في أحد أيام صيف عام 1971، بينما كان نجيب محفوظ جالسا مع الروائي جمال الغيطاني كالعادة في "مقهى عرابي" في القاهرة، أطل رجل أشيب الشعر، جاحظ العينين، غريب الأطوار، أصابع يديه نحيلة وطويلة، أبدى عامل المقهى اهتماما خاصا به، وسارع إلى إحضار رقعة الشطرنج له، ليبدأ اللعب مع رفاقه.
لفت المشهد انتباه محفوظ فسأل الغيطاني عن غريب الأطوار، فاستفسر وعاد بالإجابة، الرجل هو اللواء حمزة البسيوني، المدير السابق للسجن الحربي. روى الغيطاني في مقال نشره في مجلة "فصول" عام 1997: "بعدها أطال الأستاذ النظر، وفي تلك اللحظات، ولدت رواية الكرنك".
مساء الخميس من كل أسبوع، موعد لقاء محفوظ مع أصدقاء الطفولة، في "مقهى عرابي"، يستعيد معهم الذكريات، يبدو مرحا وعلى سجيته أكثر، يجزم الغيطاني أن كثرا منهم دخلوا عالم محفوظ الروائي.
اعترف أديب نوبل في 1951، بأن كل شخصيات رواياته لها أصل في الحياة، لكن تتغير مصائرها حسب اتجاه الرواية
اعترف أديب نوبل في حوار مع مجلة "العربي"، 1951، بأن كل شخصيات رواياته لها أصل في الحياة، لكن تتغير مصائرها حسب اتجاه الرواية، وهو ما أكده في ما بعد في أحاديثه الصحافية ومذكراته.
الفتوات وأهل الحارة
عاصر محفوظ الفتوات، وجمعته صداقة مع كامل عرابي، فتوة الحسينية، الذي سُجن 20 عاما بعدما أفقد أحد الأشخاص عينه، بداية فترة الثلاثينات.
خرج كامل من السجن، افتتح "مقهى عرابي" الشهير آنذاك بالعباسية، ارتاده محفوظ وأصدقاؤه، إذ كان له دور مركزي في الانتخابات، خاصة لأنصار حزب الوفد، يزوره كبار السياسيين، من أمثال الشواربي باشا وأحمد باشا، يخطبون ود الفتوة عرابي.
روى نجيب محفوظ، أنه شهد معركة حامية، بميدان بيت القاضي، حيث تجمع فتوات حارات الكبابجي والحسيني وخان جعفر، وعطفة النحاسين، يحملون الشوم والعصي الغليظة، واستولوا على أسلحة قسم الجمالية، قال: "هذا الهجوم رأيته بعيني، وظلت هذه الذكريات مختزنة في ذاكرتي، وصورتها في عدد كبير من أعمالي الروائية".
حكى أحد أهالي منطقة قصر الشوق لجريدة "الجمهورية" عام 1988، أنه كان قريبا في العمر من نجيب محفوظ، وشاهد في الواقع كل ما قرأه في رواياته من أماكن وأشخاص، بما في ذلك الفتوات ونساء الملايات اللف والمنديل، قال: "أشعر كأنني وكل من في المنطقة حصلوا على نوبل، لأنه كتب عنا وعن حياتنا والفقر الذي عايشناه أيام الإنكليز، ابن بلد وكتب عن أولاد البلد".
أبطال من الوظيفة في "المرايا"
أتاحت الوظيفة لنجيب محفوظ التعرف إلى نماذج مختلفة ومتنوعة من الشخصيات، لولاها ما كان سيعرفها، حيث عمل في وزارة الأوقاف ومجلس النواب وإدارة الجامعة، في الأولى تعامل مع المستحقين للوقف من العائلات القديمة، وفي الثانية راقب تضارب المصالح الشخصية والحزبية وأثرها على المواطن المصري، وفي الثالثة التقى موظفين ظهروا في إحدى الروايات باسمائهم الحقيقية.
حكى أحد أهالي منطقة قصر الشوق أنه كان قريبا في العمر من نجيب محفوظ، وشاهد في الواقع كل ما قرأه في رواياته من أماكن وأشخاص
التقى في إدارة الجامعة محجوب الدايم، بطل رواية "القاهرة الجديدة"، عرفه وهو طالب وراقبه إلى أن عمل موظفا، كما زامل أحمد عاكف بطل رواية "خان الخليلي"، الذي شكره على إطلاق اسمه على بطل الرواية.
في وزارة الأوقاف، التقى شخصيات عديدة من أبطال "المرايا"، منهم برلنت، شخصية رئيسة في إحدى القصص التي حولت إلى فيلم "أميرة حبي أنا" 1974، بطولة سعاد حسني وحسين فهمي، إخراج حسن الإمام.
عملت برلنت في إدارة التحري بوزارة الأوقاف، وصفها محفوظ بأنها كانت جميلة ومتحررة، ووافقت على الزواج في السر من مدكور الذي كان يعمل أيضا بالأوقاف، وأمضيا أسبوع عسل في الإسكندرية، ثم طلقها مباشرة، وبعد عودتها وجه اليها نجيب محفوظ وصديقه فهمي عبد السلام اللوم، لكنها اكتشفت أنها حامل، ولحسن الحظ، تزوجها مقاول وقبل بظروفها.
أما مدكور فقابله محفوظ بعد سنوات طويلة، بميدان التحرير، كان بائسا للغاية، لم يفلح عمه عبد الخالق باشا في علاجه من الإدمان فأجبره على تطليق ابنته وانتزع منه أولاده، كما فُصل من وظيفته، قال محفوظ: "كان وسيما جميلا بصحة وعافية لكن عندما قابلني طلب مني بضعة قروش ليأكل، لم يكن قد ذاق الطعام 3 أيام، ولم أره بعدها".
أما أثناء عمله المؤقت في مجال الكتابة للسينما، فتعرف الى فنانين ومخرجين، استوحى منهم شخصيات في روايتيه، "الحب تحت المطر" و"أفراح القبة".
"السراب" وتهديد بالقتل
تعرض نجيب محفوظ للتهديد بالسلاح بعد نشر رواية "السراب" عام 1948، إذ أوعز أحد أصدقائه بالعباسية، بحسن نية، إلى شخص يدعى حسين بدر الدين، وأخبره ساخرا أن محفوظ كتب عنه في إحدى رواياته، لكن الحقيقة أنه استوحى منه إحدى شخصيات الرواية، قال محفوظ: "أخرج مسدسا وشتمني فهربت منه، كان ممكنا أن يقتلني مع أنه لم يقرأ الرواية".
كان هذا الشخص من الأثرياء، بدد ثروته حتى تسول، وكان ينام في "مقهى الفيشاوي"، وسُجن لإدمانه المخدرات، كانت والدته عقدته في حياته، وصفه محفوظ في حوار صحافي مع جريدة "الأخبار" 1988، أنه كان عاجزا جنسيا، لكنه يصاحب أكثر من امرأة في وقت واحد، بعد فترة هاجر إلى الكويت للعمل، وتوفي هناك.
صديق خان الخليلي وأسرة "بداية ونهاية"
وفاة أعز أصدقائه، شكري عاطف، بمرض السل، وتعلقه بمنطقة خان الخليلي، دفعا نجيب محفوظ الى كتابة رواية "خان الخليلي" 1945 التي تدور أحداثها في فترة الحرب العالمية الأولى. كان أهل المنطقة ومنهم محفوظ يختبئون في عمارات الأميرة شويكار، زوجة الملك فؤاد الأولى.
أثناء عمل نحفوظ في مجال الكتابة للسينما، تعرف الى فنانين ومخرجين، استوحى منهم شخصيات في روايتيه "الحب تحت المطر" و"أفراح القبة".
شكري عاطف ظهر في الرواية باسم رشدي عاكف الذي أصيب بمرض السل ومات، لترحل أسرته إلى حي الزيتون. كما وصف محفوظ بدقة، المنازل الحديثة التي شيدتها الأميرة شويكار بعدما هدمت عمارتها.
أما شقيق رشدي في الرواية أحمد أفندي عاكف، فاستوحى محفوظ شخصيته من موظف بإدارة جامعة القاهرة، وصفه لجريدة "الأخبار" 1988: "كان مجرد موظف صغير بإدارة الجامعة، يظن أنه يعرف كل شيء في مصر، لديه البكالوريا فقط، يظن أنه جمع علوم الدنيا، كان أرعن وسطحيا، وتحملت مخاطرة بأنه لو عرف أنني استوحيته في الرواية، ربما هدد حياتي أو اعتدى عليّ، إذ أنه لم يكن طبيعيا أبدا".
غرور أحمد عاكف الكاذب طمأن محفوظ أثناء كتابة الرواية باسمه الحقيقي، بل بملامح قريبة للغاية من حقيقته. كُلف عاكف تأسيس إدارة جامعة إسكندرية وكان أول مدير لها، وفي إحدى المرات كتب رسالة فأدخل عليها طه حسين تعديلا، فثار عاكف مستنكرا التعديل وواجه طه حسين: "أنا لا أقل عن أي واحد فيكم"، فرد عليه: وهذا شيء يسعدنا جدا. بعدها طلب طه حسين نقله إلى القاهرة، وحدث.
سرد نجيب محفوظ في مذكراته المنشورة بعنوان "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" لرجاء النقاش، أن غرور أحمد عاكف ضيع عليه فرصة الحصول على رتبة الباكوية، لرفضه تعديل طه حسين، كلمة واحدة في خطاب له.
روايات قليلة كتبها محفوظ متأثرا بأحداث حقيقية كاملة بعد "خان الخليلي"، إذ كتب "بداية ونهاية" 1949، متأثرا بحكاية أسرة توفي عائلها فعانى أفرادها من ضيق الأحوال المادية، فلجأوا إلى الأعمال غير المشروعة، من نصب واحتيال على الناس، مما أشعر محفوظ بالحنق والغضب، ففكر في كتابة الرواية بأسلوب كوميدي، لكن المأسوية فرضت نفسها عليه أثناء كتابتها.
اختلفت نهاية الأسرة الحقيقية عن نهاية الرواية، ففي الواقع، مات الأخ الأكبر بمستشفى القصر العيني لإدمانه الكوكايين، أما شقيقته نفيسة فبقيت عانسا لفترة طويلة إلى أن تزوجها مسن بحاجة لمن يخدمه. في الرواية، لجأت الى العهر لفشلها في الحب، والأشقاء الثلاثة، الأول تحول إلى مطرب بلطجي، وحسين انتقل إلى محافظة أخرى لدعم الأسرة، وحسنين يبحث عن طموحه الطبقي بخطبة فتاة من عائلة غنية.
أبطال "الثلاثية"
تسعون في المئة من شخصيات "الثلاثية"، "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، لها أصل في الواقع، بعضها من أقاربه، وبعضها من جيرانه.
من جاره الشامي الأصل (عم بشير)، وزوج شقيقته، استوحى شخصية السيد أحمد عبد الجواد (سي السيد) بطل "الثلاثية". روى في مذكراته أن بشير رغم طيبته كان جبارا، يعامل زوجته بقسوة، الى درجة أنها كانت تشكو لفاطمة (والدة محفوظ) من سوء معاملته، وفي الليالي المقمرة كانتا تجلسان معا، وتطلبان منه أن يغني، فيرى دموعها تتساقط.
شخصية الزوج (سي السيد) كانت من مألوفات العصر وقتها، إذ تشابه سلوكه الحاد مع زوج زينب، شقيقة محفوظ، كان صعيديا، كردي الأصل، وصفه: "كان فظيعا".
استوحى محفوظ من جاره الشامي الأصل، وزوج شقيقته، شخصية السيد أحمد عبد الجواد بطل "الثلاثية"
نفى أديب "نوبل" وجود أي صلة بين شخصية سي السيد ووالده، لم يتشابه معه إلا في حبه للفن، إذ كان والده، حسبما وصفه للنقاش، سمحا ومرنا وديمقراطيا، مغرما بسماع الطرب، أحب صالح عبد الحي وعبد الحي حلمي والمنيلاوي، وإذا علم بوجود أحدهم في حفل زفاف، لا بد أن يذهب لسماعه.
أول قصة حب في حياة محفوظ كانت من طرفه فقط، تعلق بفتاة في العشرين من عمرها، جميلة من أسرة معروفة بالعباسية، وصفها بأنها أشبه بلوحة الموناليزا، تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وحركاتها، لم يجرؤ على محادثتها، استمر حبه عاما، وفجأة تزوجت وانتقلت إلى بيتها الجديد.
تخرج وانشغل بالوظيفة وتزوج، وخفت حبها في قلبه، وفي عام 1951، التقى عائلتها في المصيف في رأس البر، فعلم أنهم من محافظة دمياط لكنهم يعيشون في القاهرة، ولم يجرؤ على السؤال عنها ولو بتلميح، وسرد قصته معها في رواية "قصر الشوق"، مع تعديلات تتوافق مع إطار الرواية.
وروى في مذكراته مع النقاش أن شخصية كمال عبد الجواد، تتشابه معه إلى حد كبير، وأكد في حواره مع مجلة "حوار" عام 1963، أن كمال يعكس أزمته الفكرية، قال: "وكانت أزمة جيل في ما أعتقد، وإلا فما أكدت عليها بالقوة التي ظهرت بها".
رواية لم تكتب عن صلاح جاهين
تعرف نجيب محفوظ إلى صلاح جاهين بعد تكوين شلة الحرافيش بفترة طويلة، وانضم اليهم في فترات ثم انقطع، وبعد موته، قرر كتابة كل ما يعرفه عنه في رواية، لكن حرصا على عدم إثارة المشاكل، فضّل كتابة رواية غالبية ملامح بطلها مستوحاة من شخصية جاهين، فكانت "قشتمر" التي عبر فيها عن مأساته. وكان الألفي مأمون، صديق محفوظ من خارج الوسط الأدبي، بطلا من أبطال الرواية.
فضّل محفوظ كتابة رواية، غالبية ملامح بطلها مستوحاة من شخصية صلاح جاهين، فكانت "قشتمر" التي عبر فيها عن مأساته
أكد محفوظ أن بهاء جاهين ابن صلاح تعرف الى شخصية والده بسهولة على الرغم من تغيير ملامح شخصيته في الرواية.
أديب آخر كان ضمن شخوص رواية "الكرنك"، وهو سعيد الكفراوي، روى وفقا لكتاب "ليالي نجيب محفوظ في شبرد" لإبراهيم عبد العزيز، أن محفوظ التقاه في "مقهى ريش"، قال: "مررت بتجربة السجن في السبعينات من القرن العشرين، وأول جمعة كنت على المقهى، صافحني أستاذنا الكبير، وأفسح لي بجانبه، وأعطاني أذنه وهمس لي، إيه جرى يا كفراوي؟، إيه الحكاية؟ قصصت عليه ما جرى، وبعدها بشهور كتب روايته الجميلة الكرنك، وعندما سألني: قرأتها؟، قلت: نعم، فأخبرني: على فكرة يا كفراوي انت إسماعيل الشيخ في الرواية".
أما نجيب فروى في مذكراته، أن الرواية لها وضع خاص بين رواياته، بعدما سمع أخبار المعتقلات والقصص التي تروى عن المعتقلين السياسيين في سجون عبد الناصر، قرر كتابتها، خاصة بعدما أحس أن غالبية الكتاب سيخشون على حياتهم من الكتابة عن هذه الأوضاع، وكتبها على لسان الراوي، إذ أنه لم يعش تجربة الاعتقال ولم يعرف تفاصيلها.