كتابة السيرة الذاتيّة أو سيرة الآخرين أتراها ضربا في "اليوتوبيا" أو كتابة الوهم والخرافة أو فلنقل هي نصّ على نصٍّ تضعه أو تقتبسه، مخيّلة الكاتب عن سواه في المنحيَين السلبي والإيجابي؟
كثيرة هي السير التي وُضعت عن كاتب أو سياسي، أو مفكّر، وكوّنت صورة ما عنه، قابلتها سِيَر أخرى عن الأشخاص الآخرين أنفسهم، وإنما بصورٍ متناقضة ومختلفة.
فكتابة السيرة الذاتية لا تنتمي إلى الواقعية، والكتابة نفسها ليست فنّا واقعيّا بقدر ما هي "فنّ اللاواقع" في الرؤيا الخاصة، والصوغ الخاص والإحساس الخاص، وكتابة السيرة لا تشذّ عن القاعدة أو أنها مهما وثّقت وادّعت الموضوعيّة والتنقيب والربط والمقارنات واعتماد الصدق والصراحة، تبقى فنّا خاصّا عن شخصية ما. ولهذا عندما توضع سيرة شخصيّة بأقلام عدّة، أي بحساسيات عدّة، وبأزمنة عدّة، وبأمكنة عدّة، فإنّ حقيقة هذا الشخص الخاضع لمباضع كتّاب السِّيَر (ولمبضعه) الذاتي تختفي تحت التراكمات حتى لا يبقى من الشخص المعني سوى بقايا أو أطلال تجمّل أو تلوّن أحيانا وتشوِّه أحيانا أخرى.
من قال إنّ المؤرخين مهما بلغت موضوعيتهم واطلاعهم ليسوا من أهل "الخرافة" أو من أهل التخيّل
وهناك من يقول مدافعا إن كتابة السيَر تنتمي إلى كتابة حفظ الذاكرة وصون الوقائع. هذا صحيح لكن مَنْ قال إن كتابة التاريخ نفسها لا تنتمي أصلا إلى ما يسمّى المخيّلة الفيلميّة أو العِلم المتخيّل. ومن قال إنّ المؤرخين مهما بلغت موضوعيتهم واطلاعهم ليسوا من أهل "الخرافة" أو من أهل التخيّل، يختارون ما يشاؤون، ويستقون من الضروري ليصوغوا التاريخ وفق تصوّرهم وانتساباتهم وثقافاتهم ومفاهيمهم الخاصة ليعيدوا مسرحة الذاكرة، مسرحة ذات رهانات وتجارب ونتائج وصُوَر ذاتيّة. المؤرخون كتّاب سِيَر في النهاية، وكتّاب السِيَر مؤرّخون. والعلاقة بينهم لا تختلف ما بين شاعر وشاعر أو بين روائي وروائي وفنّان وآخر. بل يمكن الذهاب بعيدا في هذه المسألة للمقارنة بين كتّاب السِّيَر وكتّاب المسرح من مؤلفين ومقتبسين في قراءتهم الذاتية للواقع أو للنصّ أو للتاريخ. هناك سِيَر نفت حتى وجود شكسبير مثلا، وأخرى نسبت مسرحياته إلى سواه، وأخرى صوّرته قاتما، صارما، وأخرى صورته ممثلا فاشلا رجعيّا، وأخرى صوّرته ثوريّا، وأخرى صوّرت مثلا هاملت شخصية ترمز للمثقف المتردّد، وأخرى رأت فيه مجنونا، وأخرى خائنا... وهذا يجري مجرى شخصية شايلوك في "تاجر البندقيّة" باعتباره رمزا لليهودي القذر، وكادت تفضي هذه المراجع إلى اعتبار شكسبير معاديا للسامية. بل واعتبر بعضهم أن شخصية عطيل الأسمر تعود إلى أصله المغربي، عطا الله أو عبد الله، ورأى فيها نظرة سلبيّة إلى العرب... واعتبره بعضهم مجرّد إنسان تافه ورشّحوا على امتداد سنوات نحو خمسين كاتبا كتب مسرحياته، بل إنهم اعتبروا أنه "غير موجود" لكن بعد هذه المحاولات لنفي أعظم شاعر عرفتْه البشريّة، تبقى أعماله الأكثر تمثيلا على المسارح العالميّة.
فأين شكسبير الحقيقي في كل هذه التأويلات، فمعظم أعماله خضعت مع المخرجين للاقتباس، أي لقراءة المخرج أو الناقد أو المؤرخ قراءة خاصة، يحوّلون نصوصه مادة أولية خاضعة للتأويل والتفسير ويسقطون ما يريدون عليها من أفكارهم أو أيديولوجيتهم ومعتقداتهم. فتارة يجعلون من مسرحياته ومونولوغاته ذريعة يوظفها المخرجون لمقدمة آرائهم. فنبحث عن مسرحية شكسبير ونراها في مفهوم المخرج؛ فيتكلم أحدهم عن هاملت بطريقة وأخرى، وثانٍ بطريقة مختلفة، وثالث ورابع بما يتناسب بحساباته المسرحية، وعندها يصبح هاملت، أو عطيل، أو شايلوك... مجرّد مادة للنظريات المتبادلة فلا نعرف أيّا على نقائضها.
ماكبث أو هاملت أو أوديب أو أنطيغون أو ميديا وسواهم، كل منهم يصاغ بطريقة انتقائية أو فلسفية أو ذاتية، خصوصا عندما يعمد المخرجون برؤاهم، إلى تحويل هذه المسرحية أو تلك إلى مونودراما، أو من ثلاث شخصيات كما في "الملك يموت" مثلا، ويدخلونها كمادّة أوّلية ونسف بنيتها وتحوير شخصياتها.
ماكبث أو هاملت أو أوديب أو أنطيغون أو ميديا وسواهم، كل منهم يصاغ بطريقة انتقائية أو فلسفية أو ذاتية
كتابة السِّيَر أو اقتباسها لا تختلف عند كل هذه الكتابات والعروض المسرحيّة والسينمائيّة (وحتى الروائية): أي تخضع لمعالجات جديدة، تساعدها سينوغرافيا فانتازيّة، كإضاءة خافتة أو قويّة، أو مزدحمة بعناصرها (فتنتصر السينوغرافيا الفرجوية) على النص وكذلك على الإخراج، تكريما لمفهوم الاقتباس أو النقل المغلوط والمتراكم... ويعمد بعض المخرجين إلى إعلان اختراقه لحقيقة هذا الاقتباس، ليخرج المتفرّج مذهولا بعبقرية المقتبس أو الكاتب، خصوصا عندما تقدم الملابس بجمالياتها المسرحية إضافة إلى فهم تلك المسرحيات، لا سيما عندما يلبس هؤلاء ملابس عصرية ليدلّوا على أن هذه المسرحية تلامس الواقع الزمني المعيش. والغريب أن كل مقتبس أو كاتب سيرة، يساجل سواه من أمثاله بأنه ينجح في اختراق أسطورة الشخصيّة التي أعاد كتابتها أو عرضها، وأن الآخرين قد فشلوا، ونتذكر سجالا بين عدة نقّاد حول من هو "غودو"، وماذا يعني انتظاره حتى غدت مثلا تسأل فيه أحدهم عن الوضع السياسي أو الثقافي فيردّ "في انتظار غودو". "في انتظار غودو" تعني لبعضهم "انتظار اللاشيء" وهي قمّة تشاؤم بيكيت، أي الدخول في أسطرة بعض الشخصيات المسرحيّة والسينمائيّة، والسياسيّة، والعلميّة... وهذا يعني أن واحدا يدخله الأسطورة، وآخر يُخرجه منها.
كتابة السِّيَر الذاتية لا تشذّ عن هذه القاعدة: فمئات الكتّاب والشعراء والفنانين والشخصيات المرموقة، تأخذ من تاريخها ما يجمّل صورتها، ولو كانت سوداء، محمّلة بالأخطاء والكوارث. إنها كتابة الأنا: إما بصيغة الغائب (وهناك متخصّصون بهذا المجال)، وإما بصيغة المتكلم. وعرفت التلفزيونات العربية مسلسلات عدة عن سِيَر بعض كبار الرجالات، والفنّانين، والمطربين، كصباح وأسمهان وفريد الأطرش وأم كلثوم... وقد أخضعت نصوص كتّاب سيرهم للرقابة العائلية، أي حذف كل ما يمس "أسطورة" هؤلاء، أي أسطورة تلفزيونيّة لا تشبه حياتهم.
طبعا هناك سِيَر مختلفة الأسلوب والمضمون، وهي قليلة، يكشف كاتبها عن أمور دقيقة بالنسبة إلى الآخرين وعن أسرار لا يبوح بها إلّا من رمى كلّ أقنعته.
أوليست كتابة السِّير أقنعة لا يرى أحدٌ كل وجوهها ودواخلها؟