الفاشر... مخاوف التوحش وإطالة أمد الصراع في السودانhttps://www.majalla.com/node/318916/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B4%D8%B1-%D9%85%D8%AE%D8%A7%D9%88%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D8%B4-%D9%88%D8%A5%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A3%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86
القاهرة- بين وقوع الكارثة وانتظارها، يعيش سكان مدينة الفاشر- عاصمة ولاية شمال دارفور أكبر ولايات الإقليم- ويشاطرهم هذا القلق جميع السودانيين والمجتمع الإقليمي والدولي. بسبب التداعيات الخطيرة المتوقعة حال اجتاحت "قوات الدعم السريع" المدينة التي تحولت إلى ملاذ آمن لأكثر من مليوني مواطن سوداني أعزل نصفهم جاءوها فارين من الحرب في ولايات دارفور الأخرى التي سيطرت عليها "قوات الدعم" بعد انسحاب الجيش السوداني منها، لتصبح مدينة الفاشر هي المدينة الوحيدة التي لا تزال تحت سيطرة الجيش ولكنها سيطرة تحت حصار يزداد إحكاما وضراوة كل صباح.
المعركة الأعنف
كثير من الخبراء العسكريين يتوقعون عنفا ودموية وبشاعة مفرطة في معركة الفاشر تتجاوز كل ما سبق في حرب السودان، ويعزون ذلك لأسباب عديدة في مقدمتها الاحتشاد الذي حدث داخل المدينة من قوات الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل ضد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير الذي استخدم "قوات الدعم السريع" لقتالها في السابق. وبين الطرفين ثارات قديمة وتنافس خفي حول السيطرة على إقليم دارفور ككل، كما أن المعركة لا تخلو من اصطفافات عرقية، إذ تعود أصول الحركتين المتحالفتين مع "حركة جيش تحرير السودان" بقيادة حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، و"حركة العدل والمساواة" بقيادة وزير المالية الحالي جبريل إبراهيم، تعود أصولهما إلى قبيلة الزقاوة المنتشرة في الإقليم، بينما تجد المكون الأساسي لـ"قوات الدعم السريع" من قبيلة الرزيقات إحدى كبريات القبائل العربية في الإقليم.
منعت "قوات الدعم" إمدادات الغذاء والدواء عن مدينة الفاشر، الأمر الذي أجبر الجيش السوداني على إسقاط المؤن والذخائر إلى جنوده من الجو
ومما يزيد من قلق المجتمع المحلي والإقليمي والدولي على حد سواء، المأساة الإنسانية التي سوف تنجم، لا محال، عن اجتياح الفاشر بعد أن تحولت إلى معسكر نزوح كبير لمئات الآلاف من النساء والأطفال والرجال العزل الذين فروا إليها بعد اجتياح مدنهم من قبل "الدعم السريع".
ومن مبررات هذا القلق تاريخ المعارك بين الجانبين– "الدعم"، و"جيوش الحركات"- في الماضي والتي لم تخرج من دائرة الاستئصال وكسر العظم، ودائما ما كان يتفوق فيها "جيش محمد حمدان حميدتي" المدعوم من حكومة المخلوع البشير. كما أن ما حدث مؤخرا في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور جراء اجتياح "الدعم السريع" لها في فبراير/شباط الماضي لا يزال شاخصا في الأذهان، وهي المعركة التي وصفها مجلس الأمن الدولي ومنظمات دولية أخرى بأنها جريمة حرب مكتملة الأركان ترقى إلى الإبادة الجماعية، وجرائم التطهير العرقي، بحسب التقرير.
وقالت منظمة "هيومان رايتس ووتش" إن "قوات الدعم السريع" استهدفت المساليت، "الذين لجأوا إلى ضاحية أردماتا بالجنينة، واعتقلت رجالا وأولادا، وقتلت ما لا يقل عن ألف، وفق الأمم المتحدة".
تعهدات... ولكن
الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الحركات المسلحة من جهة، و"قوات الدعم السريع" من جهة أخرى، في محيط مدينة الفاشر مستمرة لأسابيع، واشتدت منذ 10 مايو/أيار الماضي، بعد أن ضربت "قوات الدعم" حصارا قاسيا على المدينة منع عنها إمدادات الغذاء والدواء، الأمر الذي أجبر الجيش السوداني على إسقاط المؤن والذخائر إلى جنوده من الجو.
وقال سكان محليون إنهم يعتمدون على الحبوب المتبقية من محصول العام الماضي ونفد بعضها فعليا، وبعض ما توفر من إغاثة قبل الحصار ولم يعد يعمل سوى مشفى وحيد متواضع الإمكانيات شمال شرقي المدينة.
عدم الاستقرار الذي سوف يعيشه إقليم دارفور لوقت طويل هو السيناريو الذي يسعى المجتمع الدولي إلى تجنبه
وقالت منظمة "أطباء بلا حدود" إن عدد القتلى من المدنيين هو 56 قتيلا خلال أسبوعين في شهر مايو، وأكثر من 500 جريح. ودائما ما تقع الاشتباكات في محيط المدينة، ولكن القصف المدفعي من "قوات الدعم السريع" وهجمات سلاح الطيران التابع للجيش، يسببان خسائر كبيرة وسط المدنيين، خاصة أن قوات الجيش والحركات المسلحة يعسكران بالقرب من الأحياء السكنية.
وبعد الهجوم الذي وقع في 10 مايو، سارع الجانبان بإصدار بيانات يتهم كل طرف فيها الآخر بشن الهجوم، في رسالة للمجتمع الدولي بأنه الطرف الملتزم بالتعهدات المتعلقة بعدم التصعيد ومهاجمة ارتكازات "الدعم السريع" من قبل الجيش، وعدم اجتياح المدينة من قبل "الدعم السريع". وقال بيان الجيش: "قواتنا موجودة في مواقعها وتتعرض للهجوم، والشيء المنطقي والمتوقع بالطبع أن نقوم بالرد على هذا الهجوم وصده، وهذا هو ما يحدث في الفاشر أو في أي مواقع أخرى. وجاء في بيان "الدعم السريع": "ما زلنا ملتزمين، لأن الفاشر بها عدد كبير جدا من المواطنين، ولا يمكن أن نهاجمها أبدا إلا في حالة هجوم قوات الحركات المسلحة على قواتنا، ولذلك نحن من حقنا أن نرد على هذه الحركات وندافع عن أنفسنا".
ورغم محاولة إظهار عدم خرق الالتزام من كل طرف فإن الأوضاع تزداد كارثية كل يوم، وخاصة للمدنيين الذين يُقتلون كل يوم بسبب تبادل المناوشات.
ماذا يعني السقوط للمجتمع الدولي؟
ربما ينظر المجتمع الدولي إلى الكارثة الإنسانية الناجمة عن سقوط مدينة الفاشر على أنها أقل مخاوفه، رغم فداحتها المتوقعة، بينما نجد الزعزعة وعدم الاستقرار الذي سوف يعيشه إقليم دارفور لوقت طويل هو السيناريو الذي يسعى المجتمع الدولي إلى تجنبه جراء هذا السقوط، وفي 14 مايو الماضي، كرر الأمين العام للأمم المتحدة مناشدته للطرفين بعدم التصعيد وخوض معارك في الفاشر وضرورة حماية المدنيين وفتح مسارات للإغاثة. وصدر بيان عن الأمم المتحدة في الاتجاه ذاته. وقالت وزارة الخارجية الأميركية: "الولايات المتحدة تدعو كل القوات المسلحة في السودان إلى وقف الهجمات فورا على الفاشر".
المجتمع الدولي سيجد نفسه ملزما بالتعامل مع سلطة "قوات الدعم" في دارفور لإغاثة المدنيين المتضررين من الحرب
إن مخاوف المجتمع الدولي من حالة الفوضى وعدم الاستقرار لا تنحصر في إقليم دارفور، ولكنها ستمتد إلى المنطقة والدول المجاورة لدارفور في تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى وليبيا، وهي منطقة ذات هشاشة أمنية عالية، وتعيش صراعات موارد نفوذ ونزاعات قبلية، والأهم من ذلك الصراع الدولي على غرب أفريقيا الذي ارتفعت وتيرته مؤخرا بين الاتحاد الأوروبي وتحديدا الجمهورية الفرنسية وأميركا من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. ومن المهم ذكر الانتصارات التي حققها الحلف الروسي الصيني في مناطق متفرقة بأفريقيا، وخاصة المناطق التي لها تقاطعات مع الصراع في إقليم دارفور في مالي والنيجر وأفريقيا الوسطى، وقطعا فإن عدم الاستقرار سوف يجعل الإقليم منطقة شديدة الجاذبية للإرهاب والتطرف وتجارة السلاح والبشر وكل ما هو محرم.
ماذا يعني السقوط لـ"الدعم السريع"؟
(1) السيطرة على إقليم دارفور بالكامل أول ما سيتحقق لـ"قوات الدعم السريع" عند سقوط مدينة الفاشر وبطبيعة الحال سيمتد نفوذها على أجزاء واسعة من ولايات كردفان المتاخمة لدارفور. وتصبح المعركة وسط السودان في ولايات الجزيرة وسنار والخرطوم العاصمة معارك سهلة الإدارة قليلة التكلفة، والأهم من ذلك يصبح جواره الغربي المنفتح على تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى وليبيا مجالا حيويا آمنا يربطه مع الإمداد بالعتاد الحربي وبالرجال المقاتلين في آن واحد إضافة إلى أن إقليم دارفور غني بالموارد، وتحديدا معدن الذهب الذي يصعب على قيادة "الدعم السريع" التفريط فيه، لذلك نجد "قوات الدعم السريع" شديدة الحرص على كسب معركة الفاشر، وأن تنتهي بالسيطرة عليها، وهذا ما يفسر البيان الذي صدر عنه في 18 مايو، وجاء فيه: "نؤكد استعداد وجاهزية قواتنا لمساعدة المواطنين بفتح مسارات آمنة لخروجهم إلى أماكن أخرى أكثر أمنا يختارونها طوعا وتوفير الحماية لهم".
وفعليا تتخوف "قوات الدعم السريع" من الانتهاكات التي من المؤكد وقوعها وسط المدنيين لحظة اجتياح الفاشر والتي سوف تجر عليه إدانات جديدة ربما أكثر من سابقاتها في الجنينة وغيرها، لذا من الممكن اعتباره جادا في ما يمكن اعتباره أماني يصعب تحقيقها.
(2) لأهمية التحليل الذي سيرد هنا، أفردنا له فقرة منفصلة، وهو ما يفسر بشكل جلي حرص "قوات الدعم" على السيطرة على الفاشر، ومن ثم إقليم دارفور. ويكشف أيضا قلق المجتمع الدولي من هذه السيطرة، وهو الأمر المرتبط بتحول "قوات الدعم السريع" وقياداتها إلى سلطة مطلقة في إقليم دارفور لا علاقة لحكومة السودان المركزية بها.
وعند هذه النقطة فإن المجتمع الدولي المتمثل في منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية سيجد نفسه ملزما بالتعامل مع سلطة "قوات الدعم" في دارفور لإغاثة السكان المدنيين المتضررين من الحرب، وخاصة مع أوضاع كارثية متوقعة، وهذا سيعيد للأذهان ما حدث في مطلع تسعينات القرن الماضي في الحرب بين حكومة السودان في عهد نظام الإسلاميين و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة الدكتور جون قرنق قبل انفصال أو استقلال دولة جنوب السودان عندما أطلقت الأمم المتحدة عملية "شريان الحياة" لإغاثة المواطنين. وتحكمت "الحركة الشعبية" في الإغاثة لأنها كانت تفرض نفوذها في مناطق واسعة بالجنوب وأجزاء من كردفان ومناطق النيل الأزرق.
منذ اندلاع القتال في دارفور ارتكبت أخطاء عدة من الجيش السوداني و"قوات الدعم". وأول هذه الأخطاء العودة إلى تسييس القبائل
المهم هنا أن تحكّم "الحركة الشعبية" في الإغاثة وطد نفوذها بين السكان ووفر لها مزيدا من التأييد الشعبي، كما ساعدها الإمداد الإغاثي الدولي في توفير احتياجاتها من الغذاء والدواء للجنود والمواطنين الداعمين لها على حد سواء. والمفارقة أن قائد "قوات الدعم السريع" طالب في تغريدة له المجتمع الدولي بإطلاق عملية إغاثة للمواطنين في دارفور شبيهة بعملية "شريان الحياة" التي جرت في جنوب السودان.
وما يزيد من المخاوف سجل "قوات الدعم السريع" الحافل بالاستيلاء على قوافل الإغاثة منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023، وباختصار يعني سقوط مدينة الفاشر في يد "الدعم السريع" بسط النفوذ والسيطرة على أجزاء واسعة من غرب السودان وتأمين إمداده بالعتاد الحربي والجنود من القبائل الممتدة إلى ما بعد حدود دارفور، فضلا عن تقوية مركزه من خلال الإغاثة الدولية.
ماذا يعني السقوط للحكومة؟
من نافلة القول إن الحكومة السودانية ستفقد بسقوط مدينة الفاشر السيطرة على إقليم دارفور الاستراتيجي من حيث الموقع والموارد، وستفقد فورا كثيرا من التعاطف والتأييد الشعبي لها لجهة أنها تبشر المواطن باسترداد الولايات والمدن التي فقدتها في الشهور الأولى من الحرب، إلا أنها ستفقد إقليما استراتيجيا مهما في الوقت نفسه.
كما أن هذا السقوط سيضع الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه وتقاتل إلى جواره في خانة المهزوم. ومن المتوقع أن يتسبب ذلك في تسرب كثير من الجنود، خاصة في صفوف قوات الحركات المسلحة.
وكما أشرنا سابقا سينعكس استيلاء "الدعم السريع" على الفاشر مباشرة على المعركة في كردفان الكبرى وولايات وسط السودان. وبينما ستكون أسهل في إدارتها سيصعب أمرها على الجيش والحكومة في ظل خطوط إمداد مفتوحة للعدو تسهّل دخول المقاتلين والمؤن والعتاد.
ومنذ اندلاع القتال في دارفور ارتكبت عدة أخطاء من الجانبين (الجيش السوداني و"قوات الدعم"). وأول هذه الأخطاء من جانب الحكومة العودة إلى منهج تسييس القبائل، وهو منهج مستعار بالكامل من النظام السابق بقيادة البشير، ثم دفع الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام للمشاركة في الحرب، وخاصة "حركة جيش تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، و"حركة العدل والمساواة" بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم.
وفي بداية الحرب أعلنت هذه الحركات وقوفها على الحياد لمصلحة السكان، ولكن سرعان ما تراجعت وانخرطت في المعركة إلى جانب الجيش، وكلا الأمرين (تسييس القبائل وانحياز الحركات للجيش) أعاد الصراع على أساس إثني إلى السطح. أما "الدعم السريع" فقد أظهر وحشية مفرطة في قتاله الجيش، ومارس انتهاكات فظيعة تجاه السكان، وخاصة في الجنينة ونيالا. المفارقة أن كل هذه الأخطاء بدأت تتجلى الآن في معارك الفاشر وهو ما يفسر القلق المحلي والإقليمي والعالمي من معركة صادمة يمتد تأثيرها إلى دول الجوار.