بيكيت شخصية متخيّلة في روايتين حديثتين

صدرتا مترجمتين إلى العربية

AFP
AFP
الكاتب المسرحي الأيرلندي صموئيل بيكيت

بيكيت شخصية متخيّلة في روايتين حديثتين

يعود شبح صموئيل بيكيت المريب بقوّة، ليتحوّل إلى شخصية متخيّلة ضمن عملين روائيين حديثين، يشتركان في الدنو من الوجه الآخر للكاتب، في مجازفة افتراضية تحاول التسلل إلى المنطقة الرمادية، الغامضة، لصاحب "في انتظار غودو"، عبر مفارقتين لاذعتين: بيكيت المرح الذي تغدو حياته محض مزحة مطلقة في رواية الكاتب مارتان باج، الموسومة بعنوان "تربية النحل حسب صموئيل بيكيت" (ترجمة محمود عبد الغني، منشورات المتوسط)، وبيكيت في نهاية لعبة حياته، في رواية الكاتبة ميليس بيسري، الموسومة بعنوان "نزل الزمن الثالث –أيام السيد بيكيت الأخيرة" وهي فائزة بجائزة "غونكور" الفرنسية للكتاب الأوّل 2020 (ترجمة محمد آيت حنّا، منشورات أثر).

في كلتا الروايتين، نُصاحب بيكيتا آخر، على وجهَي نقيض، بتخييل من روائيين معاصرين؛ وجهٌ مرحٌ لشخصية ملوّنة طالما قُدّمت الى العالم بصورة رمادية، ووجه لشخصية مأسوية تواجه نهايتها وأفولها بقدر هائل من السخرية السوداء.

"تربية النحل" حسب بيكيت

بسبب مفرقعات أطفال، اندلع حريق في مستودع يدّخر أرشيف صموئيل بيكيت. الضرر كان سطحيا إذ تمّ إنقاذ الوثائق مع قدوم الخبراء للعناية بها وفرزها طيلة تسعة أيّام. وسط هذه المعمعة عُثر على مذكرات رجل يقدم نفسه مساعدا لبيكيت، تؤرخ لوقائع من 28 يونيو/ حزيران وتنتهي في 19 أكتوبر/ تشرين الأول من سنة 1985ذاتها.

يجب نسيان بيكيت من أجل إعادة اكتشافه وقراءته، كما يجب أن يُقرأ بعيدا عن تلوث الشهرة

تبدأ يوميات هذا المساعد وهو باحث دكتوراه في الأنثروبولوجيا بحادثة سرقة نقوده أمام مكتبة، فيقترح عليه المكتبيّ وظيفة لحل أزمته (مصاريف الدكتوراه فضلا عن إفلاسه). يُفاجأ بمقترح الوظيفة: ترتيب أرشيف الكاتب صموئيل بيكيت! يحصل على الوظيفة سريعا من خلال مكالمة هاتفية مع الكاتب بعدما تعذّر اللقاء الفعلي الأول، والسبب يتعلق بالنحل.

تباغتنا شخصية مغايرة لبيكيت ما أن يطأ طالب الدكتوراه بيت الكاتب الفوضوي؛ لحية شعثاء وشعر طويل أشبه ما يكون بـ"بابا نويل".

مع الشروع في مهمته، لا يفوّت الطالب أن يسجّل يومياته في أرشفة أعمال الكاتب، بالالتفات إلى كل صغيرة وكبيرة تخصّ أسلوب حياة بيكيت، هوسه بالشكولاته والشطائر والفطائر، ولعه بالملابس الملونة، التسوق والتجوال ولعب البولينغ.

تنتهي المهمة سريعا على غير المتوقع، بدل أن تستغرق عشرة أيام كما هو متفق، وكحلّ لملء الصناديق الكرتونية الفارغة يقترح بيكيت بسخرية أرشيفا بديلا، مصطنعا وزائفا على سبيل الدعابة، كأن يضع منشطات جنسية وأربع نسخ من أفلام أيروتيكية وبطاقات سفر ذهاب وإياب لوجهات أجنبية طلبها في محطة مونبارناس... وعلى هذا النحو سيفهم الجامعيون أعمال بيكيت من خلال تجميع هذه المعلومات الخاطئة.

ثم تبزغ الإشراقة المفصلية في الرواية وهي تربية بيكيت للنحل على سطح بيته. كان قد اشترى الخلايا قبل ثماني سنوات، في وقت كان يجتاز مرحلة كآبة، الاهتمام بشيء آخر غير كتاباته ومخاوفه أخرجه من الوهن. وتربية النحل أصبحت قيمة أخلاقية.

ولا يني يتحف الطالب في حوارات مقتضبة بالتماعات فلسفية من وحي علاقته بالنحل: "النحل مخلوقات هيرمس ويجب علينا التعلم منها"، حتّى أنّ نظر الكاتب إلى باريس تغيّر جذريّا وبات يراها بطريقة مختلفة تماما، مثل الانتباه إلى وجود أزهار ونباتات، ويا للغرابة.

في الموازاة، تحرص الرواية على تسجيل وقائع قبول بيكيت لمشروع مسرحة "في انتظار غودو" من طرف المخرج السويدي جين جونسون، هذا الذي يقترح بطرافة أن يعرضها داخل السجن: "نحن جميعا داخل السجن، كل واحد يقيم داخل زنزانته، الحرية وهم". يعقّب بيكيت مستثارا بالمقترح، إذ أن شهرته ككاتب عالمي محض سجن مضاعف هي الأخرى. ومن بدائع مجريات هذه الترتيبات المسرحية أن يرسل بيكيت ملابسه الخاصة للسجناء الذين سيؤدون المسرحية، بدل ملابس أنيقة بورجوازية مقترحة من طرف الجمعية الإنسانية "كاريتاس"، تداركا لمسألة اقتحامية سياسية ودينية في آن: فالملابس ليست بريئة. وفي ما يشبه دعابة سوداء، تتطابق مع لذوعية المسرحية ذاتها أن يهرب السجناء الذين يؤدون أدوار "في انتظار غودو" من الفندق خلال يوم من أيام عرض المسرحية بإحدى المدن السويدية خارج السجن.

لا تستغرق الرواية في موضوعها المعلن حول تربية النحل حسب بيكيت كما هو موعود، بل نكتشف أنها مجرد ذريعة لتخييل يوميات ترصد حياة بيكيت عن كثب، طبخه، ملابسه المبهرجة، هوسه بالألوان، طقوس كتابته، تسوّقه، تجواله، آراؤه في خصوص الكتابة والمسرح والقارئ والصحافة والسياسة...

إنّها رواية تحاول أن تكسّر الصورة النمطية حول الكاتب، وهو نفسه حريص على أن يلعب مع النظام من خلال صورة الشهرة المتخيلة لدى الجميع، غير الصورة الأخرى: "يجب نسيان بيكيت من أجل إعادة اكتشافه وقراءته، كما يجب أن يُقرأ بعيدا عن تلوث الشهرة والسمعة التي تحيط به اليوم. المطلوب هو إعادة الحرية له وليس نسيانه تدريجيا، من أجل إعادة تشكيل رؤية جديدة حول عمله".

كيف يمكن التخلّص من الصورة الملفقة حول الكاتب؟ تلك هي إحدى مهام تفكيك الرواية للمسألة من خلال استدعاء شخصية صمويل بيكيت من أجل إضاءة الجانب الخفيّ منها، الجانب غير المعلن، المفاجئ واللامعتاد وفق مقولته المفترضة المسنونة في متن العمل نفسه: "ما يهم هي لائحة كتب أؤلئك الذين يقرؤون كتبي، أكثر من كتبي. الأفضل للأكاديميين أن يفحصوا حياتهم الخاصة إذا كانوا يريدون فهم أي شيء عن عملي".

"نزل الزمن الثالث"

يستضيف "نزل الزمن الثالث" الكاتب صموئيل بيكيت في أيامه الأخيرة ابتداء من يوليو/ تموز 1989 حتى وفاته في ديسمبر/ كانون الأول من السنة ذاتها.

AFP
صورة فوتوغرافية لصموئيل بيكيت، في الوسط، في متحف التصوير الفوتوغرافي في برلين 7 ديسمبر 2012

تستغرق الرواية يومياتها في ثلاثة أجزاء:

في الجزء الأوّل الموسوم بـ"زمن أوّل" نكتشف بيكيت من خلال حكيه نفسه، ما يشبه يومياته ومذكراته في آن، مستهلا إيّاها بموت زوجته سوزان. بعدئذ يستحضر طفولته وطقوس الصيد مع والده في إيرلندا، كذلك علاقته بوالدته ثم صداقته الباريسية مع جيمس جويس ومطولا ذكرياته الغرامية مع ابنة جويس المدعوة لوسيا، فضلا عن التزامه تجاه فرنسا أثناء الحرب ضد النازية، والفترة التي قضاها في منزل أوسي الذي لجأ إليه للكتابة.

تتخلل يوميات بيكيت هذه سجلات الملاحظات الطبية ودفاتر متابعته الصحية من طرف ممرضات أو طبيبه الخاص، مع تقرير شرطة يعود الى سنة حادثة طعنه بسكين عام 1938.

تتخلل يوميات بيكيت هذه سجلات الملاحظات الطبية ودفاتر متابعته الصحية من طرف ممرضات أو طبيبه الخاص

في الجزء الثاني، الموسوم بـ"زمن ثان"، تتواصل تداعيات انهيار صحته، وفي الموازاة يستأنف ذكرياته المشوشة على إيقاع آلام ضرسه المتعفّن، متأرجحا في استرجاعاته بين سنوات إيرلندا وعلاقته بالكتابة، ثم ملابسات لقاءاته مع ناشره جيروم ليندون المندهش من تنامي شعر بيكيت مع التقدم في السن، ولا تغيب سوزان عن الاستعادات الخاصة بعروض مسرحية "في انتظار غودو" وصرير النقد حولها، دونما نسيان لشبح جويس المرابط وأغاني صباه الإيرلندية.

في الجزء الثالث الموسوم بـ"زمن ثالث"، يسقط بيكيت من السرير وينخرط في غيبوبة. داخل هاوية غيبوبته يصف نفسه بحوت المنك مجازا، كائن يتميز بقدرته العجيبة على تدمير نفسه، يغرق نفسه بنفسه. قياسا إلى كون بيكيت بنصف دماغ لا يزال يعمل كما الحوت الذي يبقي نصف دماغه مستيقظا في النوم للبقاء على قيد الحياة.

ثم تتعاقب حالات الانهيار في قسم الأعصاب. محض حوارات متقطعة يليها هذيان بيكيت وهو يسترجع وقائع الفيلم القصير الصامت الموسوم بعنوان "فيلم" هو نفسه من كتب السيناريو، الذي أخرجه الأميركي آلان شنايدر عام 1965 وشخّصه الممثل الشهير باستر كيتون، بل تشاء غرائب المصادفات أن يكون آخر دور قدّمه الممثل للسينما، فيلم سبق لجيل دولوز أن كتب عنه مقالا فارقا ونعته بالفيلم الإيرلندي العظيم، أدرجه في كتاب "نقد ومشفى".

font change

مقالات ذات صلة