موسوعة التاريخ الشيعي... الوثيقة في مواجهة الخرافةhttps://www.majalla.com/node/318886/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D8%A7%D9%81%D8%A9
بات التعامل مع التاريخ الشيعي من خارج بنى التحشيد الأيديولوجي والخرافات والمبالغات والبنى الطقسية والولائية، مستحيلا مع السطوة الأمنية والأيديولوجية التي فرضت على الطائفة الشيعية في لبنان منذ ثمانينات القرن الماضي مع نشوء "حزب الله" وتوسعه واحتلاله مفاصل القول والتفكير في الاجتماع الشيعي.
حكم على الشيعة العيش بلا تاريخ وسيرة وكأنهم ولدوا في لحظة نشوء الحزب ولا يملكون حضورا خارج تلك اللحظة التأسيسية، فأخرجوا تاليا من تاريخ البلد والمساهمة فيه ودفعوا إلى اعتناق تواريخ مختلقة ومؤسطرة. لذلك، فإن التدقيق في المصادر والوثائق وإطلاق موسوعة شيعية تلاحق بطريقة بحثية منهجية دقيقة التاريخ الشيعي في لبنان وترصده عبر الوثائق المحققة والمعلومات الموثقة، وإدراج خلاصات ذلك التقصي في موسوعة شاملة من 13 مجلدا ووضعها في متناول العامة، يعد خطوة غير مسبوقة في مجال معالجة المسألة الشيعية.
لا تقتصر أهمية هذا المشروع على الكم الهائل من المعلومات التي يحتويها، بل في التأسيس لعلاقة جديدة مع الذاكرة عموما والذاكرة الشيعية المتأزمة خصوصا، في بلد اعتاد على طمس كل سبل التواصل معها، واعتبار البحث حول التاريخ وفرز الواقعي من المتخيل والزائف والمختلق جريمة لا تغتفر، تضع من يقدم عليها في دائرة الاغتيال كما كان الحال مع مؤسس "أمم" لقمان سليم الذي كان بحثه حول الذاكرة وإصراره على الكشف عن الحقائق حول ما يعتري البلاد من أزمات ومشاكل السبب الرئيس وراء اغتياله.
تكمن أهمية المشروع في التأسيس لعلاقة جديدة مع الذاكرة عموما والذاكرة الشيعية المتأزمة خصوصا
هواجس معرفية
بدأ البحث وفق منسق المشروع ومسؤول التواصل فيه جاد يتيم من "محاولة خلق مناخ للتعامل مع الموضوع الشيعي من خارج التصنيفات التقليدية". ومن هنا يؤكد يتيم أن المشروع "بني على هذا المنطق ونتج منه جهد بحثي تناول المرأة والسياسة والديموغرافيا والتعليم وغيرها من العناوين البارزة، ولم يكن مهتما بتقديم نوع من الدعاية السياسية المضادة للتصورات التي تحكم النظرة إلى الشأن الشيعي بقدر ما كان يهتم بفهم السرديات المؤسسة لهذه الطائفة".
مسؤول التوثيق وباحث كتاب الإعلام عباس هدلا يعتبر من جهته أن المشروع يعنى بتقديم الشيعة "بطريقة مبسطة وسهلة بعيدة عن أي توجيه". ويعرض خريطة المواضيع: "عالجنا تاريخ الشيعة منذ نشأتهم وصولا إلى لحظة ترسيم الحدود وعالجنا مسائل الفقه السياسي الذي يعرض لكل نظريات الفقه عند الشيعة منذ 'الشهيد الأول' إلى محمد حسين فضل الله ونظرية ولاية الفقيه، كما درسنا مواضيع الاقتصاد والعادات والتقاليد والجغرافيا وخرائط الانتشار والإعلام في مساره الذي نشأ عبر مجموعة من المبادرات ثم مر بتحولات كثيرة قبل أن يستقر على حالة الإعلام الحربي والجيوش الإلكترونية ويتحول إلى سلاح. وشمل اهتمامنا موضوع المرأة الشيعية والمشاكل التي تعاني منها تحت سطوة المؤسسة الدينية ومسألة نشوء القضاء الشرعي وإشكالاته، وتطرقنا الى موضوع لافت يرصد علاقة الشيعة بكرة القدم".
يتابع: "قرأنا مسألة تصدير الإسلام الشيعي الجهادي مع دخول 'حزب الله' إلى سوريا ومعركة القصير وطبيعة هذا الدخول، وقد عملنا على هذا الموضوع بالتعاون مع 'مبادرة التاريخ السوري الحديث' التي تضم مجموعة من الباحثين المهتمين بالعمل على هذا العنوان. درست الموسوعة كذلك العلاقات الشيعية الفلسطينية التي نشأت بحكم مجاورة جبل عامل لمناطق الجليل الأعلى التي كانت تسمى سابقا جبل الجليل في مراحل الانتداب البريطاني ونشوء إسرائيل وصولا إلى حرب المخيمات".
أما منسق الأبحاث وباحث كتاب الجغرافيا والديموغرافيا محمود حمادة، فيعيد الدافع الأساس للعمل على هذه الموسوعة إلى "خلو المكتبة اللبنانية من تأريخ عام للطائفة الشيعية بمستويات متعددة، ويضاف إلى ذلك سيطرة سردية واحدة حول المسألة الشيعية".
علي منصور مدير المشروع والمشرف على الأبحاث يتحدث عن تطابق المشروع مع هوية المؤسسة ويشير إلى "جذوره المتصلة بلحظة شروع المؤسس لقمان سليم في التوثيق للضاحية، ولكن تبلوره في موسوعة اتخذ مسارا تزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس لبنان حيث بدا أن التأريخ للبلد يقتصر على الدولة ونشوئها وتطورها، في حين يقل ويكاد ينعدم الاهتمام بالكيانات والجماعات المؤسسة لها".
التأريخ الممنوع
تسبب طغيان السردية الواحدة بصعوبات بحثية، إذ أن التفتيش عن المصادر والوثائق اصطدم في مفاصل عديدة، كما يروي محمود حمادة، "بالانتشار الكبير لمقولات تلك السردية وكثافتها والتي عممت طروحات أسطورية تراكمت وانتشرت وتعززت، مما جعل العمل على تكوين سرديات مختلفة صعبا وشاقا، كما أن السطوة الأمنية التي يفرضها الطرف المسيطر على الساحة الشيعية تعيق العمل الميداني والإحصائي وتجعل العمل على مسائل الجغرافيا والديموغرافيا مغلقا وصعبا، خصوصا أنه يعنى برصد التغيرات المورفولوجية في الأحياء والمناطق والتي يمكن من خلالها تكوين مشهد سياسي وثقافي عن طبيعة التحولات ومعناها ووظيفتها".
قرأ المشروع مسألة تصدير الإسلام الشيعي الجهادي مع دخول 'حزب الله' إلى سوريا
ولما كان العمل البحثي الميداني مستعصيا بسبب تلك السطوة الأمنية، فإن البدائل الممكنة تمثلت في "قراءة التقاطعات والغوص في المعلومات المتاحة وتحليلها ورصد عمليات انتقال الملكيات والمشاريع العمرانية والقائمين عليها وعمليات شراء الأراضي وغيرها".
وتمثّلت الصعوبات في غياب المراجع الدقيقة. يسرد علي منصور مغامرة البحث قائلا: "تتوافر الوثائق عن نشوء الدولة ويمكن العودة إليها لتكوين صورة واضحة، في حين تندر الوثائق الخاصة بالجماعات اللبنانية. خلال عملية البحث وجدنا كمّا متناثرا وغير منتظم من المعلومات التي تحيل إلى سرديات مختلفة ومتباينة ومتناقضة أحيانا، فعملنا على تدقيقها ومقارنتها وتنظيمها قبل أن نعتمدها. لقد جمعنا أقصى ما يمكن جمعه حول الشيعة في لبنان، ولا ندّعي أن هذا العمل ختامي ونهائي".
من هنا فإن "العمل البحثي الذي قمنا به كان محاولة للكشف عن البنى التي نشأت عنها تلك السردية، ورصد الانقلابات الحادة في التوجهات والطموحات والأهداف، وكيف تحولت الطائفة الشيعية من طائفة تسعى لتكون جزءا من الدولة إلى طائفة في حالة عزلة محلية ودولية. المشروع برمته محاولة للفهم عبر مدخل التوثيق الصارم الذي لا يخضع للأهواء والآراء. قررنا الخضوع لسلطة المعلومة الموثقة وفتح مسار علمي تاريخي توثيقي يتيح قراءة واقعية وموضوعية للموضوع الشيعي".
ينبه يتيم إلى خطورة الأرشفة ويفرق بينها وبين مراكمة المعلومات، "لم نعمد إلى نوع من المراكمة الغبية للمعلومات، فالأرشفة التي تعتمد على مقاربة الأحداث انطلاقا من مصادر مختلفة والكشف عن مدى تطابقها ومعقوليتها ووضع الحصيلة كلها في متناول الرأي العام، كان في حد ذاته عملا خطيرا في بلد يحرص على إقفال الأبواب أمام فهم ما جرى، ويصدر قوانين عفو عام ويصادر الذاكرات".
فكرة العمل التوثيقي ليست غريبة عن المؤسسة، لكن الجديد وفق عباس هدلا يكمن في "التناول الشامل الذي وسم العمل على الموضوع الشيعي، فمن خلال مراجعة ما كتب عن تاريخ الشيعة وجدناه يقتصر على التواريخ القديمة ويقف عندها أو يتحدث عن العرض الجديد، فلا توجد دراسة شاملة عن الشيعة". ويرد على تهمة توجيه العمل معتبرا أن التوجيه "يكون عبر إخفاء مواد والدفع بمواد إلى الواجهة، ولكن مثل هذا المنطق يخالف توجه المؤسسة. خيار التوثيق العام والشامل كان وفق وجهة نظرنا الطريقة الأمثل للتعامل مع الموضوع".
بصمات لقمان سليم
يلفت جاد يتيم إلى أن المشروع بدأ بعد اغتيال مؤسس الجمعية لقمان سليم ولكنه يدين بروحه ومنطقه إلى ما كان قد أسّسه، معتبرا أن "روحية لقمان تسيطر على البحث الذي يتوازى مع منشورات ومشاريع كان قد أطلقها مثل "فان 4" و"شيعة واتش" و"دفاتر هيا بنا" وغيرها. سبر أغوار هذا المجتمع وفهمه وتقديمه بوصفه مكونا أساسيا من مكونات الاجتماع اللبناني ليس غريبا عنه وكان أبرز همومه وقد جاء هذا العمل ليصب في الإطار نفسه، ويضاف إلى ذلك عمليات التشبيك المعرفي والبحثي بين مجموعات من الباحثين وفتح نقاش عام من زوايا جديدة تنطلق من الأبعاد المعرفية والتاريخية".
لقمان سليم في مقاربة عباس هدلا هو من أرسى منذ لحظة تأسيس "أمم" في 2005 حتى اغتياله عام 2021، "المنطق والعقل اللذين يسيطران على منهجية التفكير والعمل في المؤسسة واللذين يعنيان بالتقصي الدؤوب عن المصادر وملاحقة المعلومات والكشف عن الوثائق وعرضها بالصورة الأكثر قربا من الحقيقة".
وعلى سبيل المثل فإن "فكرة دراسة المجموعات اللبنانية كانت في صلب التوجه العام الذي نادى به لقمان سليم بهدف الوصول إلى قراءة شاملة لكل المجموعات كي يمكن الوصول إلى تفكيك ما يسمى الآن بالعيش المشترك والدفع في اتجاه العيش الموحد".
كيف تحولت الطائفة الشيعية من طائفة تسعى لتكون جزءا من الدولة إلى طائفة في حالة عزلة محلية ودولية
مسألة حضور الباحث الراحل في كل تفاصيل العمل محسومة بالنسبة إلى محمود حمادة، إذ أن الموارد التي تسمح ببناء العمل مدينة بوجودها إليه ولكن الأهم هو "منهجية العمل، فأنا مثلا خلال عملي على موضوع الجغرافيا استعنت بشكل مباشر بمقابلات كان قد أجراها وتحدث فيها عن الضاحية وكيف تطورت وتغيرت وكيف نما خطاب السيطرة وتبلور. فقد كان التفكير في مسائل الجغرافيا مدينا للمنطق الذي أسسه لقمان والذي خلق بؤرة تفكير بحثي ونقدي وإشكالي وإصرارا على الغوص في تفاصيل التفاصيل بحثا عما تجوهل وطمس، وكذلك فإن التفكير في بناء تاريخ خاص للطوائف كان أحد هواجس لقمان إذ كان يرى أن تمحيص خيالات وهواجس وأفكار كل طائفة في البلد ضرورة بحثية".
يشدّد علي منصور بدوره على هوية الفكرة التي كان قد رسمها سليم: "لم يغب حضوره ولو للحظة واحدة خلال الشغل على هذه الموسوعة والإصرار على استكمال ما كان قد أسسه".
تاريخ شيعي جديد
أدّى البحث بطبيعته إلى تفكيك البنى التي استند إليها الخطاب السائد والتأسيس لعملية إعادة قراءة شاملة للتاريخ الشيعي بشكل جديد.فلم يكن السجال المباشر مع سرديات "حزب الله المهيمنة" ضمن أولويات العمل ولكن النتائج التي خلص إليها أدّت بناء على ما توصل إليه جاد يتيم إلى "خلخلة الستار الحديدي الذي كان يقيمه الحزب بين الطائفة وتاريخها وبين سائر مكونات المجتمع اللبناني، والإضاءة على جوانب تغاير لتلك النظرة التي تعتبر الشيعة كتلة متجانسة في مواقفها ومنطقها وتاريخها المستند إلى تأويلاته".
أظهر البحث "حيوية شيعية لافتة وسمح بفهم أعمق للشيعة في لبنان، وتاليا فإن السرديات القائمة بأهدافها السياسية ومحاولة ربط مصائر الشيعة بمشاريع خارجية وجدت نفسها في مواجهة وقائع موثقة وصلبة من خلال كتب مرجعية توثق أحوال الطائفة".
تتمثّل النتيجة التي رُصدت في "تفكيك المقولات التي اتخذت شكل وقائع تاريخية مثل تلك التي تشدّد على المظلومية العامة اللاحقة بالشيعة وموقعهم الدوني في خريطة السلطة وبأن موقع الطائفة وتاريخها لا يمكن النظر إليهما خارج لحظة السلاح التي أسسها حزب الله".
يلاحظ عباس هدلا "أن الأيديولوجيا الدينية المسيّسة والموجهة لم تستطع التغلب على الغريزة الرياضية، فعلى الرغم من العمل الممنهج لحزب الله عبر فريق العهد لكرة القدم والحرص على إبراز انتصاراته فإنه لم ينجح في جر شيعة الجنوب والضاحية الجنوبية إلى الولاء لهذا الفريق، وبقي الجمهور الشيعي عموما على حبه لفريق النجمة".
تدحض الموسوعة فكرة أن موقع الطائفة وتاريخها لا يمكن النظر إليهما خارج لحظة السلاح التي أسسها "حزب الله"
من ناحية أخرى، فإن ملاحقة الشيعة والتعليم "تدرج مراحل تطور التعليم في الحقبات المختلفة بدءا من العشرينات حيث افتتحت المدارس الابتدائية ثم أنشئت المدارس الثانوية في الثلاثينات ونمت في الأربعينات والخمسينات، من هنا فإن السردية التي تقول إن الشيعة كانوا خارج منظومة التعليم ليست دقيقة".
يخلص محمود حمادة من خلال العمل على مسائل الجغرافيا والديموغرافيا إلى أن الطائفة الشيعية في بداية حضورها "كانت تسعى كما هو حال كل مجموعة بشرية إلى الاستقرار، لكن النموذج الجديد الذي اندفعت إلى تبنيه يشتغل وفق حسابات أمنية دقيقة، إذ أن المناطق السكنية الشيعية باتت ذات طبيعة استراتيجية، وبذلك فإنه لم يعد ممكنا التحدث عن الجغرافيا بشكل مباشر بل عن تمدّد موجّه يصب في خدمة مشاريع حروب ومواجهة حيث يشكّل الحضور الجغرافي جزءا من تلك الإستراتيجيا".
يختم مدير المشروع علي منصور هذا اللقاء الجماعي بخلاصة مفادها أن "شغل الأرشيف والذاكرة يمسّ بالمحرمات وقد كان السبب وراء اغتيال لقمان وذلك لأنه بطبيعته يعمل على كشف الزيف والتناقضات التي تسيطر على مقاربة القوى السياسية لكل القضايا".