كيف أعادت الناصريةُ مصرَ إلى عهد المماليك؟

في "مصر الثقافة والهوية" لخالد زيادة

AFP
AFP
الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، عام 1968

كيف أعادت الناصريةُ مصرَ إلى عهد المماليك؟

في كتابه الجديد، "مصر الثقافة والهوية" - أصدره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، بيروت، 2024 - تقصى الباحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي خالد زيادة، مسائل وموضوعات متوازية ومتداخلة، مدارُها نشأة كلٍّ من الدولة والهوية والتحديث والسياسة والليبيرالية والمثقف ووظيفته ودوره، وعلاقة تلك النشأة بتكوّن الفضاء الثقافي العام في مصر الحديثة.

مادة هذا التقصي ومصدره سير وكتابات وآراء ومواقف عشرات الكتاب والمثقفين والباحثين المصريين، منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى اليوم: ابتداء مما دوّنه مؤرخ حملة نابليون بونابرت العسكرية الفرنسية على مصر (1798- 1801)، الشيخ عبد الرحمن الجبرتي (1753- 1822) في تأريخه الآني أو اليومي لها بعنوان "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". وانتهاء بثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.

وقد تكون الأحداث الأبرز التي يتمحور عليهما التقصي والعرض والتحليل، هي: تولي محمد علي باشا (1769- 1849) حكم مصر سنة 1805، ثورة 1919 المصرية الديمقراطية، والانقلاب العسكري الذي بادر إليه في العام 1952 من سُمّوا "الضباط الأحرار" المصريين. وهو كان انقلابا على النظام الملكي وسلالة محمد علي الملكية، قدر ما كان انقلابا على الليبيرالية المصرية وثقافتها. وقد سَمّى أولئك الضباط انقلابهم "ثورة 23 يوليو/تموز". ونظامهم "الجمهوري"، بنواته الأمنية والعسكرية، مستمر في حكم مصر حتى اليوم.

وإذا كان خالد زيادة قد استفاد من إقامته في القاهرة سفيرا للبنان في مصر وفي جامعة الدول العربية (2007- 2016)، فعايش الحياة السياسية والثقافية فيها، وجمع مادةَ ومصادر بحثه الواسعة، فإنه يعيد صلته الوثيقة والحميمة بمصر وثقافتها وصحافتها إلى مرحلة تفتحه الثقافي والسياسي في لبنان الستينات، عندما كانت مصر لا تزال تشكل بعدُ "نموذجا متقدما في محيطها" العربي.

تسمية المثقف في مصر وسائر البلدان العربية، شملت من حصّلوا "شيئا من ثقافة الغرب، و(شغلوا أدوارا) ووظائف لم يكن العالِم التقليدي والفقيه يقوم بها"

وإذا كان ذاك النموذج قد بدأ يتراجع ويخبو في الستينات، فإن ما عرفته مصر في مجال تحديث الأفكار والمؤسسات والممارسات السياسية والثقافية، منذ ما سُمّي "عصر النهضة العربية" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظل إشعاعه حاضرا ورائدا في البلدان العربية. وهذا ما يرصده خالد زيادة "بدءا بمرحلة القضاء (وربما الأصح القول خروج فئات اجتماعية مدينية محددة) على بنى السلطة التقليدية". ومن ثم "بناء مؤسسات الإدارة والحكم. وتأسيس جيش بدَّل علاقة المصري بالدولة. وإصدار قانون ملكية الأرض. ووضع بنية التعليم الحديث. وإنشاء المعالم الرمزية كجزءٍ من تحديد هوية الدوية" المصرية. أما الثقافة والمثقف في مصر فـ"تجاوز تأثير (هما) حدودها، وساهم في نشر نماذج ثقافةٍ حديثة في المقالة والقصة والرواية، نقلت أساليب التعبير الشائعة في أوروبا، واستخدمت الصحف لنقل ما يشهده العالم من تطورات في العلوم والتقنيات والسياسة" والفنون أيضا.

العالِم التقليدي والمثقف الحديث

وتدور معالجة الباحث مسائل الثقافة والهوية والمثقف في مصر، على أسئلة ضمنية كثيرة، متلاحقة ومتشعّبة ومتداخلة، وكذلك على مقولات تاريخية متواترة، منها:

- مقدار مساهمة المثقفين المصريين، بفئاتهم وأنواعهم ومشاربهم المتباينة، في بناء الدولة الحديثة وبلورة الفكرة الوطنية في مصر. وهل المثقفون هم من "صاغ" تلك الهوية، أم هم "شاركوا قوى أخرى في صوغها"؟

- تتفرع عن هذا السؤال أسئلة آخرى: هل "يملك المثقف الحلول لمشكلات مجتمعة، كأنه نبي معاصر؟". وهل يمكن "عزل الثقافة عن السياسة"، و"رفع المثقف فوق السياسة وتناقضات القوى السياسية"؟ وهل هو "مستقل حقيقة عن الدولة، وقادر على تحديد دوره ووظيفته بمعزل عن السلطة القائمة؟".

خالد زيادة

- تتطلب معالجة هذه الأسئلة الدخول في التأريخ الوضعي وحقبه. فتسمية المثقف في مصر وسائر البلدان العربية، شملت من حصّلوا "شيئا من ثقافة الغرب، و(شغلوا أدوارا) ووظائف لم يكن العالِم التقليدي والفقيه يقوم بها". وكان خالد زيادة قد وضع لهذه المسألة كتابا سابقا: "الكاتب والسلطان: من الفقيه إلى المثقف"، (دار رياض الريس للكتب والنشر)، بيروت، سنة 1991.

-ففي أزمنة ما قبل التأثر بالحداثة وبالتحديث الغربيين، كانت مهمة الدولة العربية والإسلامية التقليدية تقتصر على فرض الضرائب وجمعها من الأهالي والجماعات في الأمصار والولايات المشمولة برعايتها. وكان يتولى ذلك جهاز كتّابها (القلمِيّة، أو أهل القلم)، فيما يتولى العسكر (السّيفيّة، أو أهل السيف والحرب) مهمة فتوح البلدان والدفاع عنها. أما شؤون القضاء و"الشريعة وتدريسها والعمل بأحكامها" فيتولاها العُلَماء (العَلَميَّة، أو أهل العلم والفقه الشرعيين)، "الذين (كانوا) جسما يتمتع باستقلال نسبي" عن السلطان السياسي، "وفق تقليد" رسّخته الدولة المملوكية (1250- 1516).

-ويرى الباحثُ أن الحقبة المملوكية كانت الأبرز في تاريخ مصر، "من حيث ارتفاع شأن العلماء، (عندما) أصبحوا قادة الأهالي وشركاء في السلطة في حقبة اتسمت بخصوبة الدراسات العربية والفقهية والمعجمية". وهذا على خلاف الحقبة العثمانية (1516- 1850) التي "تراجع (فيها) شأن العلماء وركدت الحياة العلمية في مصر"، وفق تأريخ الجبرتي للحملة الفرنسية عليها.

- وضع محمد علي باشا نهاية لدور العلماء والفقهاء، فـ"ألزمهم أداء وظيفة التدريس" الديني، وعمل على إعداد خبراء في الإدارة والتعليم المدني، وفي تنظيم الجيش. وقد تميز هؤلاء بـ"خبراتهم الحديثة التي تلقوها في معاهد فرنسا، أو من خبراء فرنسيين"، أمثال رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) وعلي مبارك (1820- 1893) في عهد الخديوي إسماعيل (1830- 1895)، الذي قد يكون الأبرز في سلالة محمد علي الملكية، على صعيد الحداثة والتحديث في مصر، بعد توليه العرش ما بين 1869- 1879.

-هؤلاء الخبراء الجدد، هم من شغلوا دور المثقف الحديث وقاموا بوظائفه في دولة محمد علي وسلالته. ويرى خالد زيادة أن هذا المثقف "ورث طرفا من وظائف العالِم (التقليدي)، واستحوذ على وظيفة كاتب الديوان" في الدولة التقليدية الآفلة. لكنه "على عكس (ذاك) العالِم، يدين بوجوده إلى مشروع الدولة الحديثة (التي) عمل في مؤسساتها، أكان مواليا أو معارضا" لسياساتها.

-لكن كاتب "مصر الثقافة والهوية" يعتبر أن "فكرة المثقف المستقل مجرّد استعارة رمزية" أكان مواليا أو معارضا للدولة. وذلك لأن الدولة الحديثة "استحوذت" على مناحي الحياة كلها "في الفضاء الاجتماعي العام"، فأنشأت لإدارته مؤسسات عامة، تقوم بجمع الضرائب وتوفير الأمن، وتشرف على القضاء والتعليم والعمران. أي على شؤون الحياة اليومية للناس جميعا وأفرادا. وبهذا نشأت فكرة المواطن الفرد المسجّل في سجلات مؤسسات الدولة، للولادات، والتعليم، والجندية، والعمل.

- من فكرة سيادة الدولة وقوانينها على أرضها ومواطنيها في مداها الجغرافي - الترابي، وُلِدَ المواطن، وبزغت فكرة الوطن والوطنية، المستندة إلى قوى اجتماعية وسياسية متنوعة في مصالحها ومشاربها، لكن المتماسكة في إجماعها على فكرة سيادة الدولة والقانون. وهذا ما يساهم المثقف الحديث في صوغه والتعبير عنه.

-كانت تجربة مصر "نموذجا متقدما في محيطها" في هذا المجال، منذ بدايات القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين. وهي "نشرت إشعاعها شرقا وغربا في العالم الناطق بالعربية، من دون اقتصار ذلك الإشعاع على نشرها الأفكار الليبيرالية، (بل كانت) سبّاقة في نشر الأفكار الإصلاحية. واستمرت ريادتها الثقافية (والفنية) حتى نهاية الستينات".

الليبيرالية والناصرية

يتقصى زيادة في بحثه حقبتين: الحقبة الليبيرالية التي كان للثقافة والمثقفين دور بارز ورائد فيها. والحقبة التي تلتها وأدت - ربما بسبب أزمة الليبيرالية المصرية وفي العالم العربي - ليس إلى تخثّرها وجمودها في مصر ودنيا العرب فحسب، بل إلى التراجع عنها ونزعها تحت لواء شعارات "التحرر والوحدة ونزع الاستعمار"، وبواسطة انقلابات عسكرية، سُمّيت "ثورة" وتصدّر نموذجها المصري الضابط - الزعيم - القائد الخالد جمال عبد الناصر، بخطابته الإذاعية الملتهبة.

وضع محمد علي باشا نهاية لدور العلماء والفقهاء، فـ"ألزمهم أداء وظيفة التدريس" الديني، وعمل على إعداد خبراء في الإدارة والتعليم المدني

لكن مادة البحث في هاتين الحقبتين، هي تكوّن المثقفين المصريين، وعرض أفكارهم ومواقفهم وتحولاتهم، وأدوارهم وصلاتهم بالدولة والمجتمع وبالسياسة والحياة السياسية، وبصوغ الهوية المصرية.

shutterstock
تمثال لمحمد علي باشا في قلعة صلاح الدين الأيوبي

وكان دور الثقافة والمثقفين بنماذجهم التكوينية وتياراتهم المتباينة، بارزا وأساسيا في الحقبة الليبيرالية في التربية والتعليم والتيارات الفكرية والسياسية ونشوء الأحزاب والصحافة وتعدّد الرأي. أما في حقبة "نزع الليبيرالية" فاتخذ دور الثقافة والمثقفين وجهة مختلفة ومغايرة للأولى. وهذا بعدما "أمّمَ" نظام الانقلاب العسكري الناصري الثقافة والحياة الثقافية والسياسية والصحافة والرأي، وحلّ الأحزاب، وهمَّش المثقفين وأقصاهم، أو استتبعهم وألحقهم بسلطته الأمنية والعسكرية.

أما الهوية المصرية فصاغها النظام الناصري صوغا جديدا: ألبَسَ الوطنية المصرية بتياراتها المتعددة لباسا قوميا عربيا موحدا، ظلت الوطنية المصرية بطانته الداخلية التي يشكّل الجيش نواتها الأساسية الصلبة. والأرجح أن ذلك النظام، لم يضع خاتمة قاتمة لليبيرالية السياسية والثقافية في مصر وحدها، بل في المشرق العربي وفي ليبيا والسودان.

وإذا كان الجيش قد سيطر على الدولة والمجتمع في الحقبة الناصرية (1952- 1970) وما تلاها حتى اليوم، فإن النظام الناصري استمر في توظيف الريادة الثقافية والفنية المصرية وإشعاعها الليبيرالي السابق في العالم العربي، لصالحه. وهذا ما سُمّي "قوة مصر الناعمة" التي اندمجت بالخطابة الناصرية القومية الإذاعية والجماهيرية. وذلك بعد حرب السويس سنة 1956، وما تلاها من حقبة "الجمهورية العربية المتحدة" المصرية - السورية (1958- 1961)، وصولا إلى هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967، تلك التي وضعت بداية النهاية للحقبة القومية العربية بنسختها الناصرية بوفاة عبد الناصر المأسوية المفاجئة سنة 1970.

عهد إسماعيل وثورة 1919

يعتبر كتاب خالد زيادة في فصوله التسعة وخاتمته، قراءة جامعة في نتاج وكتابات عشرات المثقفين المصريين. وتستعرض الفصول الأربعة الأولى الحياة الثقافية المصرية ونتاج مثقفيها منذ نشأة دولة محمد علي التي كان تنظيم الجيش وتحديثه ركنها الأساس، تمهيدا لتراجع دوره لصالح بناء مؤسسات وحياة سياسية حديثة في عهد حفيده الخديوي إسماعيل الذي حدّث الإدارة ونظام الملكية والعمران، وخصوصا في القاهرة والإسكندرية. وهذا ما أتاح ظهور الثقافة الليبيرالية والمثقف الليبرالي، والفكرة الوطنية المصرية التي تجلت في ثورة 1919 الديمقراطية.

AFP
تمثال برونزي لنابليون بونابرت

فعصر إسماعيل (1869- 1879) بلور طبقة ملاك من أصول مصرية وغير مصرية، حازوا ملكيات وراثية. وبلور أيضا مجالس تشريعية وتنفيذية حكومية، تصدرها إداريون غير مصريين سرعان ما تمصّروا، وأصبحوا أشد المعبرين عن كيان مصري مستقل عن الدولة العثمانية. ونشأت في هذه الحقبة مدرسة الحقوق، والصحافة السياسية والأدبية التي شارك في تأسيسها مصريون ولبنانيون هاجروا إلى مصر. وكان الشيخ علي مبارك من رموزها، وهو متأثر بالثقافة والعلوم الأوروبية، شأن رفاعة الطهطاوي الذي سعى إلى "فهم جديد للشريعة الإسلامية في ضوء المفاهيم الحديثة". أما إقامة جمال الدين الأفغاني وحضوره في مصر (1871- 1879) فساهما في ريادة مصر الإصلاح الإسلامي الذي كان للشيخ محمد عبده، تلميذ الأفغاني ورفيقه، دور بارز فيه. وكان لإقامته في أوروبا تأثير فاعل في "اقتناعه بأن اكتساب المعارف الحديثة" لا يتحقق "بالثورة، بل بالتربية الطويلة الأمد".

ويرى زيادة أن الإمام محمد عبده كان "ليبيراليا". وهذا ما تجلى في "تأثر قاسم أمين، داعية تحرير المرأة، به"، إضافة إلى تأثيره بكل من أحمد لطفي السيد وسعد زغلول زعيم "الوفد" وثورة 1919 الديمقراطية. وكانت السنوات الأخيرة من عهد الخديوي إسماعيل قد شهدت ظهور جمعيات، منها "مصر الفتاة" التي اتخذت طابعا حزبيا وتأسست في الإسكندرية سنة 1878، متأثرة بأفكار الأفغاني، وبجمعية "تركيا الفتاة". والجمعيات هذه "مهدت لتطور الاتجاهات الرئيسة في الوطنية المصرية التي أظهر مصطفى كامل (1874- 1908) موهبة كبيرة في التعبير عنها". لكن هذه الوطنية ظلت حتى بدايات القرن العشرين "موضع نزاع بين اتجاهين": اتجاه يربط مصر بامتدادها العثماني، وآخر يؤكد أن لمصر هوية قائمة بذاتها. أما "التطورات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وقيام ثورة 1919، فمثلت انتصار الاتجاه الداعي إلى استقلال مصر كوطن للمصريين".

الأرجح أن نظام عبد الناصر، لم يضع خاتمة قاتمة لليبيرالية السياسية والثقافية في مصر وحدها، بل في المشرق العربي

وشكلت ثورة 1919 منعطفا حاسما في تاريخ مصر الحديث، اختزن ما أحرزته من تطور طوال القرن التاسع عشر، في الاجتماع والسياسة والثقافة. وهنا يلاحظ زيادة تميّز تلك الثورة وريادتها مقارنة بالثورات التي زامنتها: فهي "لم تكن ثورة ضباط مثل الانقلاب الدستوري في الدولة العثمانية (1908). ولا كانت نتيجة اتفاق سري" شأن ما سمي "الثورة العربية الكبرى" في الحجاز وبلاد الشام (1916)، والتي قامت بفعل ذاك الاتفاق بين الشريف حسين والبريطانيين. كما لم تكن "ثورة خطط لها حزب ثوري مثل الحزب البلشفي في روسيا" (1917). لقد كانت تلك الثورة المصرية ثورة شعبية شاركت فيها أطياف المجتمع المصري، وامتلكت قيادة حاضرة لتولي المسؤولية. وهي "غيرت تعريف المثقف ودوره. فما عاد الفقيه الأزهري، ولا الخبير من خريجي معاهد محمد علي"، بل صار يشمل الكتّاب والصحافيين والمتأدبين والأكاديميين، و"أفسحت المجال للأقباط ليكونوا جزءا من الهوية الوطنية المصرية".

وهكذا مهدت تلك الثورة لعقود ثلاثة من الليبيرالية المصرية الخصبة التي تجاوز إشعاعها مصر في الثقافة والصحافة والفنون إلى العالم العربي. لذا يفرد خالد زيادة في كتابه فصلا أساسيا (الرابع) عنوانه "الثقافة الهوية"، يستعرض فيه الكتابات والمؤلفات التي زامنت ثورة 1919 وأعقبتها في مجالات التأريخ والاجتماع والسياسة والهوية، لكن أثر تلك الثورة لم يؤدِّ إلى "انتشار التعليم انتشارا واسعا بين المصريين"، حسب ملاحظة سلامة موسى (1887- 1958)، الذي يذكر أن "مصر كلها لم يكن فيها سوى 300- 400 تلميذ اجتازوا الشهادة الابتدائية سنة 1903، و3 مدارس ثانوية كان نظامها أشبه بنظام ثكنات عسكرية يتسلط عليها الإنكليز". أما زيادة فيلاحظ أن "الجدالات بشأن هوية مصر، أهي فرعونية أم متوسطية، عربية أم إسلامية؟ فكانت في الأغلب جدالات تدور بين مثقفين، ويتأثر بها قراء من دون تحولها إلى تيارات سياسية".

أفول الليبيرالية

ابتداء من الفصل الخامس يتقصى كتاب زيادة أفول الليبيرالية في مصر. فيستعيد فكرة أحمد أمين عن "الشرخ بين العلم التقليدي والعلم الحديث". وهو يسمّي هذا الشرخ "الحلقة المفقودة" التي يفترض أن تدمج ثقافة القرون الوسطى التقليدية الدينية بثقافة متخرجي المدارس العصرية والبعثات الأوروبية، دمجا متوائما ومتماسكا. وتجلى ذاك الانفصال أيضا بين القاهرة التقليدية القديمة، قاهرة الحارات والأهل والأسواق والحرف والفقراء، وبين قاهرة إسماعيل الأوروبية الحديثة. وفي السياق نفسه تلاحظ نيللي حنا انفصال طبقة الملاك وأصحاب الأعمال بقيمها الليبيرالية التي صاغت دستورا يناسب مصالحها والوصول إلى الحكم، عن عامة الشعب وطبقته الفقيرة.

ووصف هنري عيروط مصر بأنها بلد زراعي، حيث أبناء المدن لا يعرفون الريف. والفلاحون لا يعرفون المدينة. وفئة كبار الملاك مغايرة لبيئة الموظفين. وطائفة الأزهر لا تتصل ببيئة الجامعة الملكية الحديثة. والباشوات الذين تعود ثروتهم إلى إنتاج الأرض وجهد الفلاح، يحتقرون الفلاحين إلى حدّ أن كلمة فلاح تستخدم للشتيمة.

وفي هذا المناخ الاجتماعي نشأت سنة 1928 جماعة الإخوان المسلمين، فتحولت منظمة سياسية سنة 1939، بعدما اكتسبت أعضاء وأنصارا في المحافظات المصرية. وفي سنة 1930 نشأت جمعية "مصر الفتاة" وتحولت إلى حزب سياسي سنة 1937. وهذا دليل على أن الجيل الجديد من الطبقة الوسطى لم تعد الأحزاب المتنازعة على السلطة في الحقبة الليبيرالية، تؤثر في وعيه وسلوكه. وأدى ظهور الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا إلى اهتزاز الأفكار الليبيرالية في أوروبا، وإلى ضعف دعاتها في مصر. وهذا بعدما كان تيار الإصلاح الإسلامي قد استند إلى المد الليبيرالي، وصاغ إسلاما حداثيا يواكب العصر وحرية الفرد والتعددية السياسية. أما الأفكار الشيوعية فانتشرت في مصر بين الأجانب من يونان وطليان ويهود، وبين عمال أحواض السفن والموظفين في شركة قناة السويس.

أدى ظهور الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا إلى اهتزاز الأفكار الليبيرالية في أوروبا، وإلى ضعف دعاتها في مصر

كان المنتسبون إلى جماعة الإخوان المسلمين من المتعلمين تعليما تقليديا والمتضررين بفعل أزمة 1929 الاقتصادية العالمية. وثورة 1936 الفلسطينية منحت الجماعة زخما شعبيا بسبب الشعارات الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية إلى فلسطين. ولاحظت عفاف لطفي السيد أفولا تدريجيا للمثقف الليبيرالي، وظهورا للداعية العقائدي، بفعل إخفاق المشروع التربوي الذي طبع الثقافة المصرية من أيام الطهطاوي إلى أيام طه حسين.

الديكتاتورية الناصرية

قبل التحاقه بالكلية الحربية سنة 1937، انتسب جمال عبد الناصر (1918- 1970) إلى حزب "مصر الفتاة". كان آنذاك طالبا في القاهرة منذ سنة 1933. وكانت شعارات ذاك الحزب تحض على الروح الوطنية والعداء للأجانب، ومتأثرة بالفاشية وبالدعوة إلى الاغتيالات السياسية. وكان عبد الناصر قارئا مثابرا لسير القادة الأبطال أمثال هنيبعل والإسكندر ونابليون. وما لبث أن ابتعد عن "مصر الفتاة" ليلتقي بضباط ينتمون إلى الإخوان المسلمين. فدعي مع خالد محيي الدين للقاء مرشد الجماعة حسن البنا الذي دعاهما إلى الدخول في تنظيمها السري. ويصف محيي الدين ذاك اللقاء على النحو الآتي: "أدخلونا إلى غرفة مظلمة فسمعنا صوتا... ووضعنا يدنا على مصحف ومسدس، ورددنا خلف الصوت يمين طاعة المرشد، وأعلنا له بيعتنا الكاملة، وكان ذلك في العام 1944".

AFP
صورة تجمع "الضباط الأحرار" في القاهرة عام 1952

نجحت حركة "الضباط الأحرار" في انقلابها واستيلائها على السلطة في 23 يوليو/ تموز 1952، وفي العام 1954 تصاعدت الاعتراضات على حكمها الديكتاتوري الذي تجلى بإعلان الأحكام العرفية التي أُلغيت بسبب الاحتجاجات. وجاء ذلك التراجع ظرفيا، حسب رواية خالد محيي الدين الذي قال له عبد الناصر: "لما لقيت المسألة مش نافعة، قررت التحرك. كلفني ذلك 4 آلاف جنيه، لحشد قطاعات عمالية في تظاهرات تهتف: تسقط الديمقراطية، تسقط الأحزاب". وكتب عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" ما يلي: "كانت ثورة 23 يوليو/ تموز تحقيقا لأمل كبير راود شعب مصر منذ بدأ العصر الحديث. (...) الأمة كلها كانت متحفّزة وتنتظر الطليعة، لتندفع وراءها صفوفا متراصة تزحف زحفا مقدسا إلى الهدف الكبير". وهكذا عيّش عبد الناصر الأمتين المصرية والعربية في حال الوجد الصوفي بخطابته حتى هزيمة حزيران/ يونيو 1967.

وكتب خالد زيادة استنادا إلى كل من لويس عوض وشريف يونس أن "ثورة يوليو/ تموز لا يمكن اعتبارها امتدادا لتجربة مصر التحديثية، ولا امتدادا لثورات شعب مصر من عمر مكرم إلى أحمد عرابي إلى سعد زغلول. فهي صفّت الإرث التحديثي، والتعددية الثقافية والسياسية والتربوية، أي الإرث غير المادي الذي حققته مصر في ثلاثة أرباع القرن". ويرى لويس عوض أن نظام عبد الناصر "دمر بعض أسس المجتمع الراقية التي بناها المصريون في قرنين، باحتكاكهم بالحضارة الأوروبية، وبمبدأ الحريات الديمقراطية، وفصل الدين عن الدولة، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون والأمة على الحكومة، وحرية الاجتماع والعمل والتفكير والتعبير والاختيار". وهكذا أتت مصر الناصرية على خلاف أو عكس ما وعد به عبد الناصر المصريين. فبدل وعده بإخراج مصر من عزلتها، عزلها عما يجري في العالم في ميادين العلم والسياسة والثقافة. وبهذا أعادت الناصرية مصر إلى عصر ما قبل تجربتها التحديثية، في ما يشبه العودة إلى حقبة حكم المماليك.

font change

مقالات ذات صلة