اعترف الفنان الفرنسي هنري ماتيس بالإلهام أو كما سمّاه "الوحي" Revelation الذي أتاه من الشرق، وبالتحديد من خلال فن المنمنمات الذي تعرّف عليه من رحلاته إلى بلاد المغرب العربي التي فجّرت جميع إمكانياته، وأيضا من جداريات ونوافذ القاهرة، مثل الرقش العربي العائد إلى العصر الفاطمي. وقد أطلق الأوربيون على هذا الفن اسم "أرابيسك"، ففيه من التبسيط والمجاز والإيجاز ما ألهم ماتيس، ولا غرابة أن كتب الباحثون في خصائص أعمال ماتيس الوحشية، بأنها الشكل المبسط والموجز بالألوان الزاهية والطبيعية وغير الممزوجة، واستخدام الألوان الباردة والدافئة معا.
ولأنني من الذين يلزمون أنفسهم بالسعي وراء المناطق الخفية في الأعمال الفنية، وكل ما يثير أسئلة الكتابة واللغة والرسم والوجود، فقد أثار فن الرقش اهتمامي، وهو فن إسلامي أصيل، يحتوي على الزخارف الاسلامية في الخشب المحفور أو على الزجاج الملون أو السيراميك، لأجد الكثير من القصص الروحية، لاسيما وأن دور العبادة ومنازل العرب من مسلمين ومسيحيين في الشرق كانت تزين عبر التاريخ، بفن الرقش، فمضيت في تلك النقوش التي بدت لي خرائط متخيلة لموطن جمالي استخدمت فيه الزخرفة النباتية من أوراق وزهور وغصون، والهندسية من دوائر ومربعات ومثلثات ومستطيلات، ومزيج من حروف وأرقام، ليأخذ كل شيء بالتمدد، ومع التكرار يُنشئ وحدة زخرفية كاملة، ولتبدو اللوحة نقطة ينطلق منها المشايخ والدراويش في دوائر الذكر، من النباتات المرسومة نحو الأعلى، وكأن أفواهها تلهج بذكر الله.
هكذا نجد التجريد في فن الرقش العربي، الذي كان ملاذ الفنان المسلم قديما، مزخرفا الأشكال عن طريق الحدس وليس عن طريق العقل
غِنى المتخيل لدى ماتيس، مع الرؤية والحدس، منحته جميعا ذاكرة ثرية انفتحت لديه بممكناتها التخيلية وخياراتها الإبداعية والجمالية، وهو ما نراه في كثير من لوحاته، التي يتقاطع عندها الشكل المسطح والرقش وعناصر من الفن العربي والألوان الشرقية. وكما رأيت في زيارة إلى متحف ماتيس الواقع في مدينة نيس بجنوب فرنسا، والمحتوي على أكبر مجموعة من أعماله، فإن لوحاته تعرض جنبا إلى جنب نقوش على السيراميك والزجاج الملون وهي قطع تعبر عن الفرح وتتضمن إيقاعا موسيقيا، فتشبه الكتابات الكوفيه المُنَفّذَة على بلاط الزليج في المساجد الإسلامية، والزليج كلمة مرتبطة بالزلق، وهو فن إسلامي عريق يُنفذ على بلاط فسيفسائي بأشكال هندسية وقطع صغيرة ملونة ومركبة، لتبدو لوحة مثبتة على الجدار. إنه فن متطور منذ العصور الوسطى في مساجد الأندلس والمغرب العربي، ناهيك عن لوحات ماتيس التي تشبه سجاجيد الشرق وفن الرقش، وبالأخص بعض لوحاته الشهيرة مثل "الأحمر المُشرق"، و"المرسم الخاص"، و"امرأة في معطف أرجواني".
هكذا نجد التجريد في فن الرقش العربي، الذي كان ملاذ الفنان المسلم قديما، مزخرفا الأشكال صعودا وهبوطا عن طريق الحدس وليس عن طريق العقل، هذا إن أردنا أن نعرف سر فن الخط العربي، الذي وصفه أبو حيان التوحيدي قبل ألف عام في رسالته عن الخط، فقال: "الخط هندسة صعبة، وصناعة شاقة". وقال أيضا عن الصورة المرسومة: "أنها وحدة شائعة وغالبة وشاملة".
وبالتالي نجد الفنان العربي أو المسلم قديما يعبر عن قلقه وحزنه من خلال ذكر الله في حلقاته الصوفية، فكان ينحو نحو التجريد، والرقش، بوصفهما من أهم وسائله للتعبير عن مشاعره وعن الجمال اللانهائي في الوجود، فدمج الحروف والكلمات في مشهد خيالي مع الأشكال الهندسية والنباتية، لتصبح لديه لوحة فيها من التزويق والكلمات المسطرة، على نحو يظهر جوهر الشيء الذي بين يديه، محررا الخط والرسم من شكلهما البدائي إلى التفنن بهما، والنتيجة هي المضمون الروحي في فن الرقش في العمارة الإسلامية والعربية، ورسمه الشكل بأسلوب ينمّ عن الوحدة كحقيقة مستقلة، قائمة بحد ذاتها، لإظهار الفن الإسلامي والعربي بكل قوة.
أليست الوحدة قائمة وشاملة وبالتالي غالبة؟
فلا عجب أن فن ماتيس تأسّس على يد أستاذه غوستاف مورو، الذي كان دائما يردد على مسامع تلميذه: "الشرق هو مخزن الفنون، وقِبلة الفنان الحديث".