة نويكولن في برلين نموذجا. مؤلفا الكتاب هم كاي هيرمان وهورست ريك. قدم الكتاب هورست إبرهارد ريختر. ويشير عنوانه إلى حديقة بانهوف في برلين، التي كانت مكانا مركزيا لاجتماع مشهد المخدرات في برلين الغربية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين. لحماية هوية بطلة الرواية، تم اختصارها إلى كريستيان ف. في الكتاب. ومع ذلك، على مدار ثمانينات القرن العشرين، أصبحت كريستيانا فلشيرينو ضيفة مشهورة في البرامج الحوارية التلفزيونية. وأصبح الكتاب أنجح كتاب ألماني غير روائي في فترة ما بعد الحرب، ترجم إلى ثماني عشرة لغة، وحقق المركز الأول في الأكثر مبيعا لأسابيع طويلة بعد صدوره. ولقد طرح للتدريس في المدارس لعدة سنوات، مما أثار سجالا حول طرحه أيضا بين مؤيد ومناهض.

حياة تراجيدية

أمّا في ما يتعلق بحياة كريستيانا فلشيرينو، فيمكن تأليف كتب كثيرة حولها، حياة مليئة بالتراجيديا والأسئلة الوجودية، هي التي أدخلت المصحات مرات عديدة، واحتجزت في أقسام الشرطة، وأرسلتها والدتها إلى هامبورغ عند أقربائها أو جدتها من أجل إبعادها عن ظروف الانتكاسة، لكنها دائما ما وجدت طريقا إلى عالم يفتح لها أبواب العودة باستمرار، حتى عندما عاشت في اليونان كانت تبحث عن هذا العالم، ولم تستطع الحفاظ على حياة تؤهلها لاحتضان طفلها فيليب ومواكبة نموه وتطوره، فلقد سحب منها إلى مراكز الرعاية، وهي مصابة بالتهاب الكبد C. يمكن تتبع بقية الحكاية في كتاب "حياتي الثانية" الذي أعدته الصحافية في برلين سونيا فوكوفيتش بعد خمسة وثلاثين عاما على نشر الكتاب الأول، وفيه أيضا تسرد البطلة ما جرى منذ البداية من منظور آخر، فهي لم تعد تلك الطفلة التي أدمنت التعاطي بعمر الثلاثة عشر عاما، واضطرت بعدها بقليل إلى العمل في تجارة الجنس من أجل تأمين حاجتها من الهيروين، إنما صارت امرأة ناضجة ذات خبرة وتجارب حياتية، وواعية تماما لحالتها وحياتها التي لم تدب فيها القطيعة بينها وبين عالم الإدمان.

كثيرا ما خلّد الأدب بعض الأمكنة، وحتى المدن، ليس مع ظهور الرواية فحسب، وإنما منذ السرديات الأولى والمرويات الشعبية

كثيرا ما خلّد الأدب بعض الأمكنة، وحتى المدن، ليس مع ظهور الرواية فحسب، وإنما منذ السرديات الأولى والمرويات الشعبية أو القصص الدينية، يمكن الحديث عن أماكن الحج لدى غالبية الشعوب وارتباطها الوثيق بالمرويات، ومنها مثلا الشام القديمة بين باب كيسان وباب شرقي، حيث يأتي الزوار ممتلئين بالخيال المؤثر والتجارب الروحية المأمولة باقتفاء خطوات بولس الرسول. كذلك القاهرة بأحيائها وأسواقها الشعبية من خلال روايات نجيب محفوظ، أو لندن التي أعاد اختراعها تشارلز ديكنز، يمكن عدّ كثير من الأمثلة، عن دور الأدب في تخليد الأمكنة أو منحها هويات خاصة، إنما أن يدهمني شعور كهذا ويفتح في وجهي بوابة عريضة للسؤال والبحث من الاحتكاك الأول بيني وبين مكان لا أعرفه، فهذا أمر جدير بالتوقف عنده، وكأن كتاب "نحن أطفال حديقة الحيوان" وصم المكان ببصمته.

font change

مقالات ذات صلة