طوفان التخوين

تزوير الحاضر حتى ونحن نعيشه

طوفان التخوين

وأنا أتصفح موقع "X"- أو كما لا زلت معتادة على تسميته "تويتر"- ظهرت لي تغريدة لأستاذ في العلوم السياسية يهاجم قناة "العربية" ويصفها بأنها "قناة بن غفير" (وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف)، ولأني لست من متابعي هذا "الأستاذ" قادتني حشريتي لأدخل صفحته وأطلع على ما يكتب، هو كثير التغريد كما ظهر لي، عدت إلى الوراء 24 ساعة، عشرون تغريدة، 19 تغريدة منها عن الإعلاميين "المتصهينين"، وواحدة فقط لا غير هي عبارة عن إعادة تغريد لخبر عن حريق في تل أبيب.

منذ لحظة انطلاق عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها، وبدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بدأ البعض يشن حملات ضد كل من تحدث عما ستجلبه عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول على الفلسطينيين من ويلات، لوائح لمن أطلقوا عليهم لقب "المتصهينين العرب"، بعضهم بدأ بهذه اللوائح بناء على توجهات وآراء المذكورة أسماؤهم فيها، وذهب البعض الآخر للقول إن هذه اللائحة عثرت عليها "المقاومة الإسلامية" على كمبيوتر للعدو بعيد اقتحام مراكزه في السابع من أكتوبر، ولك أن تتخيل أن إسرائيل تجمع أسماء "المتعاونين" معها في ملف "إكسل" (excel) وتضعه على جهاز كمبيوتر، لتتخيل مدى السخافة التي قد يذهب بها البعض لتخوين خصومه.

على "تويتر" أيضا، لفتتني دعوة للتظاهر في العاصمة الفرنسية أمام السفارة المصرية لكسر الحصار عن غزة وإدانة العدوان، وأول ما خطر لي: ألا توجد سفارة إسرائيلية في باريس؟ أليس من الأجدى التظاهر أمامها؟

قبل شهرين أعلن الإعلامي طاهـر بركـة أنـه محـروم مـن زيـارة لبنـان منـذ سـتة أشـهر، علـى خلفيـة بلاغ مقدم ضده أمام النيابة العامة العسكرية بسبب محاورته على شاشة "العربية" للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، ورغم أن بركة ليس الإعلامي اللبناني الأول ولا الوحيد في "العربية" الذي قدم بلاغ ضده لهذا السبب. فإن هناك صحافيين لبنانيين عاملين في قنوات عربية وأجنبية يحاورون ضيوفا من إسرائيل منذ عشرات السنين، ومع ذلك لم يتحرك أحد "لمعاقبتهم" بسبب القيام بعملهم.

حملات قد تظنها عشوائية، أو أنها انعكاس لحالة الغضب التي يعيشها الشارع العربي وهو يشاهد منذ أكثر من ثمانية أشهر حجم الإجرام الإسرائيلي بحق الفلسطينيين وحجم المعاناة الفلسطينية، إلا أن التأمل قليلا في سلوك من يشنون الحملات، من صحافيين وسياسيين وكتاب وأكاديميين وحتى مؤسسات إعلامية، يرى بالانتقائية المتبعة، وتركيز الهجوم على دول بعينها وفي مقدمتها الأردن ومصر والسعودية، واتهام كل من يعمل أو يدور في فلك ما كان يعرف بدول الاعتدال العربي، مع تحييد كامل وشامل لدول أخرى كتركيا التي لم تقطع علاقاتها التجارية مع إسرائيل إلا مؤخرا وليس قطعا كاملا، أو مع الأخبار التي تتوارد عن إبلاغ قطر لقادة "حماس" نيتها طردهم إن لم يوافقوا على المبادرة التي أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخرا، وللتوضيح لا أقصد أن التهجم على هاتين الدولتين إن تم سيصبح الأمر حينها عادلا، بل فقط أضرب مثالا عن هذه الانتقائية والتي بكل تأكيد ليست وليدة الصدفة.

هناك من سخّر وقته وجهده وماله منذ السابع من أكتوبر لا لإظهار حقيقة ما يحصل في غزة وما يتعرض له الفلسطينيون، بل لتزوير الحاضر حتى ونحن نعيشه

وهنا لا بد من ذكر أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد هامشية أو لا تنقل جزءا من الواقع، فجميعنا رأينا تأثيرها يوم قررت إدارة "تويتر" السابقة إغلاق حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وجميعنا نرى كيف استطاع صحافيون وناشطون من داخل غزة نقل حقيقة ما يحصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبالصوت والصورة، والأثر الذي صنعه الأمر في الرأي العام الغربي تحديدا والذي كان يجهل الكثير عن حقيقة ما جرى ويجري في فلسطين.

وإن كنا ندرك أهمية الإعلام التقليدي، صحفا وتلفزيونات وإذاعات، فإن هناك جيلا جديدا قد لا ينظر إلى كل هذا وتقتصر متابعته على ما ينشر في "تويتر" و"إنستغرام" وغيرهما، وهؤلاء تحديدا هم من وصلت إليهم أخبار غزة في الغرب.

ولكن في الوقت نفسه، هناك من سخّر وقته وجهده وماله منذ السابع من أكتوبر لا لإظهار حقيقة ما يحصل في غزة وما يتعرض له الفلسطينيون، بل لتزوير الحاضر حتى ونحن نعيشه، فقد أصبح الحديث عن جرائم "حزب الله" في سوريا على سبيل المثال "تشويشا" على عمل "المقاومة"، والسؤال أين إيران مما يحصل يصبح "تواطؤا" لمصلحة إسرائيل. وذكر وجود ميليشيات إيرانية في أربع دول عربية يصبح "خيانة"، والتذكير بمئات آلاف الشهداء في سوريا واليمن والعراق الذين قتلتهم إيران أو ميليشيات تابعة لها يصبح "استهتارا بدماء الفلسطينيين"، بل يجب اعتبار الأمر مجرد خلاف سياسي يجب تأجيل الحديث عنه الآن.

ما يحصل منذ السابع من أكتوبر هو أيضا "طوفان"... طوفان ضد الرأي الآخر

لم يكتف هؤلاء بأن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، بل حولوا معركتهم باتجاه آخر، وهؤلاء ليسوا أفرادا كما قد يظن البعض، وإن كان من بينهم بعض المتحمسين الغاضبين، فما يحصل منذ السابع من أكتوبر هو أيضا "طوفان"، طوفان ضد الرأي الآخر، طوفان ضد الدولة العربية، طوفان ضد الإعلام، هذا الطوفان هناك أيضا من يخطط له ويموله، وإن كانت الحرب في غزة ستنتهي عاجلا أم آجلا، فإن انعكاس الطوفان الآخر والغوغائية والتطرف الذي سينتج عنه ستكون آثاره مدمرة لسنوات، في مجتمعات يميل بعضها إلى التطرف ولا يجد حرجا في القول إن الرأي الآخر يجب إسكاته بـ"رصاصة".

هذا التطرف الذي يتسلل إلى قلوب وعقول الشباب تحت ذريعة ما يحصل في غزة قد يصل بنا إلى ما هو أسوأ من أي إرهاب آخر عرفته المنطقة، هذا الذي يدعو إلى تخوين الكل، وتكفير الكل، وتحميل الكل مسؤولية دماء الفلسطينيين، ما عدا "الجماعة" المعصومة من كل خطأ، سيجرف مجتمعاتنا لعشرات السنين إن لم يتم إيقاف آلة تخدير العقول والسيطرة عليها. هذا ما يجب أيضا التنبه إليه ومقاومته ومحاربته، قبل أن تنزلق مجتمعاتنا إلى تطرف من نوع جديد.

font change