تتداول أميركا وحلفاؤها وثيقتين. الأولى، تتعلق بوقف النار في غزة. وتتعلق الثانية بـ"اليوم التالي" في القطاع والشرق الأوسط.
خلاصة الوثيقتين، اللتين خضعتا وتخضعان لتعديلات كثيرة بما في ذلك خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الثامنة إلى المنطقة منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، هي: هدنة مؤقتة في غزة، تبادل رهائن، مساعدات إنسانية، إعادة تموضع القوات الإسرائيلية في القطاع، تحويل الهدنة إلى وقف دائم للنار، انسحاب كامل للجيش الإسرائيلي، فتح المعابر وبدء عملية الإعمار خلال 3-5 سنوات.
يواكب ذلك، الاتفاق على مبادئ عامة لـ"اليوم التالي" في غزة، تشمل الإنسحاب الإسرائيلي و"نزع سلاح" الفصائل و"تحريم تمجيد الإرهاب" وقيام حكم محلي لا تشارك فيه جماعات "تتبنى العنف"، ووقف استفزازات وتحركات المستوطنين في الضفة الغربية، وتعزيز السلطة الفلسطينية لحكم الأراضي الفلسطينية بدعم عربي ودولي بالمال والإعمار والمراقبين، وانطلاق مفاوضات فلسطينية- إسرائيلية حول قضايا الحل النهائي لتنفيذ "حل الدولتين" والاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود عام 1967.
في الإطار الأوسع، هناك تفكير في "هيكلية إقليمية" وعلاقات بين إسرائيل ودول عربية، تأسيسها مرتبط بمآلات حرب غزة ومسار "ملموس لا رجعة فيه" لـتنفيذ حل الدولتين والدولة الفلسطينية.
نقطة الانطلاق لكل ذلك، هدنة مؤقتة ثم دائمة في غزة. والذي يطلبه الوسطاء ويضغطون لأجل تحقيقه، أن يوافق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقائد "حماس" في غزة يحيى السنوار على هذه الرؤية بمرحلتيها، وقف النار، و"اليوم التالي". بل إن الرئيس الأميركي جو بايدن خرج في نهاية الشهر الماضي إلى العلن، وتبنى خطة وافق مبدئيا عليها الطرفان، وحرك كل أدوات النفوذ الأميركية لوضع القطار على السكة.
يعتقد بايدن أن الهدوء في غزة وانطلاق مسار سياسي يساهمان في تعزيز فرصه الانتخابية في 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل
يواصل بايدن تقديم الدعم العسكري والاستخباراتي والدبلوماسي لإسرائيل. لكنه يريد وقف النار والخطوات اللاحقة واختار التحدث مع الإسرائيليين من وراء ظهر نتنياهو للضغط عليه، لأنه يعتقد أن الهدوء في غزة وانطلاق مسار سياسي يساهمان في تعزيز فرصه الانتخابية في 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. كما يضع بعض الأميركيين ذلك في سياق إنقاذ إسرائيل من نتنياهو ومن نفسها، خصوصا بعد سلسلة الإدانات والتحركات في ساحات ومنصات دولية وحقوقية، آخرها إدانة تقرير أممي سلوك إسرائيل ضد الأطفال ومساواتها بـ"حماس". وهناك رهان على ان يدحرج خروج بيني غانتس من "حكومة الحرب" الكرة في شوارع إسرائيل لمحاصرة نتنياهو داخليا... وإخراجه من رئاسة الحكومة.
بايدن يطلب من حليفه رئيس الوزراء الإسرائيلي وخصمه قائد "حماس" في غزة تجرع وصفته الشرق أوسطية. مطلوب من نتنياهو أن يبارك اتفاقا في غزة يؤدي عمليا إلى انفلات ائتلاف حكومته وانقلاب اليمين المتطرف عليه، والاستعداد لمواجهة لجنة التحقيق عن الفشل في 7 أكتوبر ، ومواجهة المساءلة القضائية الأخرى وربما السجن. مطلوب من السنوار أن يوافق على اتفاق هدنة يفتح المجال أمام ترتيبات "اليوم التالي" التي تشمل حكما في غزة ليس هو أو "حماس" طرفا فيه، وأن يواجه الاغتيال أو الإجلاء إلى المنفى.
غزة ومدنيوها رهائن لحسابات نتنياهو والسنوار... يراهنان على ضيق الهامش أمام بايدن ونصائحه، مع قرب موعد الانتخابات
خطة بايدن وصفة انتحارية لطرفي الصراع. أو هكذا تبدو. اختار نتنياهو، خصوصا بعد إستقالة غانتس، الاستماع إلى "نصائح" الوزيرين في حكومته بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، وأن يذهب إلى الكونغرس يوم 24 الشهر المقبل، لمخاطبة الأميركيين من وراء ظهر بايدن. يرتاح السنوار للاستماع إلى تقديرات "المرشد" الإيراني علي خامنئي بعدم قبول اتفاق الهدنة، وأن يطلب ضمانات خطية من حلفائه الوسطاء إزاء مستقبله ودور الحركة وسلاحها.
ملامح الرهان الحقيقي لنتنياهو والسنوار، ظهرت في عملية تحرير الرهائن الأربع من مخيم النصيرات بالتوازي مع مفاوضات الهدنة وقبل جولة بلينكن في المنطقة، وهو دليل على المرحلة التي وصلت إليها الحرب في غزة وإختبار لمدى "الجدية" في قبول جرعات "خطة بايدن". نتنياهو حرر 4 رهائن بدعم استخباراتي أميركي، لكن بكلفة بشرية هائلة دفع ثمنها المدنيون. نشوة التحرير تجعله يتمسك بنسخ السيناريو. السنوار لا يزال يمتلك 120 رهينة آخرين في قبضة "حماس". ومجزرة النصيرات، تعطيه ذخيرة للتمسك بالإنسحاب الكامل والهدنة الكاملة.
غزة ومدنيوها رهائن لحسابات حدية. نتنياهو يريد تحقيق كل أهدافه بما فيها تدمير "حماس" وتفكيكها بانتظار عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. المحاسبة والسجن ليسا بين أهدافه. الثاني يريد تحقيق كل أهدافه بما فيها انسحاب إسرائيل من القطاع والاعتراف بدور لـ "حماس". الاغتيال أو المنفى ليسا بين أهدافه.
يراهن الخصمان المتحاربان على ضيق الهامش أمام بايدن ونصائحه، مع العد التنازلي لموعد الانتخابات الأميركية. إنها الحرب وتبقى الكلمة للميدان، وفي الميدان الكثير من البشر والمعاناة.