الديموغرافيا... مفتاح ازدهار الدول أو انهيارها

تحديات اقتصادية كبرى نتيجة تراجع النمو السكاني وانخفاض نسب الخصوبة

Shutterstock
Shutterstock
مشاة عند معبر شيبويا في طوكيو، اليابان، حيث يعبر أكثر من 2.5 مليون شخص يوميا.

الديموغرافيا... مفتاح ازدهار الدول أو انهيارها

تشكو الدول الصناعية من تدني معدلات النمو السكانية وتراجع أعداد المتدفقين إلى سوق العمل وتراجع المنتسبين إلى مدارس التعليم العام. تبرز هذه المشاكل في دول مثل ألمانيا واليابان والصين وكوريا الجنوبية وإيطاليا. في مقابل ذلك، تتبنى العديد من هذه الدول سياسات متشددة في تعاملها مع المهاجرين القادمين من دول فقيرة أو متدنية الدخل.

بدأت الولايات المتحدة الأميركية تعاني من ظاهرة النمو السكاني المتباطئ أو المتراجع، لكنها تبنت في السنوات الأخيرة سياسات هجرة محافظة ومتشددة. وحاول الرئيس السابق دونالد ترمب أن يبني سوراً عظيماً على الحدود مع المكسيك أثناء رئاسته التي انتهت في عام 2020.

تحولات الديموغرافيا

لا شك أن متغيرات الديموغرافيا في هذه الدول الصناعية أو ذات الدخل المرتفع تعود الى طبيعة الأوضاع الاقتصادية التي أدت إلى تحولات اجتماعية وسكنية وعززت التحضر حيث أصبح سكان المدن والمناطق الحضرية أعلى بكثير من سكان المناطق الريفية أو تلك المدن الصغيرة الواقعة على مسافات بعيدة من المدن الرئيسة.

المعدل العالمي للنمو السكاني 0,88% سنوياً، بتراجع مضطرد على مدى السنوات السبعين المنصرمة حيث كان 2,01% عام 1955

هناك انطباع عام بأن الحياة في المدينة وامتهان وظائف وحرف ذات طابع تقني أو صناعي والتأثر بمتغيرات التكنولوجيا، لا بد أن تدفع إلى تبني قيم اجتماعية تؤكد  أهمية الحياة الفردية أو الخاصة والاهتمام بالتعليم والحرص على تزويد الأبناء المحدودي العدد بأفضل تعليم متاح.

تراجع النمو السكاني والخصوبة

تشير أحدث التقارير الأممية الى أن عدد سكان العالم قد بلغ 7,9 مليارات نسمة (بموجب بيانات 2022) في حين لا يزيد معدل الخصوبة (متوسط عدد الأبناء للمرأة في سن الانجاب) على 2,7. أما معدل النمو السكاني فيتراوح بين صفر في المئة في الصين و0,7 في المئة في إيران و0,1 في المئة في روسيا، وتظل الدول النامية أعلى في معدلات النمو السكاني. أما المعدل العالمي للنمو السكاني فيدور حول 0,88 في المئة سنوياً، وقد تراجع هذا المعدل باضطراد على مدى السنوات السبعين المنصرمة حيث كان 2,01 في المئة عام 1955.

Shutterstock
شارع مزدحم في وسط مدينة فارناسي في الهند.

عكف المتخصصون في الديموغرافيا مدى العقود السبعة المنصرمة على الشكوى من الانفجار السكاني، ودعوا إلى تضافر الجهود العالمية من أجل الحد من الزيادة السكانية في دول عدة، خصوصاً دول العالم الثالث، وأشاروا إلى أهمية تبني برامج تنظيم الأسرة في هذه الدول. ساهمت منظمة الصحة العالمية في تقديم الإرشادات وبرامج الوقاية وتسهيل الحصول على وسائل منع الحمل وحماية المرأة من الأخطار في الحمل والولادة. لكن هذه البرامج والرعاية الطبية لم تفلح في كل الدول النامية التي ظلت تعاني من ارتفاع أعداد المواليد في المناطق الريفية والأحياء الشعبية المتدنية الدخل. بيد أن التطورات في المجتمعات الصناعية المتقدمة اقتصادياً واجتماعياً دفعت إلى ظواهر تمثلت في العزوف عن الزواج  المبكر وتأخير الإنجاب وتحديد أعداد الأطفال.

الصين تتراجع بعد تفوق الهند

تعد الهند الآن الأعلى في عدد السكان بـ1,42 مليار نسمة ويقدر النمو السكاني فيها بـ0,7 في المئة سنوياً بحسب بيانات البنك الدولي لعام 2022، علماً بأن معدل نموها السكاني كان 2,3 في المئة في عام 1972. تفوقت الهند بعدد السكان على الصين التي يبلغ عدد سكانها 1,41 مليار نسمة.

تراجع النمو السكاني في الصين، دفع السلطات إلى إعادة النظر في سياساتها، وأجازت لكل أسرة إنجاب طفلين ثم عادت وسمحت بزيادة العدد بعدما اتضح أن البلاد ستشهد تراجع الأعداد في سوق العمل

لكن الصين كانت قد اتبعت سياسات صارمة تعتمد على أن لا يزيد عدد الأطفال للأسرة الواحدة على طفل واحد. تم تبني هذه السياسة خلال الفترة من 1979 إلى 2015. تراجع النمو السكاني في الصين، دفع السلطات إلى إعادة النظر في تلك السياسة وأجازت لكل أسرة إنجاب طفلين ثم عادت وسمحت بزيادة العدد بعدما اتضح أن البلاد سوف تشهد تراجع الأعداد التي يمكن أن تنخرط في سوق العمل، وبعدما أخذت مظاهر الشيخوخة تبرز في المجتمع الصيني حيث بلغت نسبة من تجاوزت أعمارهم 65 عاماً 16,3 في المئة في عام 2023. 

حلقة الديموغرافيا والاقتصاد

لا شك أن هذا التطور الديموغرافي يمثل تحدياً مهما للنمو الاقتصادي نظراً الى ما يشكله من تراجع في الطلب على السلع الأساسية والسكن وانخفاض نسبة من هم في سن العمل، أي بين 15 و64 عاماً. هذه التحولات في الأوضاع السكانية تدفع السلطات في الصين وفي دول أخرى تواجه الأزمة نفسها إلى تبني سياسات مختلفة تحفز على الإنجاب والزواج. لكن هل هذه السياسات تلاقي قبولاً مجتمعياً؟ 

لم تعد المجتمعات في الصين واليابان وألمانيا ودول متقدمة أخرى، تهتم بالتوجهات الحكومية الداعية الى زيادة النسل أو الزواج المبكر بعدما أصبحت الأنماط الاجتماعية المتعلقة بالزواج والإنجاب متأصلة في الثقافة الحضرية وتمثل منظومة قيم غير قابلة للتعديل في ظل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية. كوريا الجنوبية التي أصبح معدل الخصوبة فيها في عام 2023 لا يتجاوز 0,72 طفلا للمرأة في سن الإنجاب، دعت أخيراً إلى تأسيس وزارة متخصصة بشؤون الأسرة والإنجاب. لكن الخبراء يذكرون بأن تدني معدلات الإنجاب، ومن ثم النمو الطبيعي للسكان، يعود الى صرامة بيئة العمل وركود مستويات الرواتب والأجور وارتفاع تكاليف المعيشة. هذه الحقائق دفعت الأجيال الشابة الى التريث في الزواج والإنجاب.

إقرأ أيضا: بين شيخوخة العالم المتقدّم وفتوّة العالم الفقير: وقائع أزمات مقبلة

لا يقتصر الأمر على الدول السابق ذكرها، حيث أن البرازيل في أميركا اللاتينية، أصبحت تعاني انخفاض الخصوبة الذي يدور حالياً حول 1,64 طفلاً للمرأة في سن الإنجاب. وهناك كندا التي انخفض هذا المعدل لديها إلى 1,46 طفلاً للمرأة. الدول النامية التي تعاني من مشاكل اقتصادية وزيادة سكانية، شهدت أيضاً تراجعاً في معدل الخصوبة.

لا تزال معدلات الولادات عالية في الجزائر ومصر والعديد من الدول العربية والأفريقية، ولكن الضغوط الاقتصادية والتحولات الاجتماعية، لا بد أن تؤدي إلى مزيد من الانخفاض

على سبيل المثل، الجزائر، التي كان معدل الخصوبة لديها 7,6 طفلاً للمرأة في عام 1971، تشير الإحصاءات الى أنه أصبح يعادل 2,89 طفلاً للمرأة في عام 2021. كذلك الحال في مصر بعدما تراجع من 6,03 طفلاً للمرأة في عام 1971 إلى 2,92 طفلاً للمرأة في عام 2021. بطبيعة الحال، لا تزال المعدلات عالية في الجزائر ومصر والعديد من الدول العربية والأفريقية، ولكن الضغوط الاقتصادية والتحولات الاجتماعية، لا بد أن تؤدي إلى مزيد من الانخفاض في معدلات الخصوبة.

شيخوخة المجتمعات المقبلة

هناك تحديات تواجه التكوينات الأسرية، ومنها ما سبق ذكره من ارتفاع تكلفة المعيشة وضغوط العمل. لكن هناك أيضا معضلات التكيف والترابط بين أفراد الأسرة وارتفاع معدلات الطلاق. هذه المشاكل المتزايدة في مختلف دول العالم، لا بد أن تؤثر على معدلات النمو السكاني. يضاف إلى ذلك الحروب والنزاعات الأهلية التي تدفع أفرادا وجماعات للهروب من بلدانهم والتوجه إلى مناطق أخرى في العالم، خصوصاً الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة وكندا واوستراليا.

إقرأ ايضا: المهاجرون..."يهود" العالم الجدد

يواجه هؤلاء المهاجرون معوقات الاستقرار والتعامل مع قوانين الهجرة في هذه الدول، ودخول سوق العمل وتحمل المعيشة المكلفة، فكيف يمكن لهم تأسيس الأسر المستقرة والتعامل مع القيم المجتمعية في الدول المضيفة لهم؟

Shutterstock
مجموعة من كبار السن يلتقطون صورة جماعية.

هل يمكن أن نتوقع مؤشرات جديدة للخصوبة في الدول المتقدمة والنامية حتى عام 2050؟ غني عن البيان، أن معدلات النمو السكانية في مختلف دول العالم التي شهدها القرن العشرون، كانت فلكية ولن تتكرر خلال السنوات المقبلة، وقد يكون معدل الخصوبة للنساء في السنوات المقبلة منخفضاً بما يؤدي إلى شيخوخة المجتمعات في مختلف الدول الصناعية أو المتقدمة وقد تلحق بها الدول النامية.

font change

مقالات ذات صلة